فن إهدار الثورة
كانت ثورة عظيمة، لكنها لم تؤت كل ثمارها بسبب اختلال الأولويات وغياب الرؤية، بعدها مباشرة كان يمكن أن نسير فى طريق بناء الدولة الوطنية المستقلة التى تمتلك مشروعاً تنموياً علمياً يجعلها فى مصاف الدول المتقدمة، لكنها بدلاً من أن تفرز مشروعاً وطنياً واحداً تتعدد الاجتهادات فى سبيل تحقيقه، أنتجت مشاريع متناقضة كلها يظن أنه يحتكر الوطنية، وبدلاً من أن تستمر روح القيادة الجماعية التى أدت إلى نجاحها وجعلها نموذجاً مشرقاً فى تاريخ الثورات، غلبت عليها للأسف روح الصراعات، واستبد كل قائد من قادتها برأيه فدفعت مصر ثمناً باهظاً بسبب ذلك، وفى خلال شهور اختفت روح الوحدة الوطنية التى كانت سمة غالبة على المصريين لتعلو نبرة الانشقاق فى الشارع وتتطور إلى مصادمات عنيفة أدمت القلوب.
لا أتحدث عن ثورة الخامس والعشرين من يناير، حماها الله من كل سوء، بل أتحدث عن ثورة 1919 بالمناسبة، وإذا اندهشت من أننى أقول ذلك عنها، فأرجوك أن تقرأ كتاباً مهماً اسمه «فصل مجهول من تاريخ ثورة 1919» للمؤرخ الكبير الدكتور حمادة محمود إسماعيل، صدر عام 1994 عن سلسلة (مصر النهضة) التى تصدرها الهيئة المصرية العامة للكتاب، لترى كيف تحول اثنان من زعماء ثورة 19 وهما سعد زغلول وعدلى يكن من صديقين حميمين إلى عدوين لدودين بسبب اللجج فى الخصومة واعتقاد كل منهما أنه يخدم الوطن أكثر من غيره، وعدم قدرة الاثنين ومن حولهما على الاتفاق على خارطة طريق وطنية يجتمع حولها المصريون،
وفى حين كان الخلاف يستعر بين الاثنين وفريقيهما كان كل فريق حريصاً على الحديث عن أهمية الاتحاد وخطورة الفرقة، لكن الموقف أخذ يتدهور يوماً بعد يوم خاصة بعد أن بدأ تبادل الاتهامات فى الخطب والتصريحات، وفى حين ينحاز بعض المؤرخين إلى سعد والبعض الآخر إلى عدلى، فإننا نجد رجلاً معاصراً للفترة مثل أحمد شفيق باشا يكتب فى (حوليات مصر السياسية) محملاً المسؤولية للرجلين معا وقائلا «.. لكن اللذين وضعا أول حجر فى اتحاد الأمة وأقاما عليه الأساس حتى كاد يكمل البناء مضيا فى هدمه وقضه حجرا على حجر، واستمرا فى خلافهما وهما يشعران بانحلال رابطة الأمة من حولهما ولا يرجعان عن خلافهما»، بالطبع كما يلاحظ الدكتور إسماعيل «لم يقف الإنجليز مكتوفى الأيدى بل ساعدوا على إشعال هذا الخلاف بكل ما استطاعوا، حتى وصلت البلاد إلى طريق مسدود وجلست البلاد على برميل من البارود كان يكفيه عود ثقاب لينفجر».
فى 29 أبريل 1921 انفجر مرجل الغضب فى طنطا عاصمة مديرية الغربية مسقط رأس سعد زغلول، كانت حكومة عدلى محرجة ولم ترغب فى إصدار قرار بمنع التظاهر لكى لا تظهر بمظهر من يحجر على حرية التعبير، كان ذلك اليوم يوافق يوم جمعة، وكانت قد خرجت بعد صلاة الجمعة من المسجد الأحمدى مظاهرة صغيرة لبعض طلاب المدارس الثانوية، وحصل احتكاك مع بعض رجال البوليس بقيادة مأمور قسم طنطا الذى أصدر أمراً بتشتيت المتظاهرين برشهم بالماء، فرشقوا القسم بالحجارة ثم أحرقوا سيارة بوليس كانت متواجدة أمام القسم فأصدر حكمدار المديرية أمراً بإطلاق النار فى الهواء للإرهاب، لكن جندياً مرتبكاً أطلق النار على المتظاهرين فقتل اثنين فى الحال، وأصيب أربعون، مات اثنان منهم فيما بعد، واتجه بعض المتظاهرين إلى منزل الحكمدار لإحراقه لولا أن تدخلت قوة من الجيش المصرى كانت قد استدعيت من القاهرة على عجل لدعم قوة البوليس.
بعدها وللأسف دخلت البلاد فى دوامة عنف مجنون امتدت إلى القاهرة بدءا من يوم 16 مايو ليسقط عدد كبير من القتلى والجرحى فى أول مصادمات بين المصريين وبعضهم البعض منذ ثورة 19.
وكما يلاحظ الدكتور إسماعيل فقد «ساعد على توتر الأمور أن القاهرة كانت تشهد مظاهرات لعمال العنابر وشركة الترام الذين كانت لهم مطالب مهنية منذ فترة لم تتحقق، وعند عدم تحقيقها لجأوا إلى سلاح المظاهرات والعنف فأضافوا بعداً جديداً لهذه المظاهرات»، كان الموقف قد اشتعل عندما قبض حكمدار القاهرة على شاب اسمه أحمد مختار كان يتزعم مجموعة صغيرة من المتظاهرين فى شارع بولاق، وبعد هذه الحادثة صدرت أوامر حكومية بمنع المظاهرات، واستشعر مجموعة من المحامين وأعضاء الهيئات النيابية خطورة الوضع فى البلاد فوجهوا نداءً إلى الشعب بالتكاتف، لكن نداءهم لم يجد صدى، وفى يوم 18 مايو خرجت مظاهرة من منطقة الخازندار كان بها طلبة يحملون النبابيت والعصى واعتدوا على جنود قسم الأزبكية.
وفى نفس الوقت قام شخص مجهول بعمل فرقعة نارية داخل قطار فى شبرا وأطلق طلقات نارية وعندما حاول بعض الجنود القبض عليه تعرض جندى للطعن بمدية فى رقبته، واشتعلت مواجهات فى أحياء كثيرة فى القاهرة أصيب فيها ثلاثة ضباط وتسعة جنود وستة من عمال الترام، لتتجدد المظاهرات فى اليوم التالى وينتج عنها هذه المرة قتيل هو موظف تم طعنه بسونكى، ويصاب عدد كبير من المدنيين والضباط والجنود، لتشتعل حرب شرسة ضد ضباط الشرطة وجنودها فى يوم الجمعة 20 مايو، وتعلن حكمدارية العاصمة أنها «تبذل كل جهدها للبحث عن بعض الضباط والصف والجنود الذين اختفوا عقب مظاهرات الجمعة وأن الحكمدارية تخشى أن يكونوا قد قتلوا،
ويبدو أن هؤلاء بسبب شدة المظاهرات اضطروا إلى الاختفاء فى بعض الأماكن وهو ما أثار خوف وقلق الحكمدارية». بعدها بيومين وفى الإسكندرية انفجر مرجل آخر للغضب انتهى بمأساة راح ضحيتها العديد من المصريين والأجانب، برغم أن عدداً من الشخصيات الوطنية من أبناء الإسكندرية حاولت بكل جهدها السيطرة على الأمور لكى لا يقتل المصريون بعضهم بعضا، كان على رأس هؤلاء الأمير عمر طوسون أحد الشخصيات الوطنية التى كانت تحظى بتوافق كبير، والذى أصدر نداء إلى أبناء الإسكندرية جاء فى نصه «بلغنى مع أشد الأسف ما حدث من بعض الأشخاص غير المسؤولين أثناء المظاهرات السلمية مثل مهاجمة بيوت بعض المخالفين لكم فى الرأى والتقاذف بالأحجار فى الشوارع، الأمر الذى ما كنا ننتظر صدوره من أى مصرى،
ونحن قوم نريد الاستقلال ونطالب بالحرية، وأساس هذا المبدأ احترام كل فريق رأى الآخر وعدم الحظر على أحد وإن شذ فى رأيه وإذا لم نحترم هذا المبدأ فلماذا نشكو من ضغط الإنجليز على حريتنا ومصادرتهم لنا فى آرائنا. وكيف بعد ذلك تريد طائفة منا إرغام مخالفيها على اتباع رأيها بالقوة، فأرجوكم أشد الرجاء الإقلاع عن هذه الخطة التى تضر قضيتنا المقدسة أكبر ضرر وتشين سمعتنا وتحط بكرامتنا، وأناشد كل مخلص لوطنه محب لبلاده أن يجتهد فى منع ما يلصق التهم الباطلة بنا، وإننى لا أقول هذا انحيازاً إلى جانب الوزارة لأننى غير موافق على خطتها، ولكن الواجب هو الذى دفعنى أن أبين لكم الخطر الذى ينجم عن سلوك طائفة منا فى غير المسلك القويم، هدانا الله جميعاً إلى الصواب».
أتركك الآن لكى تتأمل كل ما سبق، وألتقيك فى الغد لنعرف هل استمع أحد إلى نداء الأمير عمر طوسون أم لا؟
بلال فضل - مصراوى
No comments:
Post a Comment