رغم النوايا الحسنة فإن الهوة تزداد اتساعاً بين المواطنين ورجال الشرطة، وكشفت واقعة ضابط المعادى مع سائق الميكروباص ذلك الاتساع، وجاء شريط الفيديو الخاص بحديث «الأسياد والجزمة» ليثير كل الشجون لدى المواطنين. صحيح أن وزير الداخلية قام بعزل مدير أمن البحيرة الذى تفوه بهذه الكلمات، لكن الأثر لايزال قائماً، وحديث الوزير نفسه فى التليفزيون المصرى إلى زميلنا خيرى رمضان أكد أن العقلية القديمة لم تتغير كثيرا.
الأزمة قديمة بين المواطنين وجهاز الشرطة، وقد تفجرت فى أحداث عديدة، وليتنا نتذكر حين تم عزل اللواء النبوى إسماعيل من وزارة الداخلية، فى بداية حكم الرئيس مبارك، وجاء بدلا منه اللواء حسن أبوباشا، وزيراً للداخلية، ورفع شعار «الشرطة فى خدمة الشعب» وأقر بوجود مندوب علاقات عامة يكون أقرب إلى الإخصائى الاجتماعى ليستقبل المواطنين فى مدخل كل قسم بوليس.. لكن شواهد الأمور تثبت أن تغييرا جوهريا لم يحدث، وفتح ملف الشرطة مرة ثانية أيام أحداث الأمن المركزى سنة ١٩٨٦، ثم تكرر الأمر فى التسعينيات أيام حوادث الإرهاب، وها نحن الآن نعود إلى نقطة الصفر مع فارق فى الدرجة.
والحقيقة أن وزارة الداخلية تحتاج إلى إصلاح جذرى، خاصة بعد ما تكشف من تجاوزات وإجرام اللواء حبيب العادلى، الذى لا يحاكم على أى من جرائمه الحقيقية ويحاكم فقط على جريمة غسل أموال.. والبداية تكون من كلية الشرطة نفسها، حيث ذكر عدد من ضباط الشرطة، وعدد من أساتذة الكلية، أن طرق التدريس والتدريب فى الكلية تقوم على تنمية النزعة السادية لدى الطالب، وحين يتخرج يكون مستعداً نفسيا لإيذاء الآخرين، وقد يوغل بعضهم فى الإيذاء، كما رأينا فى حالة الضابط الذى عذب «عماد الكبير» وغيره من المواطنين. صحيح أن هناك ضباطاً يمكنهم أن يتجاوزوا نزعة السادية المدمرة، لكن هناك من يصابون بها.
لقد كشف العميد محمود قطرى فى كتابه الوثيقة «يوميات ضابط فى مدينة الذئاب» الطريقة التى يتم بها تأهيل ضابط الشرطة، ولابد من إعادة صياغة طرق التدريس والتدريبات فى كلية الشرطة، لتقوم على احترام كرامة وحقوق الإنسان، وليت الكلية تفتح الباب لالتحاق بعض الخريجين بها لينالوا دورة تدريبية، على طريقة ضباط الاحتياط بالجيش، لدخول نوعية جديدة من الضباط ذوى ثقافة تربّت وتكونت على التعامل بإنسانية مع الآخرين.
وإذا كانت كلية الشرطة تقدم أناسا لديهم نزعة سادية فإن قانون الطوارئ على امتداد ثلاثين عاما قدم أجيالا من الضباط تعودوا العمل خارج الإطار القانونى، ومن ثم لم تعد فكرة القانون واحترامه واردة لدى بعضهم، ولا تكونت لديهم قدرات بوليسية حقيقية من الذكاء والقدرة على التصرف بحنكة، ومع تزاوج السلطة ورأس المال ظهر دور جديد لبعض الضباط فى تأمين ذلك التزاوج فظهرت البلطجة، وصارت عملية مؤسسية وجدناها يوم «موقعة الجمل»، ومن قبل فى الانتخابات النيابية، عامى ٢٠٠٥، و٢٠١٠.
لقد وجدنا مدير أمن البحيرة المقال يبرر حديث «الأسياد والجزمة» بأنه كان يتناول المنحرفين، وكأنه مسموح له بالتعامل مع المنحرف بنظرية السادة والعبيد أو استعمال الجزمة «معه» لكنها خبرة وثقافة قانون الطوارئ الذى امتد ثلاثة عقود متتالية.
أدرك أن إعادة النظر فى مناهج تدريس كلية الشرطة وإسقاط قانون الطوارئ لن يحققا النتيجة المرجوة خلال أيام أو أسابيع، بل سوف تستغرق سنوات.. لكن هناك إجراء عاجلاً يمكن اتخاذه فوراً يتعلق بمنصب وزير الداخلية. والحقيقة أنه منذ عصر الرئيس السادات وحتى اليوم صار هذا المنصب محجوزاً لأحد السادة لواءات الشرطة، ولا أفهم الضرورة لذلك. قبل ثورة ١٩٥٢ كان يتولى هذا المنصب أحد المدنيين ومن السياسيين، وبعد ثورة ١٩٥٢ تولاه المستشار سليمان حافظ، وكيل مجلس الدولة، ثم تولاه البكباشى جمال عبدالناصر لعدة شهور، وخلفه فيه زميله زكريا محيى الدين، وقد قام بإعادة هيكلته، وقد لا يدرى بعضنا أن شعراوى جمعة أشهر وزير داخلية فى الستينيات كان «ضابط جيش» فى الأصل.
وإذا كنا الآن بإزاء إعادة بناء الدولة المدنية الوطنية الحديثة فلابد من العودة إلى اختيار شخصية مدنية لموقع وزير الداخلية، وليت هذه الشخصية تكون من ذوى الخلفيات القانونية واحترام كرامة الإنسان وكبريائه بما هو إنسان وفقط. والوزير يجب أن يكون شخصية سياسية يرسم سياسة الوزارة ويحددها. وإذا كان الوزير سياسياً فلن ينفصل عن الجو السياسى العام فى البلاد أو عن سياسة حزبه إن كان حزبياً
حلمى النمنم - المصرى اليوم
No comments:
Post a Comment