لقد أظهر التاريخ دوما حاجة البشر، لأن يحلموا وأن يؤمنوا بشيء أو قيمة أعلي مما يعاركونه في انشغالاتهم اليومية، ولكن ليس بمقدور كل فرد أن يصوغ أفكارا للمستقبل أو أن يعبر باقتدار عن مشروع وطني متميز أو أن يحفز الناس ويعبئ مشاعرهم للتحرك نحو تحقيق طموحاتهم المشروعة، ولعل تلك هي مسؤولية المثقفين الذين من واجبهم استلهام التراث وحكمة الماضي المتراكمة وتفهم الظروف والمعطيات التي تحكم الحاضر وتقديم صورة مقنعة ومحفزة للمستقبل الذي يتعين السعي بدأب لبلوغه، وذلك سواء بالكلمة أو بالصورة أو بالحديث أو بالفعل والحركة.
والمثقف كما أشار من قبل جان بول سارتر هو موقف «ATTITUDE»
والمثقف كما أشار من قبل جان بول سارتر هو موقف «ATTITUDE»
، وليس مهنة «METIER»
، فلا توجد طائفة اسمها «المثقفون»، ولكن هناك مواقف وأوضاعا يتدخل ويؤثر فيها أشخاص لديهم تصميم والتزام بالدفاع عما يعتقدونه الحق والخير والصالح العام، ولذا يتعين التمييز بين المثقف والسياسي،
فالأول يجسد المثالي والمطلق، والثاني يعبر عن الواقعي والممكن، ولهذا السبب فإن المثقف بطبيعته أميل لمعارضة السلطة، لأن من واجبه أن يظهر الفجوة بين الأوضاع المثالية والإنجازات الواقعية، أو بتعبير آخر بين ما يجب أن يكون وما تحقق علي أرض الواقع، فالمثقف الحقيقي هو الضمير الجمعي الذي يسمو فوق المشاغل والصراعات والاهتمامات اليومية العابرة، وبتعبير رومان رولاند فالمثقف يشعر بأنه «مسؤول عن العالم وعن نفسه»، إنه إذن علي إثر اختيار أخلاقي إرادي نصبح مثقفين، رغم ما يفرضه هذا الاختيار من مشقة وصعوبات لتعارضه مع الأوضاع والمصالح التي تحيط بنا، والقضاء علي هذا التعارض ليس ممكنا إلا باختفاء المثقف كـ «وضعية أو كموقف» أو تغير أحوال المجتمع.
فإذا تقاعس المثقفون عن القيام بهذا الدور فسيفقد المجتمع فرص الإصلاح والتطوير التي لا غني عنها في مسيرته عبر التاريخ، ولهذا فإن من ألح واجبات المثقفين صياغة المشروع الوطني وعرضه للحوار العام بموضوعية وتجرد، وبعيدا عن الانتهازية والنرجسية التي كثيرا ما تظهر أعراضها علي بعض المثقفين في الفترات الانتقالية التي تهتز فيها القيم وتغيم فيها مشاعر الانتماء والوطنية، ومما يزيد الأمر تعقيدا أن الدور الرائد للمثقفين كان تاريخيا مرتبطا بالتعليم المتميز والثقافة العالية والنظرة الناقدة والرؤية الملهمة التي يتمتع بها هؤلاء، ومن ثم كان تأثيرهم المدوي علي الرأي العام وعلي مشاعر الجماهير.
أما اليوم فمع انتشار وسائل الإعلام وتعدد أدواتها أصبحت الفرصة متاحة لكل شخص، مهما كان نصيبه من التعليم الجاد أو الثقافة الحقيقية أو الرؤية العميقة الواضحة، أن يتصدر الخطاب العام وأن يمارس تأثيره السلبي أو الإيجابي علي حركة الجماهير، ومن هنا حدث خلط ضار بين المثقفين الحقيقيين والمثقفين المزيفين وأصبحت تأثيرات الطائفة الأخيرة علي حركة المجتمع سلبية وضارة بشكل يفوق أحيانا التأثير الإيجابي للقلة الصامدة من المثقفين الحقيقيين المخلصين الذين لم يتخلوا عن التزاماتهم الأخلاقية والفلسفية.
وإذا تساءلنا: هل هناك مثقفون سيئون أو مزيفون فإن الإجابة هي نعم، ففي جميع المجتمعات هناك من المثقفين من يندفع بسبب أنانيته وشهوته لتحقيق المكاسب لاستغلال جهل الناس والتلاعب بأفكارهم ومشاعرهم، ويعمل هؤلاء الفسدة علي فرض الأفكار التي يساندونها بإصرار دون أن يسمحوا بأي قدر من الحوار أو المعارضة، ففي عقيدتهم أن كل الوسائل مباحة لتحقيق المنافع الشخصية، وهو ما يشجع استمرار وتعسف الدكتاتورية المقنعة أو الصريحة أو بزوغ فوضي ثقافية تهتز فيها القيم الإنسانية ويختلط فيها الحق وبالظلم والمشروع بغير المشروع والعام بالخاص. ويعتبر البعض هذا النوع من المثقفين سلاحاً شيطانياً ينشر الكذب ويغذي النفاق ويطعن الحقيقة ويهدم كيان المجتمع الأخلاقي والثقافي والسياسي.
ويشبه البعض المثقف الحقيقي بأنه كالفنار، دوره هو تحرير العقول من القهر والضغط والانغلاق والتحيز والتزمت وعدم التسامح، ويتميز المثقف الحقيقي بالتواضع وإنكار الذات مع حيازة رؤية عميقة لأحوال المجتمع ومشاكله وتحدياته، كما يتميز بحيازته أدوات مهمة في سعيه لهداية مجتمعه نحو مستقبل أفضل، أبرزها الصدق والإخلاص والحوار والسعي الصريح لقيم المساواة والعدالة والتقدم.
ولإصلاح مجتمعنا نحن في أمس الحاجة إلي المثقفين الحقيقيين، الذين هم وحدهم القادرون علي التأمل في أوضاعنا السائدة والتبصر المتعمق في الحلول الممكنة لمشاكلنا وتكوين الرؤية الشاملة وتعبئة المعرفة اللازمة لنجاح برامج الإصلاح والتطوير. وقد يعتقد البعض بسذاجة أن الإجراءات الجزئية والقرارات المتخبطة التي تصدر هنا أو هناك، تحت وطأة المشاكل الطارئة والمتغيرات العابرة، قد تكفي لتسيير أمور المجتمع فترة وراء أخري ولكن هذا تصور خاطئ ستكون انعكاساته سلبية في المدي الطويل.
فمهمة المثقف الأساسية هي أن يقدم رؤية تضع نصب عينيها المدي الطويل وليس فقط أن تقتصر علي النظر للزمن القصير، وأن يطرح حلولاً كلية متكاملة قائمة علي منهج علمي رصين وليس حلولاً ترضي أصحاب الأصوات العالية وتنبني علي الفهلوة والتدليس. المثقف الحقيقي هو في واقع الأمر مفكر صاحب رؤية عميقة وليس مجرد تكنوقراطي أو متخصص قد يجيد التنفيذ أكثر مما يجيد التأمل والتفكير وتبني الرؤية الشاملة المتعمقة. ويقود الخلط في أدوار الفئتين إلي نتائج وخيمة في بعض الأحيان علي نحو ما نشاهده هنا وهناك. فحاجة المجتمعات المعاصرة للمفكرين والمثقفين تبدو اليوم أكثر إلحاحاً مما كان عليه الأمر في الماضي، بالنظر للضغوط التي تفرضها العولمة وهيمنة الرأسمالية علي الصعيد الاقتصادي والطابع البيروقراطي المتزايد للمجتمعات المعاصرة والتأثير المتزايد للمال والتكنولوجيا علي الحياة الإنسانية.
والمراقب لأحوالنا في السنوات الأخيرة يري مدي حاجتنا لجهد المثقفين الحقيقيين المخلصين والمتجردين عن الذات والمنشغلين بالشأن الوطني، خاصة لصياغة تصورنا لمستقبل مصر في ظل المتغيرات العالمية والإقليمية والداخلية سريعة الإيقاع. إن الضجيج الصاخب وردود الأفعال المتسرعة أحياناً والجامدة أحياناً أخري تظهر هشاشة دور المثقفين في الآونة الأخيرة.
ولنتذكر كيف كان رواد التنوير والثقافة يقودون حركة المجتمع منذ بدايات القرن العشرين وحتي أواخره، ليس فقط الأسماء الأكثر شهرة مثل أحمد لطفي السيد والدكتور هيكل والعقاد والدكتور طه حسين وسلامة موسي والدكتور السنهوري، ثم في مرحلة لاحقة يحيي حقي ونجيب محفوظ ود.يوسف إدريس ود.زكي نجيب محمود وغيرهم من مشاهير المثقفين، ولكن أيضاً المئات وربما الآلاف من المثقفين المبدعين والأكاديميين والناشطين الذين شاركوا بدأب وجدية رغم تباين توجهاتهم الفكرية والسياسية في صياغة نهضة مصر وريادتها في مختلف المجالات.
ولا يمكن أن ننتظر من المثقفين رؤي متوافقة وآراء متناسقة، فبينهم كانت وستكون دائماً خلافات جوهرية، ولكن المهم هو أن نحصل علي مشاركاتهم علي اختلاف أطيافهم في الحوار العام، وأن نستفيد من أفكارهم المبتكرة وانتقاداتهم البناءة، وأن نحفزهم لممارسة دورهم الحيوي في رفع مستوي الوعي العام وتشجيع المبادرات الفردية والجماعية للخروج من حالة السلبية وعدم الاكتراث السائدة.
إذن، ماذا حدث لنا ولحركتنا الثقافية رغم وجود العديد من المثقفين المرموقين بيننا حتي الآن؟ ولماذا يفتقد المجتمع تأثيرهم علي حركته اليومية ونهضته المأمولة؟ ولماذا يعلو الصخب والضجيج بحيث يتراجع المفيد والجاد والجوهري ويفقد أولويته لصالح المزيف والهامشي والعابر؟
إن الوقت مناسب الآن لمراجعة النفس وتحكيم الضمير والخروج من الحلقة المفرغة للانشغالات اليومية والصراعات غير الجوهرية والاتهامات الجزافية لنتفرغ كمثقفين لما هو أكثر جدية وهو مستقبل بلدنا. ولنبدأ بالنظر للآخر كشريك في هذا المستقبل وليس كعدو يتعين تحطيمه والقضاء عليه بكل الوسائل والدعاوي المتاحة، مشروعة كانت أو غير مشروعة، مزيفة كانت أو حقيقية.
ولنعترف بأن مسرحنا السياسي والثقافي بعيد تماماً عن استيفاء معايير الكفاءة والجودة المتعارف عليها دولياً، وتلك مسؤولية مشتركة لكل القوي السياسية المتواجدة علي هذا المسرح، في الأغلبية والمعارضة، الرسمية وغير الرسمية علي حد سواء. لابد من الإقرار بأن الفاعلين علي هذا المسرح ليسوا جميعاً ملائكة ولكنهم أيضاً ليسوا جميعاً فاسدين، وأن الحوار الجاد بينهم ومع الرأي العام يعد أقصر الطرق لإجلاء الحقائق دون تستر ودون اتهام باطل وتشويش مقصود أو غير مقصود.
ولندرك أنه في الفترات الانتقالية حيث تهتز القيم ويتدهور المستوي الأخلاقي العام وتضعف مفاهيم الانتماء والترابط والتماسك الاجتماعي تظهر الحاجة بشكل أكثر إلحاحاً لدور المثقفين في إعادة الاعتبار لهذه القيم وصياغة معاييرها وتعبئة المشاعر حول النهوض بها، ولعل البعض يتساءل بمشروعية عن دور المثقفين المصريين في إعادة تأكيد قيم لا ينازع فيها عاقل في أي مجتمع، مثل المساواة بين المواطنين واحترام القانون والحرص علي النظام والنظافة العامة ومحاربة الفساد والمحسوبية والاستسهال وعدم الكفاءة، وترسيخ الديمقراطية ونشر اللامركزية واحترام حقوق الإنسان، والتحديث والتطوير المتواصل لهياكل المجتمع ومؤسساته؟
إن الوقت الذي نؤجل فيه الإصلاح الحقيقي ونضيعه في الاتهامات والمهاترات المتبادلة المسيسة أو المشخصنة أو الساعية للمنفعة الخاصة، سيشكل عبئاً علي مستقبلنا يدفع ثمنه جميع المواطنين، ويتحمل مسؤوليته بالدرجة الأولي مثقفو هذا الجيل أمام الله والوطن وضمائرهم وأمام الأجيال اللاحقة
فالأول يجسد المثالي والمطلق، والثاني يعبر عن الواقعي والممكن، ولهذا السبب فإن المثقف بطبيعته أميل لمعارضة السلطة، لأن من واجبه أن يظهر الفجوة بين الأوضاع المثالية والإنجازات الواقعية، أو بتعبير آخر بين ما يجب أن يكون وما تحقق علي أرض الواقع، فالمثقف الحقيقي هو الضمير الجمعي الذي يسمو فوق المشاغل والصراعات والاهتمامات اليومية العابرة، وبتعبير رومان رولاند فالمثقف يشعر بأنه «مسؤول عن العالم وعن نفسه»، إنه إذن علي إثر اختيار أخلاقي إرادي نصبح مثقفين، رغم ما يفرضه هذا الاختيار من مشقة وصعوبات لتعارضه مع الأوضاع والمصالح التي تحيط بنا، والقضاء علي هذا التعارض ليس ممكنا إلا باختفاء المثقف كـ «وضعية أو كموقف» أو تغير أحوال المجتمع.
فإذا تقاعس المثقفون عن القيام بهذا الدور فسيفقد المجتمع فرص الإصلاح والتطوير التي لا غني عنها في مسيرته عبر التاريخ، ولهذا فإن من ألح واجبات المثقفين صياغة المشروع الوطني وعرضه للحوار العام بموضوعية وتجرد، وبعيدا عن الانتهازية والنرجسية التي كثيرا ما تظهر أعراضها علي بعض المثقفين في الفترات الانتقالية التي تهتز فيها القيم وتغيم فيها مشاعر الانتماء والوطنية، ومما يزيد الأمر تعقيدا أن الدور الرائد للمثقفين كان تاريخيا مرتبطا بالتعليم المتميز والثقافة العالية والنظرة الناقدة والرؤية الملهمة التي يتمتع بها هؤلاء، ومن ثم كان تأثيرهم المدوي علي الرأي العام وعلي مشاعر الجماهير.
أما اليوم فمع انتشار وسائل الإعلام وتعدد أدواتها أصبحت الفرصة متاحة لكل شخص، مهما كان نصيبه من التعليم الجاد أو الثقافة الحقيقية أو الرؤية العميقة الواضحة، أن يتصدر الخطاب العام وأن يمارس تأثيره السلبي أو الإيجابي علي حركة الجماهير، ومن هنا حدث خلط ضار بين المثقفين الحقيقيين والمثقفين المزيفين وأصبحت تأثيرات الطائفة الأخيرة علي حركة المجتمع سلبية وضارة بشكل يفوق أحيانا التأثير الإيجابي للقلة الصامدة من المثقفين الحقيقيين المخلصين الذين لم يتخلوا عن التزاماتهم الأخلاقية والفلسفية.
وإذا تساءلنا: هل هناك مثقفون سيئون أو مزيفون فإن الإجابة هي نعم، ففي جميع المجتمعات هناك من المثقفين من يندفع بسبب أنانيته وشهوته لتحقيق المكاسب لاستغلال جهل الناس والتلاعب بأفكارهم ومشاعرهم، ويعمل هؤلاء الفسدة علي فرض الأفكار التي يساندونها بإصرار دون أن يسمحوا بأي قدر من الحوار أو المعارضة، ففي عقيدتهم أن كل الوسائل مباحة لتحقيق المنافع الشخصية، وهو ما يشجع استمرار وتعسف الدكتاتورية المقنعة أو الصريحة أو بزوغ فوضي ثقافية تهتز فيها القيم الإنسانية ويختلط فيها الحق وبالظلم والمشروع بغير المشروع والعام بالخاص. ويعتبر البعض هذا النوع من المثقفين سلاحاً شيطانياً ينشر الكذب ويغذي النفاق ويطعن الحقيقة ويهدم كيان المجتمع الأخلاقي والثقافي والسياسي.
ويشبه البعض المثقف الحقيقي بأنه كالفنار، دوره هو تحرير العقول من القهر والضغط والانغلاق والتحيز والتزمت وعدم التسامح، ويتميز المثقف الحقيقي بالتواضع وإنكار الذات مع حيازة رؤية عميقة لأحوال المجتمع ومشاكله وتحدياته، كما يتميز بحيازته أدوات مهمة في سعيه لهداية مجتمعه نحو مستقبل أفضل، أبرزها الصدق والإخلاص والحوار والسعي الصريح لقيم المساواة والعدالة والتقدم.
ولإصلاح مجتمعنا نحن في أمس الحاجة إلي المثقفين الحقيقيين، الذين هم وحدهم القادرون علي التأمل في أوضاعنا السائدة والتبصر المتعمق في الحلول الممكنة لمشاكلنا وتكوين الرؤية الشاملة وتعبئة المعرفة اللازمة لنجاح برامج الإصلاح والتطوير. وقد يعتقد البعض بسذاجة أن الإجراءات الجزئية والقرارات المتخبطة التي تصدر هنا أو هناك، تحت وطأة المشاكل الطارئة والمتغيرات العابرة، قد تكفي لتسيير أمور المجتمع فترة وراء أخري ولكن هذا تصور خاطئ ستكون انعكاساته سلبية في المدي الطويل.
فمهمة المثقف الأساسية هي أن يقدم رؤية تضع نصب عينيها المدي الطويل وليس فقط أن تقتصر علي النظر للزمن القصير، وأن يطرح حلولاً كلية متكاملة قائمة علي منهج علمي رصين وليس حلولاً ترضي أصحاب الأصوات العالية وتنبني علي الفهلوة والتدليس. المثقف الحقيقي هو في واقع الأمر مفكر صاحب رؤية عميقة وليس مجرد تكنوقراطي أو متخصص قد يجيد التنفيذ أكثر مما يجيد التأمل والتفكير وتبني الرؤية الشاملة المتعمقة. ويقود الخلط في أدوار الفئتين إلي نتائج وخيمة في بعض الأحيان علي نحو ما نشاهده هنا وهناك. فحاجة المجتمعات المعاصرة للمفكرين والمثقفين تبدو اليوم أكثر إلحاحاً مما كان عليه الأمر في الماضي، بالنظر للضغوط التي تفرضها العولمة وهيمنة الرأسمالية علي الصعيد الاقتصادي والطابع البيروقراطي المتزايد للمجتمعات المعاصرة والتأثير المتزايد للمال والتكنولوجيا علي الحياة الإنسانية.
والمراقب لأحوالنا في السنوات الأخيرة يري مدي حاجتنا لجهد المثقفين الحقيقيين المخلصين والمتجردين عن الذات والمنشغلين بالشأن الوطني، خاصة لصياغة تصورنا لمستقبل مصر في ظل المتغيرات العالمية والإقليمية والداخلية سريعة الإيقاع. إن الضجيج الصاخب وردود الأفعال المتسرعة أحياناً والجامدة أحياناً أخري تظهر هشاشة دور المثقفين في الآونة الأخيرة.
ولنتذكر كيف كان رواد التنوير والثقافة يقودون حركة المجتمع منذ بدايات القرن العشرين وحتي أواخره، ليس فقط الأسماء الأكثر شهرة مثل أحمد لطفي السيد والدكتور هيكل والعقاد والدكتور طه حسين وسلامة موسي والدكتور السنهوري، ثم في مرحلة لاحقة يحيي حقي ونجيب محفوظ ود.يوسف إدريس ود.زكي نجيب محمود وغيرهم من مشاهير المثقفين، ولكن أيضاً المئات وربما الآلاف من المثقفين المبدعين والأكاديميين والناشطين الذين شاركوا بدأب وجدية رغم تباين توجهاتهم الفكرية والسياسية في صياغة نهضة مصر وريادتها في مختلف المجالات.
ولا يمكن أن ننتظر من المثقفين رؤي متوافقة وآراء متناسقة، فبينهم كانت وستكون دائماً خلافات جوهرية، ولكن المهم هو أن نحصل علي مشاركاتهم علي اختلاف أطيافهم في الحوار العام، وأن نستفيد من أفكارهم المبتكرة وانتقاداتهم البناءة، وأن نحفزهم لممارسة دورهم الحيوي في رفع مستوي الوعي العام وتشجيع المبادرات الفردية والجماعية للخروج من حالة السلبية وعدم الاكتراث السائدة.
إذن، ماذا حدث لنا ولحركتنا الثقافية رغم وجود العديد من المثقفين المرموقين بيننا حتي الآن؟ ولماذا يفتقد المجتمع تأثيرهم علي حركته اليومية ونهضته المأمولة؟ ولماذا يعلو الصخب والضجيج بحيث يتراجع المفيد والجاد والجوهري ويفقد أولويته لصالح المزيف والهامشي والعابر؟
إن الوقت مناسب الآن لمراجعة النفس وتحكيم الضمير والخروج من الحلقة المفرغة للانشغالات اليومية والصراعات غير الجوهرية والاتهامات الجزافية لنتفرغ كمثقفين لما هو أكثر جدية وهو مستقبل بلدنا. ولنبدأ بالنظر للآخر كشريك في هذا المستقبل وليس كعدو يتعين تحطيمه والقضاء عليه بكل الوسائل والدعاوي المتاحة، مشروعة كانت أو غير مشروعة، مزيفة كانت أو حقيقية.
ولنعترف بأن مسرحنا السياسي والثقافي بعيد تماماً عن استيفاء معايير الكفاءة والجودة المتعارف عليها دولياً، وتلك مسؤولية مشتركة لكل القوي السياسية المتواجدة علي هذا المسرح، في الأغلبية والمعارضة، الرسمية وغير الرسمية علي حد سواء. لابد من الإقرار بأن الفاعلين علي هذا المسرح ليسوا جميعاً ملائكة ولكنهم أيضاً ليسوا جميعاً فاسدين، وأن الحوار الجاد بينهم ومع الرأي العام يعد أقصر الطرق لإجلاء الحقائق دون تستر ودون اتهام باطل وتشويش مقصود أو غير مقصود.
ولندرك أنه في الفترات الانتقالية حيث تهتز القيم ويتدهور المستوي الأخلاقي العام وتضعف مفاهيم الانتماء والترابط والتماسك الاجتماعي تظهر الحاجة بشكل أكثر إلحاحاً لدور المثقفين في إعادة الاعتبار لهذه القيم وصياغة معاييرها وتعبئة المشاعر حول النهوض بها، ولعل البعض يتساءل بمشروعية عن دور المثقفين المصريين في إعادة تأكيد قيم لا ينازع فيها عاقل في أي مجتمع، مثل المساواة بين المواطنين واحترام القانون والحرص علي النظام والنظافة العامة ومحاربة الفساد والمحسوبية والاستسهال وعدم الكفاءة، وترسيخ الديمقراطية ونشر اللامركزية واحترام حقوق الإنسان، والتحديث والتطوير المتواصل لهياكل المجتمع ومؤسساته؟
إن الوقت الذي نؤجل فيه الإصلاح الحقيقي ونضيعه في الاتهامات والمهاترات المتبادلة المسيسة أو المشخصنة أو الساعية للمنفعة الخاصة، سيشكل عبئاً علي مستقبلنا يدفع ثمنه جميع المواطنين، ويتحمل مسؤوليته بالدرجة الأولي مثقفو هذا الجيل أمام الله والوطن وضمائرهم وأمام الأجيال اللاحقة
د. أحمد جمال الدين موسي
المصرى اليوم
No comments:
Post a Comment