Sunday, March 27, 2011

ماذا بقى من إرث عبدالرحمن بدوى؟ (١٩١٧- ٢٠٠٢)

والسؤال اللازم من العنوان هو على النحو الآتى:

مَنْ هو عبدالرحمن بدوى، وما هو إرثه؟

هو من الأساتذة العظام الذين علمونى التفلسف وأنا طالب بقسم الفلسفة بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول (القاهرة الآن)، وهو الذى أشرف على رسالتى، التى كنت أعدها لنيل درجة الدكتوراة فى الفلسفة، إلا أن إشرافه قد توقف بسبب تعيينه مستشاراً ثقافياً بسفارتنا فى سويسرا، واستكمله أستاذى نجيب بلدى، أستاذ الفلسفة بجامعة الإسكندرية.

كان «بدوى» فى حالة صدام مع السلطة السياسية فى أغلب الأحيان، وبالتالى كان فى حالة هجرة متواصلة. وأظن أن كتابه الأخير «سيرة حياتى» هو تعبير صارخ عن هذه العلاقة العضوية بين الصدام والهجرة، بل هو تعبير صارخ عن أزمة المثقف العربى عندما يكون جريئاً فى التحرش بالمحرمات الثقافية.

والسؤال بعد ذلك:

ما هو إرثه؟

إرثه يمتد من الفكر الأوروبى إلى الفكر الإسلامى عبر التأليف والترجمة وتحقيق التراث. إلا أن بداية شهرته جاءت من رسالة الدكتوراة وعنوانها «الزمان الوجودى»، التى قال عنها طه حسين إنها تشهد على مولد فيلسوف مصرى. ومع ذلك كله فأنا أظن أن ما بقى من هذا الإرث «مقدمة» حررها لكتابه المعنون «التراث اليونانى فى الحضارة الإسلامية» (١٩٤٠).

والكتاب جملة دراسات لكبار المستشرقين، انتقاها «بدوى» لكى يدلل على إشكالية العلاقة بين العالم الإسلامى والغرب، وهى إشكالية يحار فى فهمها مفكرو هذا العصر، وفى مقدمتهم صموئيل هنتنجتون، صاحب الكتاب، الذى أثار ضجة دولية والمعنون «صدام الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمى الجديد» (١٩٩٧).

والإثارة مردودة إلى رؤيته التى يمكن إيجازها فى حتمية الصدام بين العالم الإسلامى والغرب.

وأنا أظن أنه على الرغم من صغر حجم «مقدمة» بدوى، إذ هى لا تتجاوز سبع صفحات إلا أنها تكشف عن أساس الصراع القائم الآن بين العالم الإسلامى والغرب، الذى سيدفع الاثنين إلى قطيعة قد تنتهى إلى تدمير الحضارة الإنسانية.

والمفارقة هنا أن أحداً لم يلتفت إلى هذه المقدمة، وأن أحداً لم ير مغزى انتقاء «بدوى» لتلك الدراسات. فـ«بدوى» يرى أنه ليس فى الإمكان تحديد طابع الحضارة الإسلامية إلا من موقفها من الحضارة اليونانية.

وانتهى من ذلك إلى أن الأولى متباينة أشد التباين مع الثانية. ومن معرفتنا لهذا التباين نستطيع فهم الصراع العنيف الذى قام بين كلتا الروحين. وأهم ما فى هذا التباين أن الروح اليونانية تمتاز بالذاتية، أى بشعور الذات الفردية بكيانها واستقلالها، بينما الروح الإسلامية تُفنى الذات فى كُلٍ يعلو على الذوات كلها. وإنكار الذاتية يتنافى مع تأسيس المذاهب الفلسفية كل المنافاة، لأن المذهب ليس إلا التعبير عن الذات فى موقفها إزاء الطبيعة الخارجية.

أما الروح التى تشعر بفنائها فى غيرها وعدم استقلالها بنفسها فلا تستطيع تصور الأفكار إلا على صورة «الإجماع».

ولما كان هذا الإجماع غير ممكن التحقيق إذا كانت هذه الأفكار صادرة عن فرد أو أفراد فإنها لا تفهم هذا الإجماع إلا على أنه «كلمة» هذه القوة العليا التى تفنى فيها وتخضع لها كل الخضوع، باعتبارها مخلوقة لها وصادرة عنها. الفلسفة إذن منافية لطبيعة الروح الإسلامية. ولهذا لم يُقدّر لهذه الروح أن تنتج فلسفة، بل لم نستطع فهم روح الفلسفة اليونانية. ولهذا انتشرت فتوى ابن صلاح الدين الشهرزورى (مات ٦٤٣ هـ) الخاصة بتحريم الاشتغال بالمنطق لأن مَنْ يشتغل بالمنطق يستحوذ عليه الشيطان. ومنذ تلك الفتوى اعتبر الاشتغال بالمنطق من بين الأشياء المحرمة على المؤمن.

ومع ذلك كله فأنا أظن أن ثمة بارقة أمل فى مشروعية الخروج على الإجماع بموت الجامعة العربية فى الثانى من سبتمبر من العام الماضى. وأنا أظن أيضا أن سبب هذا الموت مردود إلى لزوم الإجماع عند اتخاذ القرارات المصيرية على نحو ما جاء فى ميثاق الجامعة. وتأسيساً على ذلك يمكن القول إنه مع موت الإجماع بموت الجامعة العربية يتعافى المجتمع العربى ويكون صالحاً لرفع التناقض بينه وبين الغرب، ومن ثم للدخول فى حوار معه دفاعاً عن الحضارة الإنسانية

د.مراد وهبة - المصرى اليوم

No comments: