Tuesday, July 10, 2007

تأمل فى معنى الشفقة

يعتقد الكثير من علماء النفس والمهتمين بدراسة السلوك البشري بأن صفة "الشفقة" هي من الصفات الإنسانية الإيجابيّة الأكثر مساهمة في استمرار الجنس البشري والحفاظ على جودته.ولولا قدرة الإنسان على التحلّي بتلك الصفة لإنقرض جنسه منذ بداية تكوينه

.تقابل كلمة "شفقة" باللغة الإنكليزية كلمة Compassion

. وبالعودة إلى الجذور اللاتينية لتلك الكلمة وجدوا بأنها تعنيTo suffer with”“، أي " أن تتألم مع".

القدرة على الإحساس بآلام الناس ميّزة إيجابية تدفعك لأن تتألم معهم، وبالتالي لأن تحاول أن تخفف من آلامهم.تتجسد تلك القدرة في أعلى مراتبها عندما يشهد الإنسان عذابات غيره أمام عينيه. فلو قيل لك على سبيل المثال، هناك رجل في إحدى مستشفيات القاهرة يتألم بسبب ضربة سكين نالها من لص في صدره، لن تحس بآلامه كما لو أنك تقف بجانبه. تلك حقيقة تقودنا إلى الإفتراض بأن معشر الأطباء هم الأكثر قدرة على الإحساس بآلام الناس وبالتالي الأكثر رغبة للتخفيف منها، ناهيك عن أن التخفيف من آلام الآخرين هو بحد ذاته المهنة التي اختاروها لأنفسهم

كيت سوير امرأة أمريكيّة مختصّة في العلاج الفيزيائي، سافرت في أعقاب أحداث أيلول الإرهابيّة من كليفلاند حيث تعيش إلى نيويورك كي تطّلع على الأمر عن كثب.هالها ما شهدت، فقررت أن تفعل ما بوسعها للتخفيف من آلام الناس. بدأت باجراء مساجات يومية للعمال ورجال الإسعاف والبوليس الذين يشتغلون في عمليات رفع الأنقاض ولأهالي القتلى والمفقودين. وكانت كلما أحسّت بانهاك جسدي تترك عملها، كمتبرعة بوقتها، وتعود إلى مكان إقامتها في كليفلاند. هناك كان زملاؤها المختصون في نفس المجال يقومون باجراء مساجات لها فتشحن بطاقة جديدة، تعود بعدها إلى نيويورك كي تمارس عملها الإنساني، وهكذا دواليك لمدة عامين

.تقول السيدة سوير: الحياة أخذ وعطاء، والإحساس بالشفقة هو الذي يحافظ على دوران تلك الحلقة

الفلسفة البوذية تقوم على مبدأ القدرة على وصل الذات البشرية بالذات الكونيّة والتوحد فيها. ولكي تكون قادرا على عملية الوصل والتوحد تلك يجب أن تطهر نفسك البشرية أولا.

لا يستطيع الإنسان، وفقا لتلك الفلسفة أن يطهّر نفسه، حتى يمتلك قدرة عالية على الإحساس بالشفقة نحو الآخرين.التمارين التي يقوم بها البوذييون، والتي تدعى Meditation تركّزعلى بؤرة واحدة وهي الشفقة، أي الإحساس بآلام الآخرين. لديهم قناعات بأنه وعندما يكون الإنسان قادرا على أن يحس بآلام غيره سيفعل ما بإمكانه للتخفيف من تلك الآلام وأيضا لتجنب حدوثها، وبالتالي سيكون الكون أكثر أمنا وسلاما.

عام 1992 وافق الرهبان البوذييون الذين يمارسون طقوسهم تلك في معابدهم على هضاب جبال الهيميلايا، وافقوا على أن يقوم فريق من علماء النفس والسلوك الأمريكيين باجراء دراسات عليهم.

اختار العالم ريتشارد دافيدسون من هؤلاء الرهبان 18 شخصا مضى عليهم في معابدهم من 10 – 40 عاماوبعد يوم كامل وهم غارقون في عبادتهم يفكرون بالشفقة على أبناء جنسهم، قام هذا العالم بإستخدام نوعين من التصوير الطبقي لدراسة أدمغتهم.

وبمقارنة المخططات الدماغيّة التي عثر عليها مع مخططات أخرى لأدمغة عشرين من طلابه، لاحظ بأن هؤلاء الرهبان يمتلكون تخطيطا فريدا من نوعه.في الدماغ وفي القشرة ما حول الفص الجبهي Prefrontal Cortex هناك منطقتان، اليسرى مسؤولة عن العواطف الإيجابية كالفرح والمتعة والشفقة والحب، واليمنى وهي المسؤولة عن العواطف السلبية كالكره والغضب والإشمئزاز والحزن.عند هؤلاء الرهبان وخلال طقوس عبادتهم، يُظهر التخطيط الدماغي المنطقة اليسرى المسؤولة عن العواطف الإيجابية مضاءة، وضوؤها يعكس نشاطها الزائد، بينما يُظهر المنطقة اليمنى المسؤولة عن العواطف السلبية معتمة مما يدلّ على غياب النشاط فيها

.فتوصلوا إلى قناعة بأن الطريقة التي نفكر بها والأمور التي نرّكز عليها تبرمج أدمغتنا لتصبح مع الزمن مسؤولة عن طريقة تصرفنا، وبالتالي عن حياتنا بصورة عامة.

إذا كانت الشفقة، أو الرأفة تجاوزا، هي الصفة الإنسانية التي حافظت على استمرار الجنس البشري وجودته، هل بإمكاننا أن نتصور وضع مجتمع بشري يكون فيه الإنسان قادرا على أن يجرّد نفسه من أي أثر للشفقة؟!تحت تأثير أي ظرف، هل يجوز أن يتجرد الإنسان من قدرته على أن يرأف؟ ما الذي يدفع ذلك الإنسان لأن يتوحّش؟! وما نوع الإله الذي ينزع من قلبه رأفته ويزرع فيه تلك الوحشيّة؟يقول الفيلسوف الألماني ارنولد شوبنهور الشفقة هي أساس الأخلاق.إذا، ماذا يبقى لدى الإنسان عندما يهدم أساسه الأخلاقي؟

هذا هو سر الخراب الذي نراه على جميع المستويات و الذى يعكس وحشية الإنسان الذي يسكن تلك المجتمعات.تلمس غياب الشفقة لدى انسانها بسهولة عندما تضطر أن تتعامل معه في أبسط الأمور

لي جارة أردنيّة لها أخت تعيش في مدينة أخرى، لا أسمع من أخبار أختها إلاّ المشاكل. سألت جارتي مرّة: ما الخلل في أختك؟!فردّت بحزن: آه يا وفاء! وكما يقول المثل، هل أتركها بالقلب تجرح أم اُخرجها وتفضح؟ أختي معقّدة وتعيش كآبة حادة. ثم تتابع فريدة: "قبل سفرنا إلى أمريكا بخمس سنوات ولدت أختي طفلا منغوليّا ـ، وعندما أكتشفت بأن الطفل غير طبيعي راحت تسأل طبيبها إن كان هناك أي أمل لعلاجه. قال لها الطبيب: لا أمل يرجى، ولكن إذا أردت التخلص منه إمكانك أن تتوقفي عن إرضاعه وسيموت خلال بضعة أيام. نفّذت أختي تعاليم طبيبها بحذافيرها ومات الطفل خلال أيام.

في السنوات الخمس التي تلت تلك الحادثة كانت أختي طبيعية ( أعتقد: حسب مفهموم المجتمع الأردني للإنسان الطبيعي)، ولكن بعد أن سافرنا إلى أمريكا اكتشفت أختي الطريقة التي يعامل بها الأهل والحكومة والناس بصورة عامة الأطفال المنغوليين هنا، فبدأ ضميرها يستيقظ وهي الآن ضحية لعذاب ذلك الضمير"

.طبعا، الطبيب الذي يفتقد الرحمة و الرأفة و الشفقة و يمتثل لتعالبم متطرفة تكفر كل اختلاف لن يتورع أن يقترح على امرأة قتل طفلها عندما لا يملك حلا لمعضلة صحيّة يعاني منها ذلك الطفل

كيف يستطيع انسان لا يشفق و يتألم لألام مريض أمامه أن يشفق على زوجته عندما تأتيها آلام المخاض و أن يستوعب ما جاء في كتبه الطبيّة؟ لقد أكدت له تلك الكتب بأن آلية الألم والإحساس به هي نفسها لدى كل أبناء البشر، وبأنّ مسؤوليته كطبيب هي تخفيف حدة ذلك الألم بغض النظر عن عرق أو جنس أو دين المتألم؟!!ما قرأه في كتبه الطبية صبّه في برميل قمامته العقلي ولم يأبه لما جاء فيه. لقد حوّلت تعاليمه ذلك العقل إلى برميل قمامة يُخزّن ولا يعي طبيعة ما يخزّنه.

عندما يتمدد العقل ليستوعب فكرة جديدة وخيّرة لن يستطيع أن يعود بعدها إلى حجمه الأصلي. وعندما تأكل فكرة خبيثة من حيز ذلك العقل لن يستطيع أيضا أن يعود إلى حجمه الأصلي.فكما الخير يكبر بالعقل كذلك الشرّ يأكل منه، وفي كلتا الحالتين يعجز العقل أن يعود إلى حجمه الأصلي.دراسة الطب لا تغيّر انسانا شريرا، ولا تستطيع أن تصلح عقله المتآكل.

من يقتنع باراء متطرفة تمنعه من الشفقة على انسان يختلف عته فى الدين او المذهب أو الأى لن يستطيع ـ كطبيب ـ أن يستعيد شفقته حيالها عندما تتألم.لقد عجز الطبّ، وسيعجز دوما، على أن يُعملق قزما

وفاء سلطان - بتصرف

ارجو من الكاتبة قبول اعتذارى عن حذف و اضافة بعض الفقرات بما اعتقدت انه لا يبتعد عن جوهر المقال .

No comments: