زيارة للضمير
نهار الاثنين الماضى تلقيت ضمن مجموعة صغيرة دعوة للقاء مع الدكتور محمد البرادعى فى بيته، وعلى غير عادتى النافرة مما أتصور أنها لقاءات «مَكْلَمة»، وجدتنى أرحب بالدعوة، خاصة وقد عرفت الأسماء الطيبة للعدد القليل من المدعوين والمدعوات لهذا اللقاء، والذى عرفت أنه مجرد مناسبة لتبادل الأفكار، بلا تلميع صحفى ولا وميض تليفزيونى.
لم أُعدُّ فى رأسى ما يمكن أن أطرحه فى هذا اللقاء، ولا خطر لى أن لدىَّ شيئا أقوله، فالهدف الذى أضاء داخلى عندما تلقيت الدعوة، هو تأمل هذا الرجل، واختبار إحساسى بظاهرته التى وصفتها منذ ظهوره فى حياتنا السياسية بأنها «شجاعة الوداعة»، فالرجل الهادئ، الذى يتلعثم قليلا ولا يكاد صوته يرتفع، إنما يشع بجسارة لا يتمتع بها مشاهير الرفض الحنجورى، وهو برغم هدوئه وصوته الخفيض، لم يعبأ منذ اللحظة الأولى بالمحاذير التى يناور حولها كثيرون من نجوم المعارضة، بل طرح بطمأنينة قلب سليم ما كان كفيلا بتعريضه للاغتيال أو السجن أو التضييق أو تلفيق الفضائح الكاذبة، وقد بدأوا معه من آخر هذه القائمة لعله ينكسر أو يرتدع، لكنه واصل بطمأنينته وهدوئه السير فى طريق رفضه لعوار نظام حسنى مبارك، بادئا من رأس هرم الاستبداد والفساد، وقدَّم رؤية مُركَّزة لمصر ديمقراطية وعادلة ومستنيرة ومتحضرة. صحيح أنه لم يكن مُناضلا ميدانيا، وصحيح أنه لم يرابط طويلا على الأرض التى يطمح لتغيير صورتها إلى الأجمل، لكنه لم يتراجع لحظة فى طرحه. قدَّم رؤى عملية للتغيير بدت رومانسية وغير ذات جدوى، كجمع مليون توقيع على المبادئ السبعة للجمعية الوطنية للتغيير، وبشَّر بأن نزول مليون مصرى إلى الشارع كفيل بإسقاط النظام، وبدا ذلك للكثيرين حينها، وأنا منهم، محض نضال نخبوى بعبق أوروبى، لكن الواقع الذى تجلَّى فى انتفاضة الشباب التى تحولت إلى ثورة شعبية جامعة، جاء تصديقا لصفاء رؤية الرجل الهادئ المطمئن، والتى التقطت صدقها خيرة القلوب الكبيرة كما القلوب الغضة السليمة لأنقى رجال وشباب مصر على اختلاف أطيافهم، فرسَّمت البرادعى أملا، وغنت أصواتُ فَتية باسمه للتغيير.
فى الحديقة الصغيرة اللطيفة لبيت الرجل صنعت مقاعدنا التى لم تزد على عشرة دائرة ودودة، كان الرجل نقطة على قوسها لا نجما فوقها، ولاحظت أن سيدة البيت تسلك سلوكا يشبهنا، يشبه ما عهدنا أمهاتنا وأخواتنا فى البيوت المصرية كريمة الأصل يفعلنه عند استقبال الضيوف، فبعد أن رحبت بقدومنا بجوار زوجها وقدمت واجب الضيافة، انسحبت وجلست عند باب الحديقة مقدرة بتواضع صادق أن مكانها هو موقع الرعاية لا الوصاية تجاه زوجها الذى تحترمه وتحترم ضيوفه، وقد فعلت ذلك بهدوء مطمئن كما زوجها، وشجاعة ووداعة تماثل شجاعته، برغم أن هذا البيت، بيتها، كان عرضة لمخاطر مخيفة قبل سقوط الطاغوت، ولم تزل ظلال المخاطر ماثلة ما دام للطاغوت فلول وذيول.
كنت أتأمل من حولى البشر والشجر وأنا أصغى للمتحدثين دون تأهب للمشاركة، لكننى بدأت استنفر عندما سمعت إلحاحا من بعض الحاضرين والحاضرات على وجوب أن يعلن الرجل عن نيته الترشُّح للرئاسة، أسوة بمن تسابقوا فى إعلان ذلك أو ناوروا فى الإيحاء به، بحجة أن ذلك يزكى مشاعر الشباب ويبدأ فى شق طريق العمل فى هذا الاتجاه، عندئذ شعرت بالفزع برغم وثوقى فى صدق وبراءة هذه الدعوة، ووجدتنى أتكلم.
رجوت الدكتور البرادعى ألا يستجيب لهذه الدعوة الكريمة الآن على أى نحو، وبررت ذلك بأن إعلانه عن نيته الترشح للرئاسة التى أوضح من قبل أنها ليست هدفه، وكان صادقا فى ذلك ولايزال، ستجعله يصطف فى طابور المتسابقين على المغانم، وهو أبعد ما يكون عن معظمهم، إن لم يكن كلهم، لأن له مكانا آخر أثبت جدارته فى شغله، كونه نقيضا واضحا للنظام الذى جاهر بضرورة تغييره. فالنظام الساقط لو أردنا له توصيفا جامعا لوجدنا أنه كان نظام غياب الضمير وانعدام الأخلاق، بدليل كل ممارساته الفاسدة من نهب وسلب لمقدرات الأمة وبلطجة قامعة لأبنائها وتزوير لإرادتها وتعطيل للقانون وتشويه للتشريع وتسييد للسفلة، هذه كلها كانت ممارسات إجرامية لتشكيل عصابى باتساع الوطن، أفراده من السيكوباتيين الذين تجمعهم خصال السيكوباتية الواضحة من كذب ومراوغة وعدوانية وسرقة وعمى بصيرة فادح وفاضح. وفى مواجهة نظام شديد البشاعة على هذا النحو، يكون التغيير واضح المعالم، ويتلخص فى إقامة نظام جديد قوامه رفعة التسامى وسمو الضمير، وصلابة السوية فى القائمين عليه.
قلت إننى لطالما تمنيت أن يكون فى سدة الحكم رجال كالدكتور البرادعى أو الدكتور محمد غنيم أو غيرهم من المصريين الأفاضل ذوى المصداقية الواضحة والصلابة الأخلاقية والإيمان برفعة القانون وبهاء العدالة والعدل. أناس هم طلاب حق لا سُلطة، إلا لو دعاهم إليها داعى أداء الواجب، كونها تكليفا لا تشريفا، ومغرما يستحق التضحية لا مغنما يدعو إلى المزاحمة. باختصار نحن فى هذه المرحلة المتوترة والمضطربة أشد ما نكون حاجة للرجال الضمائر، والدكتور البرادعى نموذج لهم، وينبغى الآن أن يظل كذلك، لهذا رجوته ألا يستجيب الآن لدعوة الداعين إلى إعلانه نيته الترشح للرئاسة.
لقد دارت فى لقاء الاثنين الماضى مناقشة تُفاضِل بين النزول إلى الميدان والاكتفاء بدور الضمير، وكان رأيى ولا يزال هو أن كلا ميسرا لم خُلق له، ليقدم كل إنسان لهذه الثورة أفضل ما تيسره له ملكاته. وبرزت فى ثنايا النقاش نقطة غائمة عن أناس يمثلون «الضمير»، كالدكتور البرادعى وغيره، لم تشملهم لقاءات المجلس العسكرى على كثرتها، خاصة والمجلس العسكرى نفسه، وباستقراء المشهود على الأرض، وما يمكن استشفافه من توالى الوقائع، كان ضميرا وطنيا لاشك فيه، فلماذا لا يلتقى الضمير بالضمير؟
أجمعنا فى هذا اللقاء على أن الجيش كان الوجه العسكرى لضمير الأمة فى هذه الثورة، وأن المظهر الحضارى لثورة 25 يناير لدى قواها المدنية كان يواكبه مظهر حضارى آخر متمم تمثله مؤسسة العسكرية المصرية الوطنية النبيلة، وبقدر ما كان كل مشارك فى مظاهرات هذه الثورة مشروعا لشهيد، فإن انحياز الجيش المصرى لمطالب ثورة الشعب المشروعة التى صدحت بها ميادين وشوارع مصر كلها، كان أيضا مشروعا لاشك فيه للشهادة، فى مواجهة نظام كان يود البقاء ولو فوق الأشلاء وبحيرات الدم، ولم يكن ذهابه محض تطوع كريم منه، بل استجابة لضغط هائل كتيم حكيم من المؤسسة العسكرية، ولقد التقط رأس النظام البائد الصوت الخفى لتأهبات السلاح الذى رفض أن يوجه فوهاته نحو صدور شعبه، مما عنى أنه مستعد لتوجيه هذه الفوهات نحو معاقل عصابة اللا أخلاق واللا ضمير، فكان الجيش المصرى ضميرا ساطعا، فكيف يلتقى الضمير بالضمير؟
فى شروق الثلاثاء كتب وائل قنديل مقالته «البرادعى والمجلس العسكرى»، حاملة دعوة للقاء، ولا أعرف إذا كانت تلك الرسالة قد وصلت بمثل تلك السرعة أم أن اللقاء كان من قبل على جدول المجلس العسكرى الذى بتنا ندرك أن لديه جدولا بخطوات حثيثة لكنها حاسمة وتكشف عن أنه كان يتفهم مطالب الشعب المشروعة مبكرا، ومنذ إعلاناته وبياناته الأولى قبل انجلاء الصورة، هكذا كان أول لقاءات الضمير بالضمير، ونتمنى أن تليها لقاءات أخرى تشمل كل أركان الضمير والعقول والبصائر المصرية، فما لنا من أمل حقيقى بالخروج من مآزق ومخاطر هذه المرحلة الحرجة نحو الأفق الآمل والآمن إلا بالاحتكام إلى قوة وإرادة الضمير والبصيرة والحق حيثما كان فى حنايا هذه الأمة.
ولمناسبة الحديث عن الضمير، فإنه تلح علىَّ عدة مسائل عاجلة أصوغها فى رسائل موجزة للضمير المصرى بشقيه، المجلس العسكرى كما قوى الثورة الشعبية:
1 ــ ينبغى أن نحذر التسرع الذى يدفعنا إليه مسوقو المشروع النووى الذين اختاروا هذا الوقت الحرج لتعجيل مناقصات المفاعل النووى وتوقيعها فى غضون «الأيام القليلة الماضية» كما دأبوا على إعلان ذلك مؤخرا، بالرغم من أن الدلائل تتزايد على ضرورة إعادة النظر فى مخاطره وجدواه مقارنة بوسائل أمنة ومستديمة للحصول على الطاقة، وليست نكسة مفاعل «بوشهر» النووى ببعيدة عنا مكانا وزمانا وملابسات، أما تسويغ التسويق تحت قناع أنه قضية وطنية ضد فساد من كانوا طامعين فى أرض الضبعة، فهذه حجة باتت الآن زائفة بعد مسلسل ملاحقات ضباع نهب أراضى الدولة من محاسيب نظام ضمير اللا أخلاق واللا ضمير الساقط. كما أن هناك مشاريع بديلة لجعل الضبعة موقعا مهما فى مجال الطاقة الآمنة والمتجددة سأوالى الكتابة فيه وأدعو لاستكتاب العارفين به.
2 ــ لا أظن بقاء بقايا وزراء النظام البائد واستمرار وزارة شفيق تساوى العبء الإضافى الذى تشكله على جانبى معادلة ثورة الضمير المصرى، شعبا وجيشا، فى هذه اللحظات الحرجة. ومصر لن تعدم أكفاء متطوعين لتقديم أقصى الجهد فى وزارة إنقاذ، لا أقل من ذلك.
3 ــ عودة جهاز الشرطة بشكل فاعل ليست منه من أفراد هذا الجهاز كما أنها ليست ضعفا من شرفائهم، بل هى عمل وطنى كبير علينا أن نرعاه بضمير يصون كرامة الشرطة كما كرامة المواطن. وبقدر ما ينبغى تغليظ عقوبة تجاوزات الجانحين من هذا الجهاز فائق الأهمية، بقدر ما ينبغى أن يكون هناك تغليظ أشد لأى جانح أو متجاوز يعتدى بالقول أو الفعل على رجال الشرطة ضباطا وجنودا وهم يؤدون عملهم الكبير النبيل.
4 ــ الضمير يخبرنا أن ثورة الضمير المصرى ينبغى ألا تنسحب أو تتراجع لصون ما تحقق من إنجازات واستكمال ما يؤهل ويؤهب لمصر جديدة، مصر الأخلاق والضمائر، وهذه لا تتطلب فقط حرارة الاندفاع، بل أنوار العقل والحفاظ على كينونة الدولة التى هى وعاء كيان مصر الأمل. فلنعرف متى وكيف نتظاهر، ومتى وكيف نتوقف، ومتى وكيف يكون تظاهرنا بانيا لا هادما لما ترتجيه الضمائر
لم أُعدُّ فى رأسى ما يمكن أن أطرحه فى هذا اللقاء، ولا خطر لى أن لدىَّ شيئا أقوله، فالهدف الذى أضاء داخلى عندما تلقيت الدعوة، هو تأمل هذا الرجل، واختبار إحساسى بظاهرته التى وصفتها منذ ظهوره فى حياتنا السياسية بأنها «شجاعة الوداعة»، فالرجل الهادئ، الذى يتلعثم قليلا ولا يكاد صوته يرتفع، إنما يشع بجسارة لا يتمتع بها مشاهير الرفض الحنجورى، وهو برغم هدوئه وصوته الخفيض، لم يعبأ منذ اللحظة الأولى بالمحاذير التى يناور حولها كثيرون من نجوم المعارضة، بل طرح بطمأنينة قلب سليم ما كان كفيلا بتعريضه للاغتيال أو السجن أو التضييق أو تلفيق الفضائح الكاذبة، وقد بدأوا معه من آخر هذه القائمة لعله ينكسر أو يرتدع، لكنه واصل بطمأنينته وهدوئه السير فى طريق رفضه لعوار نظام حسنى مبارك، بادئا من رأس هرم الاستبداد والفساد، وقدَّم رؤية مُركَّزة لمصر ديمقراطية وعادلة ومستنيرة ومتحضرة. صحيح أنه لم يكن مُناضلا ميدانيا، وصحيح أنه لم يرابط طويلا على الأرض التى يطمح لتغيير صورتها إلى الأجمل، لكنه لم يتراجع لحظة فى طرحه. قدَّم رؤى عملية للتغيير بدت رومانسية وغير ذات جدوى، كجمع مليون توقيع على المبادئ السبعة للجمعية الوطنية للتغيير، وبشَّر بأن نزول مليون مصرى إلى الشارع كفيل بإسقاط النظام، وبدا ذلك للكثيرين حينها، وأنا منهم، محض نضال نخبوى بعبق أوروبى، لكن الواقع الذى تجلَّى فى انتفاضة الشباب التى تحولت إلى ثورة شعبية جامعة، جاء تصديقا لصفاء رؤية الرجل الهادئ المطمئن، والتى التقطت صدقها خيرة القلوب الكبيرة كما القلوب الغضة السليمة لأنقى رجال وشباب مصر على اختلاف أطيافهم، فرسَّمت البرادعى أملا، وغنت أصواتُ فَتية باسمه للتغيير.
فى الحديقة الصغيرة اللطيفة لبيت الرجل صنعت مقاعدنا التى لم تزد على عشرة دائرة ودودة، كان الرجل نقطة على قوسها لا نجما فوقها، ولاحظت أن سيدة البيت تسلك سلوكا يشبهنا، يشبه ما عهدنا أمهاتنا وأخواتنا فى البيوت المصرية كريمة الأصل يفعلنه عند استقبال الضيوف، فبعد أن رحبت بقدومنا بجوار زوجها وقدمت واجب الضيافة، انسحبت وجلست عند باب الحديقة مقدرة بتواضع صادق أن مكانها هو موقع الرعاية لا الوصاية تجاه زوجها الذى تحترمه وتحترم ضيوفه، وقد فعلت ذلك بهدوء مطمئن كما زوجها، وشجاعة ووداعة تماثل شجاعته، برغم أن هذا البيت، بيتها، كان عرضة لمخاطر مخيفة قبل سقوط الطاغوت، ولم تزل ظلال المخاطر ماثلة ما دام للطاغوت فلول وذيول.
كنت أتأمل من حولى البشر والشجر وأنا أصغى للمتحدثين دون تأهب للمشاركة، لكننى بدأت استنفر عندما سمعت إلحاحا من بعض الحاضرين والحاضرات على وجوب أن يعلن الرجل عن نيته الترشُّح للرئاسة، أسوة بمن تسابقوا فى إعلان ذلك أو ناوروا فى الإيحاء به، بحجة أن ذلك يزكى مشاعر الشباب ويبدأ فى شق طريق العمل فى هذا الاتجاه، عندئذ شعرت بالفزع برغم وثوقى فى صدق وبراءة هذه الدعوة، ووجدتنى أتكلم.
رجوت الدكتور البرادعى ألا يستجيب لهذه الدعوة الكريمة الآن على أى نحو، وبررت ذلك بأن إعلانه عن نيته الترشح للرئاسة التى أوضح من قبل أنها ليست هدفه، وكان صادقا فى ذلك ولايزال، ستجعله يصطف فى طابور المتسابقين على المغانم، وهو أبعد ما يكون عن معظمهم، إن لم يكن كلهم، لأن له مكانا آخر أثبت جدارته فى شغله، كونه نقيضا واضحا للنظام الذى جاهر بضرورة تغييره. فالنظام الساقط لو أردنا له توصيفا جامعا لوجدنا أنه كان نظام غياب الضمير وانعدام الأخلاق، بدليل كل ممارساته الفاسدة من نهب وسلب لمقدرات الأمة وبلطجة قامعة لأبنائها وتزوير لإرادتها وتعطيل للقانون وتشويه للتشريع وتسييد للسفلة، هذه كلها كانت ممارسات إجرامية لتشكيل عصابى باتساع الوطن، أفراده من السيكوباتيين الذين تجمعهم خصال السيكوباتية الواضحة من كذب ومراوغة وعدوانية وسرقة وعمى بصيرة فادح وفاضح. وفى مواجهة نظام شديد البشاعة على هذا النحو، يكون التغيير واضح المعالم، ويتلخص فى إقامة نظام جديد قوامه رفعة التسامى وسمو الضمير، وصلابة السوية فى القائمين عليه.
قلت إننى لطالما تمنيت أن يكون فى سدة الحكم رجال كالدكتور البرادعى أو الدكتور محمد غنيم أو غيرهم من المصريين الأفاضل ذوى المصداقية الواضحة والصلابة الأخلاقية والإيمان برفعة القانون وبهاء العدالة والعدل. أناس هم طلاب حق لا سُلطة، إلا لو دعاهم إليها داعى أداء الواجب، كونها تكليفا لا تشريفا، ومغرما يستحق التضحية لا مغنما يدعو إلى المزاحمة. باختصار نحن فى هذه المرحلة المتوترة والمضطربة أشد ما نكون حاجة للرجال الضمائر، والدكتور البرادعى نموذج لهم، وينبغى الآن أن يظل كذلك، لهذا رجوته ألا يستجيب الآن لدعوة الداعين إلى إعلانه نيته الترشح للرئاسة.
لقد دارت فى لقاء الاثنين الماضى مناقشة تُفاضِل بين النزول إلى الميدان والاكتفاء بدور الضمير، وكان رأيى ولا يزال هو أن كلا ميسرا لم خُلق له، ليقدم كل إنسان لهذه الثورة أفضل ما تيسره له ملكاته. وبرزت فى ثنايا النقاش نقطة غائمة عن أناس يمثلون «الضمير»، كالدكتور البرادعى وغيره، لم تشملهم لقاءات المجلس العسكرى على كثرتها، خاصة والمجلس العسكرى نفسه، وباستقراء المشهود على الأرض، وما يمكن استشفافه من توالى الوقائع، كان ضميرا وطنيا لاشك فيه، فلماذا لا يلتقى الضمير بالضمير؟
أجمعنا فى هذا اللقاء على أن الجيش كان الوجه العسكرى لضمير الأمة فى هذه الثورة، وأن المظهر الحضارى لثورة 25 يناير لدى قواها المدنية كان يواكبه مظهر حضارى آخر متمم تمثله مؤسسة العسكرية المصرية الوطنية النبيلة، وبقدر ما كان كل مشارك فى مظاهرات هذه الثورة مشروعا لشهيد، فإن انحياز الجيش المصرى لمطالب ثورة الشعب المشروعة التى صدحت بها ميادين وشوارع مصر كلها، كان أيضا مشروعا لاشك فيه للشهادة، فى مواجهة نظام كان يود البقاء ولو فوق الأشلاء وبحيرات الدم، ولم يكن ذهابه محض تطوع كريم منه، بل استجابة لضغط هائل كتيم حكيم من المؤسسة العسكرية، ولقد التقط رأس النظام البائد الصوت الخفى لتأهبات السلاح الذى رفض أن يوجه فوهاته نحو صدور شعبه، مما عنى أنه مستعد لتوجيه هذه الفوهات نحو معاقل عصابة اللا أخلاق واللا ضمير، فكان الجيش المصرى ضميرا ساطعا، فكيف يلتقى الضمير بالضمير؟
فى شروق الثلاثاء كتب وائل قنديل مقالته «البرادعى والمجلس العسكرى»، حاملة دعوة للقاء، ولا أعرف إذا كانت تلك الرسالة قد وصلت بمثل تلك السرعة أم أن اللقاء كان من قبل على جدول المجلس العسكرى الذى بتنا ندرك أن لديه جدولا بخطوات حثيثة لكنها حاسمة وتكشف عن أنه كان يتفهم مطالب الشعب المشروعة مبكرا، ومنذ إعلاناته وبياناته الأولى قبل انجلاء الصورة، هكذا كان أول لقاءات الضمير بالضمير، ونتمنى أن تليها لقاءات أخرى تشمل كل أركان الضمير والعقول والبصائر المصرية، فما لنا من أمل حقيقى بالخروج من مآزق ومخاطر هذه المرحلة الحرجة نحو الأفق الآمل والآمن إلا بالاحتكام إلى قوة وإرادة الضمير والبصيرة والحق حيثما كان فى حنايا هذه الأمة.
ولمناسبة الحديث عن الضمير، فإنه تلح علىَّ عدة مسائل عاجلة أصوغها فى رسائل موجزة للضمير المصرى بشقيه، المجلس العسكرى كما قوى الثورة الشعبية:
1 ــ ينبغى أن نحذر التسرع الذى يدفعنا إليه مسوقو المشروع النووى الذين اختاروا هذا الوقت الحرج لتعجيل مناقصات المفاعل النووى وتوقيعها فى غضون «الأيام القليلة الماضية» كما دأبوا على إعلان ذلك مؤخرا، بالرغم من أن الدلائل تتزايد على ضرورة إعادة النظر فى مخاطره وجدواه مقارنة بوسائل أمنة ومستديمة للحصول على الطاقة، وليست نكسة مفاعل «بوشهر» النووى ببعيدة عنا مكانا وزمانا وملابسات، أما تسويغ التسويق تحت قناع أنه قضية وطنية ضد فساد من كانوا طامعين فى أرض الضبعة، فهذه حجة باتت الآن زائفة بعد مسلسل ملاحقات ضباع نهب أراضى الدولة من محاسيب نظام ضمير اللا أخلاق واللا ضمير الساقط. كما أن هناك مشاريع بديلة لجعل الضبعة موقعا مهما فى مجال الطاقة الآمنة والمتجددة سأوالى الكتابة فيه وأدعو لاستكتاب العارفين به.
2 ــ لا أظن بقاء بقايا وزراء النظام البائد واستمرار وزارة شفيق تساوى العبء الإضافى الذى تشكله على جانبى معادلة ثورة الضمير المصرى، شعبا وجيشا، فى هذه اللحظات الحرجة. ومصر لن تعدم أكفاء متطوعين لتقديم أقصى الجهد فى وزارة إنقاذ، لا أقل من ذلك.
3 ــ عودة جهاز الشرطة بشكل فاعل ليست منه من أفراد هذا الجهاز كما أنها ليست ضعفا من شرفائهم، بل هى عمل وطنى كبير علينا أن نرعاه بضمير يصون كرامة الشرطة كما كرامة المواطن. وبقدر ما ينبغى تغليظ عقوبة تجاوزات الجانحين من هذا الجهاز فائق الأهمية، بقدر ما ينبغى أن يكون هناك تغليظ أشد لأى جانح أو متجاوز يعتدى بالقول أو الفعل على رجال الشرطة ضباطا وجنودا وهم يؤدون عملهم الكبير النبيل.
4 ــ الضمير يخبرنا أن ثورة الضمير المصرى ينبغى ألا تنسحب أو تتراجع لصون ما تحقق من إنجازات واستكمال ما يؤهل ويؤهب لمصر جديدة، مصر الأخلاق والضمائر، وهذه لا تتطلب فقط حرارة الاندفاع، بل أنوار العقل والحفاظ على كينونة الدولة التى هى وعاء كيان مصر الأمل. فلنعرف متى وكيف نتظاهر، ومتى وكيف نتوقف، ومتى وكيف يكون تظاهرنا بانيا لا هادما لما ترتجيه الضمائر
بقلم:محمد المخزنجي - الشروق
No comments:
Post a Comment