لكل حاكم مستبد.. سيف وشيخ وشاعر.سيف يقطع الرقاب، وشيخ يكفر أصحابها ، وشاعر يمدح شجاعته.. حتي يتحول الشعب إلي قطيع يعلمهم الشيخ فضيلة الرضا والخضوع، ويعلمهم الشاعر فن المدح.
ولا يكون هناك علم ولا تفكير ولا أسئلة ولا بحث ولا جدل. فيموت العقل ويذبل الفكر. وتسير البلاد الي النهاية واثقة من خطاها.
ويكون المدح ويكون الشيخ ويكون السيف ولا شيء آخر. وكلما اقتربت البلاد من نهايتها خطوة برق السيف، وكلما اقتربت خطوة اخري كان المدح أعظم وقام الشيخ يغري الناس بالصبر
حتي تسقط دولة المستبد.ويأتي ثائر جديد يحلم مع الناس بالحرية والعدل، يحمل رأسه علي كفه حتي يحرر البلاد والعباد، ولكنه ما إن يجلس علي الكرسي حتي ينسي العدل ويسجن الحرية ويبحث عن السيف والشيخ والشاعر..
والتاريخ لا ينفد منهم أبداً.
بهذه الخلاصة الكئيبة يختتم محسن عبد العزيز برديته الحزينة عن الاستبداد.. من الخلافة للرئاسة.. أيام للحضارة وسنوات للسقوط التي يتتبع عبر سطورها الدامية تراجيديا الاستبداد، التي ما إن تتخلص البلاد العربية والاسلامية من براثن إحدي حلقاته حتي تقع في مخالب حلقة العن وأسوأ، حيث لا جديد تحت الشمس ، ولا شيء يتغير سوي اسماء الطغاة، وأسماء ثلاثيتهم الخالدة: السياف والشيخ والشاعر!
.وعبر 274 صفحة من القطع الكبير يأخذنا محسن عبد العزيز في جولة مخيفة، مخضبة بالدماء والمكائد ومؤامرات البلاط والدسائس والوحشية والقسوة والانانية والجشع، وإن كانت لا تخلو أحيانا من الكوميديا السوداء، لنشاهد معه ماضينا الغارق في الاستبداد، حيث بطانة الفساد أقوي من الخليفة حتي لو كان هذا الخليفة هو عثمان بن عفان، وحيث قواعد الاستبداد السياسي يتم إرساؤها علي يد معاوية بن أبي سفيان، وحيث الدولة الأموية مشهد للاستبداد الطويل الذي لا يقطعه سوي فاصل قصير من العدل، ثم الصفحات الجديدة التي يضيفها العباسيون إلي كتاب الاستبداد وبخاصة علي يد أبي جعفر المنصور، وحيث تؤدي ثلاثية الاستبداد والضعف والسقوط إلي نهاية الحضارة الاندلسية، وحيث يعود الفاطميون بأعياد للفرح سرعان ما تنقلب إلي مآتم للعزاء بالتوازي مع نوادر الحاكم بأمر الله غريب الأطوار وخليفته الظاهر الذي قضي في الخلافة 15 سنة أمضاها في شرب الخمر وسماع الأغاني، حتي خلفه المستنصر بالله وعمره 7 سنوات واستمر خليفة 60 عاما تجعله أطول الحكام في التاريخ، ثم نري ملمحا آخر للاستبداد خلف آسنة رماح الأيوبيين المحاربين، وبعده نري طرائف وفواجع المماليك القدامي والجدد.
وبالطبع فان محسن عبد العزيز ليس أول من يكشف النقاب عن هذا التاريخ الطويل للاستبداد في البلاد العربية والإسلامية.بل إن هناك مئات وآلاف المؤلفات المهمة التي تلقي أضواء ساطعة علي هذا الجانب المظلم من حياة العرب والمسلمين.بيد أن إضافة محسن عبد العزيز تتمثل في أنه اجتهد اجتهادا عظيما في تتبع الحلقات المتلاحقة في سلسلة الاستبداد العربي والإسلامي، ليس بغرض التأريخ ، أو حتي إعادة تفسير التاريخ ،
وإنما ليحاول إثبات أمرين أساسيين:
الأمر الأول أن الاستبداد الذي تعاني منه الدول العربية والإسلامية الآن عميق الجذور وليس ابن الساعة.
الأمر الثاني أن قشرة الحداثة التي طرأت علي الدولة العربية والإسلامية الحديثة تخفي تحتها تخلفاً بنيوياً مزمناً، بحيث يمكن القول بأن هذه الحداثة ليست أكثر من أن تكون تحديثا للتخلف، الذي تلعب فيه النخبة وبالذات من المثقفين دوراً وضيعاً لإعادة انتاج الطغاة.ولذلك نجد أن محسن عبد العزيز يلح دائما علي عقد المقارنات بين الماضي والحاضر. ورغم أن كثيرا من هذه المقارنات تفتقر إلي المنهجية فإنه لايجد مثلا فارقاً بين مدح المتبني لسيف الدولة الحمداني وبين مدح محمد حسنين هيكل لجمال عبد الناصر.وكان الحمداني في حروب دائمة مع الروم (عبد الناصر - الأمريكان) وكان يأمل في عودة الخلافة إلي العرب بعد أن أصبحت في يد الترك والفرس (حرب القومية العربية).ومثلما انتصر المتبني علي منافسيه انتصر هيكل في صراعه مع مصطفي أمين.
وفي رأي المؤلف فانه صراع المداحين علي المستبدين وهو صراع حياة أو موت.وحدد الصراع بين مصطفي أمين وهيكل الإطار العام للنجاح الصحفي.. فأصبح مستقبل الصحفي لايتحدد باحتهاده وإنما بعلاقاته بالجهات ذات السلطة علي قول أحمد بهاء الدين . وأصبحت هناك مدرسة في الصحافة والسياسة لا تجد في ارتداء الأقنعة وخلعها تبعا للعهود ووفقا للمصالح أي عيب.وتحول المثقفون من وضع ونقد نظريات الحكم في مجتمعاتهم الي الدفاع، والتبرير لكل ما يقوم به الحاكم. وتحولت الثقافة الي حرفة كالسباكة والنجارة وكما انه ليس من حق الحرفي ان يرفض عملا فليس من حق المثقف ان يضن بحرفته علي اي نظام حكم.
وبذلك اصبح المثقفون بعضاً من حاشية السلطان يقفون كالحجاب علي أبواب السلاطين ويغيرون مواقفهم إذا ما عنَّ للسلطان ان يغير موقفه او عندما يخلفه خليفة يسير علي خط سلفه بممحاه كما يقول صلاح عيسي.
الخيط الثاني الذي يشده المؤلف هو ان الحرمان والفقر لم يكونا هما فقط سلاح السلاطين للشعراء الاحرار، وانما كانت تهمة الزندقة جاهزة (الشيوعية ثم العلمانية الآن) اتهم بها الحسين بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب وعبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن ابي طالب ، كما اتهم بها بشار بن برد عندما هجا الخليفة المهدي فضرب بالسياط حتي مات، وهو نفس ما حدث مع ابن المقفع ، واتهم بها الشاعر ابو العتاهية المتصوف. فمنذ القديم كل من هو ضد السلطان او الخليفة او الرئيس فهو كافر زنديق.
الخيط الثالث الذي يجذبه محسن عبد العزيز هو ان المصريين بالذات لهم عادة غريبة هي انهم يسخرون من الحاكم بدلاًً من الثورة عليه. والغريب في امر المصريين - مثلا- انهم رضوا بالمماليك سلاطين لكنهم اندهشوا عندما اصبح الشمس محمد البباوي وزيرا في عهد السلطان خشقدم ، لان البباوي كان طباخاً أميا لا يقرأ ولايكتب ، حتي قال احد الشعراء: تجنب العلم والفضائل ومل الي الجهل ميل هائم وكن حماراً مثل البباوي فالسعد في طلع البهائم
الخيط الرابع هو الربط بين الفساد والاستبداد، والمقارنة بين أوجه هذا الفساد منذ قرون سحيقة وبين الأوضاع في بعض مؤسساتنا الحديثة ، ومنها المؤسسات الصحفية القومية علي سبيل المثال .وينهي المؤلف كتابه بفصل عن الاستبداد باعتباره كتاب العرب . ويري بهذا الصدد ان أهم صفحات كتاب الاستبداد العربي هي القتل ، وكل حروفه من دماء البشر ، وفصوله من رقابهم ، ومقدمته بيد الحاكم المستبد ، وآخر صفحاته يحررها الجلاد وتطوي كل صفحة منه بالسيف وطلقات الرصاص. والناس بين دفتي الكتاب حروف مأسورة بين قبضتي الطاغية والجلاد ، ولا يخرج حرف عن سطره، ولا عنوان عن بابه.. حروف مصفوفة تكتب أناشيد الرياء وتدبج قصائد النفاق . من يتفوق يصبح عنوانا يستبد بآلاف الحروف وملايينها ومن يغضب او يرفض نرمه للجلاد في قعر الكتاب.ولا علم إلا ما يدرس في هذا الكتاب .. وهو نفس ما ذهب اليه ابن خلدون سابقا عندما لخص حال العرب بانهم امة جبلت علي التوحش وعدم الانقياد للسياسة ،
ولا يجمعهم الملك الا بصيغة دينية . وقد بعد عهدهم بالسياسة لما نسوا الدين فرجعوا الي اصلهم من البداوة والتوحش والعصبية والغلظة.ومكيافيللي المعلم الأول لمعظم الحكام العرب يعطي الدرس لمن اراد البقاء في السلطة. واذا كان عليه ان يجد سبيلا لاعدام شخص فيجب ان يختار تبريرا مناسبا وسببا عاما (كالكفر او العلمانية).والاستبداد أن يتوحش الفقر والجهل الاستبداد يعتبر الجمود عقلا والتطور جنونا ، والتجديد الحادا والحرية كفرا والتفكير جريمة والجبن قيمة والشجاعة رذيلة والصمت حكمة والجهل فضيلة والاختلاف خيانة والحاكم إلها والشعب عبيدا. الاستبداد هو اطلاق حرية الفساد والفاسدين والجهلاء والتضييق علي العلماء واقصاؤهم ، فالمستبد لا يريد علماء كما يقول محمود عوض . يريد عوالم تدق الدفوف .. فالمستبد يقدس الجهل ويحارب العلم.المستبد يخلط استبداده بالدين ليرهب العامة ويخوفهم، فمعاوية يقول للناس إن أموال الأمة هي أموال الله ليوزعها كيف يشاء. هل يقدر احد ان يعترض علي ذلك؟ لكن أبا ذر الغفاري تنبه لخدعة معاوية وقال إنها أموال المسلمين وليست مال الله وانت أمين علي هذه الأموال تقسمها بينهم بالعدل. فمال الله ليس له من صاحب ومعاوية صاحبه. أما مال المسلمين فيعني انهم يحاسبونه علي انفاقه. فالمستبد يختبئ وراء اقوال تبدو عليها القداسة ليخدع العامة بينما الإسلام ليس خداع معاوية ولا سيف الحجاج او السفاح العباسي ولا استبداد أبي جعفر المنصور او المعز الفاطمي ، كما ان الإمبراطورية العثمانية ليست الإسلام.
هذه الرحلة المروعة مع الاستبداد الذي ابتليت به بلاد العرب والمسلمين قام بها صحفي شاب في جريدة الاهرام، هو محسن عبد العزيز، يقول عن نفسه في مقدمة الكتاب -الرحلة أنا شاب عادي مثل أي شاب، لا أتميز بأي شيء ولم تظهر علي في أية مرحلة من مراحل حياتي ما يدل علي نبوغ أو عبقرية. أحب القراءة مثلما احب كرة القدم وترتيل القرآن وشيخ الجامع والأفلام والأغاني. شغوف بالتاريخ أقرأه بمشاعري ويقشعر بدني حين أقرأ دور مصر النضر في الحضارة الانسانية.ويحكي قصة نضاله من أجل العمل في بلاط صاحبة الجلالة، وكيف أغلقت جميع الابواب في وجهه لأنه بلا »واسطة« إلي أن أتاح له الزميل عبد الوهاب مطاوع -يرحمه الله - فرصة العمل في جريدة الاهرام.
وبدلا من ان تكون هذه بداية لرحلة مع الاحلام يقول: »في الأهرام الجريدة تكشفت لي دنيا غير الدنيا التي اعرف وبدأت أدرك ان حكاية تحقيق الحلم كما نريد مسألة فيها شك، وحكاية الكفاءة والموهبة اشياء لا يلتفت اليها . فالجريدة العريقة لا تحتاج الي مواهب احد. والصحافة التي تسمي بالقومية تعمل مثل موظفي الحكومة بالتوجيهات واتصال تليفوني من مسئول صغير كاف لان يلقي بتلال من الحقائق عن الفساد وآلام الناس إلي أقرب سلال المهملات والدولة تمارس -من خلالها- الكثير من الكذب علي الناس والتستر علي غول الفساد وأشياء أخري غير خافية علي أحد«
.وفي ظل صدمة سقوط بغداد - أمام الغزو الامريكي الغاشم - تفجرت لدي محسن عبد العزيز تساؤلات موجعة: لماذا كتب علينا السقوط من الأندلس الي فلسطين الي بغداد ؟ ولماذا نحن دون أمم الأرض لقمة طرية تحت ضروس المحتلين .. تتار واتراك ومماليك وفرنسيين وإنجليز وأمريكان؟وقد تختلف مع الباحث والكاتب الشاب في هذا الرأي أو ذاك، في هذه النظرة أو تلك، لكننا لا نملك سوي الاعجاب ببراءته ومثاليته، واجتهاده، وغضبه النبيل.وهو غضب في موضعه ، فمن لا يغضب في مواجهة كل هذه الكوارث التي تحيق بنا من كل حدب وصوب انما هو بلا قلب او ضمير .. او عقل.لكن الاهم .. هو ان نحول هذا الغضب المشروع الي طاقة عمل ايجابية من اجل ارساء دعائم مشروع نهضة عربي حقيقي.. لا بديل عنه سوي تقديم العرب استقالتهم من التاريخ والجغرافيا.
No comments:
Post a Comment