Wednesday, April 13, 2011

عبدالرحمن يوسف يكتب: «يوميات ثورة الصبار» ٦

الشعب هو عمق هذه الثورة.. وخزان الطاقة الحقيقى الذى يضمن استمرارها

تمت الدعوة لمظاهرة مليونية يوم الثلاثاء الأول من فبراير، وفى هذه الليلة حدث شىء مهم، فقد اجتمعت فى مكتبى الشخصى القريب من ميدان التحرير (فى شارع ٢٦ يوليو) مع مجموعة من الناشطين فى الحملة الشعبية لدعم البرادعى ومطالب التغيير، وكان فيها الدكتور مصطفى النجار، والأخ عبدالمنعم إمام، والدكتور أحمد خليل، والدكتور علاء عبدالسميع والمهندس عمرو علاء من الشرقية، والدكتور أحمد منير، والمهندس محمد عيد عتمان، ومصطفى إبراهيم، واتفقنا على ضرورة أن نحاول أن ندفع الجيش لإعلان موقفه، فكتبنا بيانا على الكمبيوتر، وطبعناه، ثم مسحناه تماما من على أجهزة المكتب، ووزعناه فى الميدان صباح اليوم التالى.

كان خلاصة ما فى البيان مطالبة للجيش بأن يعلن موقفه من الأحداث، وأن يعلن مع أى شرعية يقف، مع الرئيس الذى سقطت شرعيته بنزول الجماهير، أم مع الشعب العظيم الذى نزل إلى الشوارع مطالبا بحقه فى الحياة ؟!

كما دعا البيان إلى جمعة الرحيل (الرابع من فبراير)، وهدد بأن الجماهير ستتحرك إلى القصر الجمهورى، والبرلمان، والإذاعة والتليفزيون.

وقد تم توزيع البيان على العديد من الصحفيين فى الميدان، وتم توصيله لبعض ضباط الجيش المرابطين على دباباتهم فى الميدان، وذلك لكى يصل البيان إلى الجيش.

وفوجئنا بعدها بعدة ساعات ببيان يصدر من القوات المسلحة يعلن أن الجيش مع الشعب، وأن القوات المسلحة لم ولن تستخدم العنف مع المتظاهرين أبدا...!

ولم يكن أحد منا يتخيل رد الفعل السريع والإيجابى بهذه البساطة.

اتضحت الصورة أمام الجميع، واتضح أن الجيش لن يضرب الناس، وأننا الآن نستطيع أن نضغط على مبارك، ونحن مطمئنون أن هذه المدرعات لن تفتح جحيمها علينا!

كان هذا الهاجس داخل القلوب والعقول، وإن لم تنطق به الألسنة.

فى نفس هذا اليوم الثلاثاء الأول من فبراير ٢٠١١، جاء المصريون إلى ميدان التحرير بالملايين، قدرت الأعداد يومها بمليونين، وقدرت الأعداد فى مدينة الإسكندرية بأكثر من ثلاثة ملايين من البشر!

إنها أكبر تظاهرات فى تاريخ هذا البلد العظيم، ولم نكن نتخيل أننا سنشهد تظاهرات أكبر من هذه بعدها بأيام.

بعد أن انتهت التظاهرة، أعلن التليفزيون الرسمى عن كلمة سيلقيها مبارك للأمة، وجلسنا ننتظر وننتظر، حتى فرغ منا الصبر، وظهر– كعادته– بخطاب قمىء، خال من البلاغة واللباقة، وتذكر أخيرا أن فى مصر شهداء قد قتلوا برصاص أمنه، وتذكر أخيرا أن فى مصر مطالب ومظالم ينبغى أن ينصت لها!

كانت الطامة الكبرى، إذ أعلن فى خضم هذا الكلام المائع أنه لن يترشح للرئاسة لفترة أخرى، ثم بدأ باستعطاف الجماهير بخطاب عاطفى سخيف، وأنه سيعيش ويموت ويدفن فى مصر!

بعد أن انتهى الخطاب مباشرة قلت لكل من حولى لا بد من تصعيد فورى، ولكن لم يصغ أحد.

خلال ربع ساعة كانت ردود الأفعال كالتالى: رفض تام لمن هم داخل الميدان لكل ما قدمه مبارك، وإصرار على مواصلة الاعتصام حتى يرحل.

ارتياح تام لكل ما قدمه مبارك ممن هم خارج الميدان.

جاءتنى عشرات المكالمات التى تصف الأجواء (خارج الميدان)، نساء يطلقن الزغاريد فى الشرفات، (شربات) يوزع فى الطرقات مجانا، بل وصف لى البعض مشاهد (كسر قلل) فى بعض الأحياء.

المهم، أن الشعب المصرى انقسم نصفين، أقلية ضد خطاب مبارك تماما، ولا ترى فيما قدمه أى شىء يرضيه لكى يفك الاعتصام، وأكثرية معه تماما، ولا ترى أى معنى لمواصلة الاعتصام، بل ترى أن من يواصل اعتصامه يؤذى الوطن ويخربه، وينبغى أن يؤخذ على يده!

كنت من الذين تنبهوا إلى خطورة الوضع منذ الدقائق الأولى، وقلت للعديد ممن هم حولى، لو تحركنا الآن إلى البرلمان لن يستطيع أحد أن يوقفنا، وإذا انتظرنا إلى الغد ستكون الكفة فى غير صالحنا، وحاولت بكل الطرق أن أدفع الناس فى هذا الاتجاه، وحين تلكأ من حولى، أخذت الدكتور مصطفى النجار وذهبنا فى جولة حول مجلس الشعب، لكى نرى حجم التحصينات التى حوله، وكانت ضئيلة جدا.

قلت للشباب: لو تحركنا الآن، سنصل إلى البرلمان قبل أن تصل الأوامر بكيفية التعامل معنا، وكان عندى ما يطمئننى بسبب بيان الجيش فى الصباح، ذلك البيان الذى تعهد فيه الجيش بعدم استخدام العنف مع المتظاهرين.

حاولت إقناع الشباب بأن السكوت خطير، وبأننا لا بد أن نصعد، ولا بد أن تصحو القاهرة غدا فتجدنا قد كسبنا مساحة جديدة بدلا من الانتظار فى أماكننا حتى يجهز علينا هذا العتل!

وإذا كان هنالك من قلق من أن يندس بيننا من يتلف مبنى البرلمان، فيكفينا أن نعتصم فى حديقة مجلس الشعب دون أن نقتحم المبنى.

فى هذه اللحظة، عرفت قيمة الإذاعة...!

لم يكن من الممكن أن أتطفل على أى إذاعة فى الميدان لكى أدعو الناس إلى التحرك إلى البرلمان، لذلك دفنت الفكرة فى مهدها!

بعد أن انتهى الخطاب تعرّض المعتصمون لاختبار قاس جدا، فبدأت الاتصالات تنهال على كل من هو فى الميدان من أقربائه وأحبائه، الكل (ممن هم خارج الميدان) يطالب بفك الاعتصام.

لهذا السبب أعتبر هذه الثورة ثورة الشباب!

لقد بدأ هذه الثورة الشباب، وإنى لأشهد أن الشباب هم من صمد فى هذه اللحظة ضد جميع أشكال الضغط والابتزاز النفسى، التى تعرض لها المعتصمون من أقرب الناس لهم.

لقد كان الشباب فى ميدان التحرير يرون ما لا يراه الآخرون، كانوا يلمسون الحلم بأيديهم، ويبصرون عين ماء يحسبها الآخرون سرابا!

هاتفنى أحد الأصدقاء فى تلك الليلة (وهو يطالبنى بفك الاعتصام، وكأن الناس تحت أمرى !!!)، وبعد أن قلت له إننى مجرد فرد من ملايين، ولن يستمع لى أحد، وإننى لا أرى مبررا لفك الاعتصام، قال لى كلاما شديد القسوة، ملخصه أننا نحرث فى البحر، وأننى شخص معقد نفسيا، دائما أحب خوض المعارك الخاسرة، وأن الله سيحاسبنى (أنا والموتورين الثورجية من أمثالى) على المصائب التى سيدخلها البلد بسببنا...!

أشد ما كان يغيظنى فى تلك الفترة هذه المكالمات التى كانت تأتينى وتطالبنى بفك هذا الاعتصام، وكأننى أمسك بريموت كنترول يحرك الناس...!

كنت دائما أوضح لهم أن هذا شعب عظيم، ولا يستطيع أن يملى أحد عليه قرارا، لقد تحرر الناس، وهم من يقرر، ولا أحد يقرر لهم.

كانت ليلة ليلاء، وكان جميع الحكماء يدركون معنى أن تفقد الثورة الشعب!

إنه فشل لا محالة للثورة!

الشعب هو العمق الاستراتيجى لهذه الثورة، وهو خزان الطاقة الحقيقى الذى يضمن استمرار الثورة.

فى هذه الأيام بدأت بعض الاتصالات تصل للدكتور مصطفى النجار من طرفين، الطرف الأول حكومة شفيق، فكانوا يحاولون الاتصال بنا، ويحاولون أن يجلسوا معنا لإجراء حوار وطنى.

وكان رد مصطفى النجار برفض الحوار.

الطرف الثانى الذى اتصل بنا، بعض المجموعات الشبابية التى رغبت فى أن ننضم لها لتكوين بعض الائتلافات التى تمثل الثورة.

حين استشارنى الدكتور مصطفى فى هذا الأمر، قلت له إننى لا أحب أن أكون طرفا فى مثل هذا الأمر، لأننى لا أمثل إلا نفسى، ولست مخولا للحديث باسم الناس بأى شكل من الأشكال.

أحب هنا أن أنبه إلى أننى لا أتحدث عن ائتلاف بعينه، لأن جميع الائتلافات التى تكونت اتصلت بنا، وجميعها (بلا استثناء تقريبا) قد لقى نفس الرد، فاعتذرنا للجميع اعتذارا جميلا هادئا، دون أى مزايدات أو مشاحنات، ولكن (وللأسف الشديد) حمل لنا بعض هذه الائتلافات ضغينة، بسبب رفضنا الانضمام لها، مما تسبب فى بعض الاشتباكات فيما بعد، وحدثت بعض المزايدات ومحاولات التشويه لشخصى أنا والدكتور مصطفى النجار من أناس كنت أظنهم أكثر حكمة من أن يقعوا فى مثل هذا الفخ، فى مثل هذا الوقت، وسوف أذكر ذلك فى موضعه.

بعد خطاب مبارك نمنا بعد الفجر، وكنت فى الخيمة فى وسط الميدان، ومع أذان الظهر فوجئت بصراخ من الناس من حولى يطلبون النجدة، فهرعت، فوجدت أنصار الحزب الوطنى يحملون صور مبارك فى وسط ميدان التحرير!

لقد وصل المئات منهم إلى قلب الميدان، فى منتصفه، عند (الصينية)!

تدافعنا جميعا نحوهم، وحاصرناهم بكل ما أوتينا من قوة، استطعنا بعد ساعتين تقريبا دفعهم خارج الصينية باتجاه المتحف المصرى، وميدان عبدالمنعم رياض.

كانت الشمس ساطعة ذلك اليوم، مما أرهقنا بسبب الحر وشدة التدافع، وأذكر أنى قابلت زوج أختى (المهندس حسام خلف)، وحينها عرفت أن زوج أختى الصغرى (الدكتور هشام المرسى) الذى هاتفنى منذ يومين قد اختفى مساء الاثنين فى ظروف غامضة.

حين دفعنا هذه الجموع إلى جهة المتحف بدأوا بإلقاء الحجارة علينا، وبعد العصر بدأ وصول الجمال والخيول.

لقد كانت حماقة لا مثيل لها، من سياسيين لا يفقهون معنى السياسة، مجموعة من رجال الأعمال الحمقى، تصوروا أنهم يستطيعون أن يهزموا مئات الآلاف من البشر ببعض البغال والحمير والجمال!

مهما كتبت فى وصف حماقة من موّل ونفّـذ هذا العمل، فلن أستطيع أن أوفيه حقه من الحماقة!

من الجدير بالذكر أن هؤلاء البلطجية كان من بينهم بعض المواطنين الذين تأثروا بخطاب مبارك، وجاءوا يحملون صور الرئيس المخلوع، ويطالبوننا بالرحيل، وكان هذا من أكثر المشاهد التى آلمتنى، لأن وجود غير المأجورين من الممكن أن يتم استغلاله لإظهار جميع المأجورين بمظهر حسن.

أذكر فى هذه اللحظات أننى شاهدت بعض المصورين يصورون الأحداث من فوق إحدى البنايات، والغريب أنهم كانوا يرتدون زيا عسكريا مموها مثل زى القوات المسلحة، وحتى الآن لا أعرف ما تفسير ذلك...!

فى هذه المعركة، وقبيل العصر حدث حادث لولا ستر الله لكانت قد وقعت مذبحة فى الميدان.

ففى الوقت الذى كانت كل جهودنا منصبة على صد الغازين لكى ندفعهم باتجاه المتحف المصرى، هاجم الميدان مئات من البلطجية المسلحين بالأسلحة البيضاء من جهة شارع طلعت حرب.

هذه الجهة تقع فى ظهرنا– لمن لا يعرف خريطة الميدان– وبالتالى لم نشعر بهذا الهجوم من الأساس، وخطورة هذا الهجوم أنه سيدخل إلى وسط الميدان مباشرة، حيث يجلس النسوة والأطفال فى مأمن من الهجوم الأكبر القادم من جهة المتحف، ولكن الله جنـّد لنا جنودا من عنده فصد عنا هذا الهجوم، الذى لو تم لأوقع خسائر بشرية فى نساء وأطفال لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم.

ما حدث، أن الله شاء أن يكون على هذا الثغر ضابط جيش محترم، برتبة نقيب، واسمه ماجد بولس، وقد فتح نيران أسلحته على هؤلاء القادمين بالسنج والمطاوى، فما كان منهم إلا فروا كالفئران من أمامه.

ولولا ذلك لحدثت مذبحة لا يعلم مداها إلا الله، ولولا النقيب ماجد وما فعله لكنا قد رأينا مناظر مشينة، ولسالت دماء بريئة، ولكن الله سلم.

استمرت المعركة، وفى هذه الليلة حدث ما لا يمكن تصوره!

كان الهجوم أكبر من أن يرصده شخص واحد، لذلك، سأروى ما شاهدته أنا، وما شاهدته (جزء من الحقيقة)، وليس كلها بالطبع.

لا بد فى البداية أن أوضح أن الجو العام أصبح خلية نحل، فكل من فى الميدان جندى يؤدى عملا ما.

المئات من الشباب يكسرون كل شىء صلب ويحولونه إلى أحجار للدفاع عن الميدان.

وهناك من تفنن فى استخراج ألواح الخشب والحديد لتكوين دروع يستخدمها الشباب لحماية أنفسهم من الحجارة.

مئات من الشباب يقومون بعمل موسيقى تحميسية، وذلك من خلال الضرب على الأسوار الحديدية فى الميدان بأى جسم معدنى، مما صنع موسيقى ضخمة جدا فى الميدان، على الإيقاع العسكرى (مارش)، وحمس كل الشباب، وألقى الرعب فى قلوب المهاجمين

المصرى اليوم


No comments: