Thursday, March 24, 2011

حملة «نعم» و«لا».. أخطاء بالجملة

أسدل الستار على أول استفتاء يجرى فى ظل بشائر الديمقراطية، وفازت «نعم» بنسبة ٧٧% وحصدت «لا» ٢٣%، وكسب الشعب المصرى الخطوة الأولى على طريق الديمقراطية بسلوكه المتحضر والراقى، الذى أثبت فيه أن مخزونه الحضارى أكبر بكثير من حسابات ومعارك النخبة الضيقة.

والحقيقة أن هناك أسباباً كثيرة أدت إلى حسم المعركة مبكرا لصالح «نعم»، قد يكون من بينها توظيف الدين فى العملية السياسية، ولكن أيضا وربما أساسا ميل قطاع واسع من المصريين إلى الاستقرار الحقيقى (على غير طريقة مبارك)، وتجاوز حالة الفوضى، وفراغ السلطة، فاعتبروا «نعم» خطوة على هذا الطريق.

والحقيقة أن أى تيار لديه حد أدنى من التواصل مع هذه الجماهير كان لابد أن يخرج بهذه القناعة، وأن يؤسس حملته بطريقة مختلفة تماما عما فعله أنصار «لا» حين بدوا وكأنهم «نجوم FM» خاطبوا الناس من أعلى، وعبر إعلانات سخية غطت كثيراً من الصحف والفضائيات.

والحقيقة أن التصويت بـ«نعم» مثل رسالة قوية لمن يرغب فى أن ينتقل من المرحلة الأولى للثورة وهى هدم النظام إلى المرحلة الثانية وهى بناء النظام، ولكن على أسس جديدة تستلهم شرعيتها ومبادئها من الثورة، وتطرح خطاباً سياسياً جديداً يحترم المبادئ والقيم الدينية، ويؤسس لدولة مدنية ديمقراطية حديثة ويتواصل مع الناس عبر الشارع وليس فقط من خلال الـ«فيس بوك» و«تويتر» والإعلانات السخية.

فكما قللنا - Under estimated فى مرحلة سابقة (وكنا مخطئين) - من تأثير الإعلام البديل وركزنا على تعثراته، حتى جاءت ثورة ٢٥ يناير وأثبتت عبقريته السياسية وعمق تأثيره، فإنه حان الوقت أيضا ألا نبالغ «Over estimated» فى تأثيره بعد أن رأينا حضور أكثر من ٤٠ مليون مصرى فى الاستفتاء على تعديل المواد الدستورية، وأن التواصل معهم لا يمكن أن يكون فقط عبر الـ«فيس بوك»، إنما لابد أن يكون عبر تقديم خطاب سياسى قريب من همومهم وطموحاتهم.

والمؤكد أنه يحسب للإخوان المسلمين أنهم كانوا أقرب إلى نبض الناس فى معركة الاستفتاء على الدستور من غيرهم من القوى السياسية، ولكن ما يحسب عليهم أنهم تواطأوا ولو بالصمت فى تلك الحملات شبه التكفيرية التى خرجت من أجل اعتبار «نعم» واجباً شرعياً، وشنت حملة كاذبة على «لا» بتضليل بعض الناس حين قالت أن المادة الثانية من الدستور ستعدل (ذكر لى أحد البسطاء أنهم قالوا له فى مسجد قريته إن التصويت «بلا» يعنى «إلغاء الإسلام من البلد») وأن فوز «لا» يعنى مجىء مسيحى لحكم مصر).

ورغم سوء حملة «نعم»، وحملة «لا»، فإن المدهش أن ظل فى عجزٍ كثير من النخب المدنية واليسارية عن التواصل مع بسطاء الناس وعدم قدرتهم على تقديم قراءة صحيحة للحظة التى تمر بها البلاد، ويشعر فيها كثير من المصريين بأنهم بحاجة إلى التقدم للأمام وإعادة البناء ومواجهة الفوضى وفراغ السلطة ومحاسبة الفاسدين وقتلة الشعب المصرى وجلاديه، حتى بدت «لا» فى تلك اللحظة عكس كثير من هذه المعاني.

وقد بدا مدهشا أن هذه القراءة أكدها لنا مدير معهد الدراسات الإاتراتيجية والأمنية التابع للاتحاد الأوروبى (وهو المعهد الذى يضع كثيراً من توجهاته الاستراتيجية والسياسية الكبرى) د. ألفارو دى فاسكنسيلوس حين التقينا فى القاهرة مساء الأحد الماضى وكان فى زيارة خاطفة للقاهرة، وكنا مجموعة قاربت العشرين، أذكر منهم اثنين من رموز جيل الوسط مصطفى حجازى وخالد قنديل، والمحامى اللامع كريم سرحان، واثنين من شباب الباحثين رابحة علام ونادين عبدالله ومجموعة أخرى من النشطاء والباحثين الشباب.

وقد قال الرجل - وهو برتغالى الجنسية ومناضل يسارى سابق ومنحاز بشكل جدير بالاحترام للقضايا العربية - إنه إذا كان مصرياً سيصوت بـ«نعم»، لأنها تعنى عقب أى ثورة خطوة للأمام لا عودة للخلف.

وقد قدم صديقنا محاضرة ممتعة عن تحديات تجربة التحول الديمقراطى، وكيف أن الثورة فى البرتغال جاءت عن طريق انقلاب عسكرى عام ١٩٧٤ قامت به «حركة القوات المسلحة» وليس ثورة شعبية كما جرى فى مصر، وذكر كيف أن باقى الدول الأوروبية كانت تعتبر البرتغال غير قابلة للتطور الديمقراطى لأنها دولة كاثوليكية منغلقة، فيها الدين مهيمن على الحياة العامة، وكيف أن قوى التطرف الدينى المرتبطة بالكنيسة وقوى التطرف العلمانى المرتبطة بالحزب الشيوعى حصلت على ١٠%، فى حين حصل باقى القوى الاشتراكية الديمقراطية والليبرالية على أغلب المقاعد، وتحدث عن مشاهد جرت فى البرتغال عام ١٩٧٤ وكأنها تجرى فى مصر ٢٠١١.

والمؤكد أن المشكلة المصرية لم تكن فى التصويت بـ«لا» أم «نعم»، إنما فى حالة التعبئة والاستقطاب الدينى التى جرت بسبب تعديل بعض مواد الدستور، والذى يفترض أن يكون عملية توافقية، لأن أى مجتمع يتحول نحو الديمقراطية يصبح الدستور هو القيمة أو المعنى الوحيد الذى يجب أن يتوافق عليه الجميع ويشعر فيه المسلم والمسيحى والشيعى والبهائى واليسارى والليبرالى والإسلامى، بأن كرامته وحقوقه مصانة، وهو أمر يختلف عن الانتخابات التشريعية التى يجب أن يكون فيها منتصراً أو مهزوماً، وعن القانون الذى يجب أن يمتلك سلطة إجبار لمحاسبة المخالفين، أما الدستور فهو نقطة التوافق والتراضى التى تضبط حركة المجتمع ككل.

من المؤكد أن هذه الانتخابات أفرزت استقطابا غير صحى بين النخب السياسية والدينية، ولم يكن موقفا حكيما (ولو بحسابات السياسة أو المصلحة) حَشْد قيادات الكنيسة جموع الأقباط خلف «لا» لمجرد أن الإخوان قالوا «نعم»، كما أن صمت الإخوان على دعوات وصفت استفتاء على مواد دستورية بـ«غزوة الصناديق» وبـ«نعم» للدين»، يعكس كثيراً من الحسابات الضيقة التى من شأنها أن تنسف عملية التحول الديمقراطى بالكامل إذا لم تضع قواعد صارمة تنظم هذه العملية وتحاسب من يخرج عنها.

مخطئ مَن يتصور أن تأجيل الانتخابات التشريعية سنتين فى صالح القوى السياسية المدنية والجديدة، إنما هو أمر سيكون فى صالح التيارات الدينية التى تتحرك الآن دون أى نظام قانونى، فى حين أن انتخاب رئيس وبرلمان قبل نهاية العام من شأنه أن يساعد على وضع القواعد التى سيؤسس عليها الدستور الجديد والدولة المدنية، لأن وجود دولة وقانون أمر فى صالح العقل والمدنية والديمقراطية، فى حين أن فراغ السلطة ودولة المواءمات هو المناخ المثالى لانتشار الأفكار الدينية المتشددة والمنغلقة.

إن مصر بحاجة لانتخابات رئاسية أولاً تقيم نظاماً رئاسياً ديمقراطياً يؤسس لسلطة منتخبة، تعيد الهيبة لدولة القانون قبل أن تصبح الفوضى وفراغ السلطة عنصر ضغط على الجميع، يدفعهم لقبول نظام غير ديمقراطى لمجرد أنه يحميهم من غياب الأمان.

د. عمرو الشوبكى - المصرى اليوم

amr.elshobaki@gmail.com

No comments: