قال إن البوعزيزى هو مسيح هذا الزمان.. الكونى: الشعب الليبى لقن العالم درسا بأيد خاوية وصدور عارية
لأديب ليبيا الأهم إبراهيم الكونى اثنان وسبعون كتابا، توزعت ما بين الروايات والنصوص النثرية والأعمال الفكرية والنقدية، وأربعون عاما من المنفى، الإجبارى، كما يؤكد، وعلاقة ملتبسة مع الإبداع، خصوصا إبداع الصحراء، وأخرى مع السلطة والنظام الليبى.
من هناك، من سويسرا، التى تبعد كثيرا عن وطنه ليبيا، ولا يشبه أناسها، فى شىء، قبائل الأمازيغ التى ينتمى إليها الكونى، انتماء جر عليه مرارات، تحدثنا إلى الكاتب عبر الهاتف والبريد الإلكترونى، ووصلتنا عبر الفاكس ردوده، بل أفكاره، مكتوبة بخط يده، عن الثورة من تونس إلى مصر إلى ليبيا، بما يميز كل منها عن الأخرى، وعن الكتابة، وعن العروبة والمواطنة والاغتراب، وعن التطاول والسب والقذف، فى حوار اختص به «الشروق»، بعد أن أخرجته التطورات الأخيرة، التى تشهدها بلاده عن صمته، خاصة فيما يتعلق بالسياسة، وإلى نص الحوار
●هذه الأيام الثورات العربية هى الحديث والحدث الرئيسى: كيف تلقيت نبأ الشرارة الأولى التى بدأت من تونس؟
ــ سؤالك الافتتاحى هذا يذكرنى بالسؤال الاختتامى الذى وجهته لى الصحفية القائمة على أمر القسم الثقافى بأهم صحف سويسرا الألمانية وهى «نوير زورخر زايتونغ» منذ أسابيع عندما استفهمت عما إذا كنت أنوى معالجة ظاهرة الثورات العربية بعمل روائى، فقلت إننى (إذا قررت أن أفعل) فلن أذهب لمعاندة النتيجة على طريقة المؤرخ، ولكننى سأرحل إلى الجذور، إلى السبب، إلى «البوعزيزى»، الذى وصفته بذلك اللقب الذى استعارته بعد ذلك وسائل الإعلام الأوروبية، وهو: «البوعزيزى: مسيح هذا الزمان» ليقينى بأن صليب هذا الرجل هو الذى أشعل فتيل الحريق الذى زعزع العالم.
وإذا كنت قد عشت الحدث كما عاشه الكل، فإنه لم يكن مفاجئا بالنسبة لى، لأن الحدس بما سيحدث كان لى هاجسا فى الثلاث سنوات الأخيرة. وقد تحول الاشمئزاز من حال الأنظمة العربية إلى كابوس وجودى ضاعف فينا داء «الماليخوليا» مما يقطع بحساسية الروح المبدعة التى كثيرا ما ترتقى إلى مستوى النبوءة. وهو ما يبرهن على صواب نظرية ابن خلدون عن النبوة.
●هل توقعت أن يكون للثورات هذا الامتداد وصولا إلى ليبيا خاصة؟
ــ كنت على يقين أن الحريق سيمتد إلى ليبيا لا لأن حديدية القبضة لم تكن يوما للأنظمة الشمولية حصانة وحسب، ولكن بسبب استهانة النظام بحقيقة الإنسان الليبى التى بلغت الذروة فى الاستهتار بدفعه إلى اليأس. واليأس، كما نعلم، هو القشة القادرة دوما على قصم ظهر البعير.
فالإنسان الليبى أُخضع لأعسر أجناس الامتحان، ولكنه صبر برغم ذلك ففُسّر صبره ذلا، الإنسان الليبى تسامح كما لم يتسامح شعب، ولكن تسامحه فسر غفلة.
الإنسان الليبى غفر كما لم يغفر فى التاريخ شعب، وفسر غفرانه ضعفا. ولهذا السبب استطاع هذا الشعب أن يلقن العالم درسا لا ينسى عندما انتفض. استطاع أن يلقن العالم درسا تاريخيا لأنه الشعب الوحيد الذى خرج ليعبر عن نفاد صبره بأيد خاوية، وصدور عارية ليواجه آخر ما توصلت إليه التقنية الحربية من جنون.
لقد عرف العالم ثورات كثيرة، ولكن ما يميز هذه الثورات (من إنجليزية وفرنسية وروسية) عن الثورة فى ليبيا هو طبيعتها المسلحة، فى حين يستطيع الليبيون أن يتباهوا بطبيعة ثورتهم السلمية. ولهذا كان الثمن المدفوع أفدح إذا ما قورن بالثورتين المصرية والتونسية، لأن طبيعة النظام الذى لم يعتد سماع صوت الرأى المخالف هى التى فرضت على هذه الثورة التحول إلى مسلحة بسبب وحشية القمع بالذات.
لقد جاهرت بالقول فى ليبيا مرارا، بأن الاختلاف فى الرأى ليس معارضة، كما أن المعارضة ليست عداوة. وقد عبرت عن هذا الرأى بمقال فى جريدة «أويا» بطلب من نجل القذافى سيف الإسلام، كما عبرت عن هذه القناعة للقذافى شخصيا مرارا، ولكن بلا جدوى. ولهذا السبب رفضت المشاركة فى «لجنة المصالحة»، التى عرضت على من قبل أحد الأعيان ليقينى بأن الأوان قد فات.
●ما رأيك فى التدخل العسكرى بليبيا؟ هل هو فى صالحها؟ وهل تتوقع أن يسفر عن احتلال؟
ــ يقينا نحن لسنا سعداء باستعانة المجتمع الدولى بالقوة العسكرية لقمع حاكم يقمع شعبه الأعزل، ولن نكون سعداء أيضا لأن وطننا الذى شئنا له الخلاص هو الذى يقصف اليوم، ولكن الليبيين لم يستجيروا بالمجتمع الدولى إلا بعد أن استنفدوا الحيل لإيقاف نزيف الدم. أما الاحتلال ففزاعة يتشدق بها النظام لإرهاب الليبيين، لأننا لن نرضى باستبدال هيمنة بهيمنة أخرى.
●عندما يتلقى أديب فى منفاه الاختيارى أنباء كالتى تجرى فى ليبيا الآن، ما الذى يتغذى لديه شعور الانتماء إلى الوطن، أم الاغتراب؟
ــ اسمحى لى أن أصحح لشخصك النبيل أن منفاى لم يكن اختياريا كما يظن الكثيرون. فهذا الإنسان الذى تحاورينه اليوم كان بالأمس البعيد أول إنسان يتعرض لجور النظام. فقد اختلفت مع رأس النظام فى أول مؤتمر صحفى عالمى يعقده بعد انقلاب 1969م، وكان دور الانتلجنسيا فى المجتمع الجديد هو جوهر الخلاف. وبرغم استنكار أن يكون للمثقف دور فى هذا المجتمع إلا أن جدلى مع رئيس مجلس قيادة الثورة آنذاك انتهى بوعد عن عقد ندوة للنقاش. وقد انعقدت هذه الندوة بالفعل فى بدايات عام 1970م لا لتبحث دور المثقف فى مجتمع الثورة، ولكن لتجس نبض الاتجاهات السياسية والحزبية والعقائدية للنخبة، فكان أن اختلفت مع القذافى فى جدل عنيف كان كفيلا بوضعى فى قائمة الأجهزة السوداء إلى الأبد، مما اضطرنى للفرار إلى تونس.
ومن تونس إلى موسكو حيث التحقت بالدراسة بمعهد «غوركى» للأدب العالمى بمنحة من اتحاد الكتاب السوفييت. وكنت أجازف بزيارة ليبيا بين الفينة والأخرى برغم المطاردة.
وكانت العناية الإلهية وحدها هى التى أجارتنى، لأن أوامر الاعتقال كانت تصدر بحقى فى كل مرة، وكان رجال الأجهزة يأتون إلى الفندق بعد مغادرتى بيوم فقط كما حدثنى صاحب الفندق، الذى اعتدت الإقامة فيه مع بعض زملائى الأدباء.
حدث هذا ثلاث مرات. أما الذروة فقد حدثت يوم أقبل رئيس الجزائر السابق هوارى بومدين إلى القذافى ليحرضه على تصفيتى بعد أن قرأ كتابى «ثورات الصحراء الكبرى» الذى رأى فيه خطرا، على نظام البلدين السياسى، وهو تحريض كانت له نتائج خطيرة تاليا ما زلت أعانى من مكيدته إلى اليوم. كما لا يفوتنى هنا أيضا أن أشير إلى حقيقة مهمة هى مصادرة كتابى «نقد الفكر الثوري» الصادر عام 1970م، ليكون أول مؤلف يحرق بعد حركة 1969، ليتوالى تحريم كتبى من التداول تباعا.
أما إذا كان النظام قد هادننى فى مراحل تاريخية تالية، فلم يفعل ذلك إلا بعد أن برهنت له التجربة بأننى لست مريد سلطة فى يوم من الأيام، سيما بعد أن عرضت على شخصى أرفع المناصب السياسية والثقافية، ولكننى رفضتها جميعا.
وقد اعترف لى أحد أعضاء مجلس قيادة الثورة منذ أعوام قائلا: إنهم كانوا يحسبوننى مريدا خطيرا للسلطة ولم يكتشفوا إلا أخيرا أن نشاطى كله لم يكن سوى دفاع عن النفس.
أما سؤالك عما يتغذى عليه الانتماء فى مثل هذه اللحظات التاريخية فهو إحساس مركب يضاعف الاغتراب لأن الاغتراب صار هو الوطن منذ زمن بعيد جدا، سيما بالنسبة لذلك الإنسان الذى شهد بفضل العناية الإلهية سلسلة من الثورات زعزعت العصر الحديث كله.
فقد عشت الزمن الملكى لأشهد نهايته فى 1969م، وعشت مجد الاتحاد السوفييتى لأشهد نهايته عام 1989. وعشت مجد حلف وارسو عام 1978م لأشهد ثورة التضامن عام 1980م. وها هى الأقدار تمهلنى حتى أشهد خلاص العالم العربى بثورات عام 2011، فالإحساس الدرامى بالاغتراب قرين لثراء التجربة الدنيوية دوما. فإذا كان ذلك لأهل الدنيا استثناء، فإنه لأهل الإبداع قاعدة. لأن ينابيع الإبداع لا تستعير أصالتها من الإحساس بالانتماء إلى الأوطان بقدر ما تتأجج طاقتها بالانتماء إلى الاغتراب إلى ذلك الحد، الذى ينقلب فيه الاغتراب وطنا. أى عندما يتحول الوطن قيمة، أو رمزا، أو استعارة، مجبولة بأنفاس الاغتراب، لأن لا إبداع حقيقيا فى النهاية بدون وجود بعد ميتافيزيقى نسميه هوية اغترابية.
●هل الثورات مما يمكن تطويعه للكتابة؟
ــ الثورات هى تلك الضرورة التى لا يحق لنا أن نعول عليها مثلها فى ذلك مثل الفن تماما. وهنا تكمن المفارقة أو فلنقل التراجيديا لقد عبر دوستويفسكى عن روح الخطيئة الكامنة فى الثورة بوصفها المعادل الاستعارى لتمرد إمام الشرور ضد مشيئة الرب. كما عبر ألبيركامو عن يأسه من الثورة فى عبارته الشهيرة: «كلنا نبدأ بطلب العدالة، ولكننا ننتهى بتنظيم جهاز للشرطة»! وهو ما عشناه، وعاشته الإنسانية، فى الثورات قاطبة.
وهو ما لا يعنى بالطبع الاستسلام لوصية: «دع الأشياء تأخذ مجراها»، لأن السر لا يكمن فى الخبز وحده، ولكنه يكمن فى الحرية التى تشترط القرابين. ولهذا فإننا لا نكتب عن الثورات، ولكننا نرصد ظلال الثورات. أى الخيبة الملازمة لفعل الثورات.
●أربعون عاما خارج الوطن، وأربعون بالتوازى من الكتابة عن الصحراء. أين ملامح الوطن الأخرى وبقية تضاريسه؟
ــ كم يؤسفنى، بل ويخجلنى، جهل الناس بقوانين الأدب! فأن توجد الصحراء يعنى بديهيا حضور كل الأوطان، بل وحضور الدنيا هذا يعنى أن على الناس أن يعلموا مرة واحدة وإلى الأبد أننى لا أكتب عن الصحراء كصحراء، ولكننى أكتب عن الصحراء كاستعارة للوجود الإنسانى بأسره. كما أننى لا أكتب عن الطوارق كطوارق، ولكن هذه الأمة ليست فى كل أعمالى سوى النموذج الذى يمثل الإنسانية. ونقاد أوروبا وأمريكا واليابان اكتشفوا هذه الحقيقة فى أعمالى منذ عشرات الأعوام، ولذلك السبب احتفوا بها، لأنها استجابة لناموس الإبداع، فى حين ظل العرب يتساءلون عن سر هذا الاحتفاء جهلا بقوانين الأدب أو ربما تجاهلا لهذه القوانين لا أدرى. ولهذا فإن ملامح الوطن الأخرى حاضرة بقوة فى صحرائى الكبرى الأخرى التى لم تكن يوما صحراء، ولكنها صحراء الوجود. هذا الوجود الذى لم يكن سوى صحراء بغياب الروح (أو فلنقل ببؤس الروح)، كما لم تكن الصحراء كطبيعة سوى فردوس بحضور هذه الروح، أو بالأصح، بثراء الروح.
●انحيازك لقبائل الأمازيغ أو الطوارق بحكم الانتماء: هل اقتسم انتماؤك لليبيا كجزء من الوطن العربى خاصة أنك تضررت سلبيا من ذلك؟
ــ ليكن معلوما لديك ولدى كل المتشدقين بالعروبة أن الأمازيغ أو الطوارق ليسوا قبائل، ولكنهما أمة عظيمة مثلهما مثل العرب والروم والفرس كما يصفهما ابن خلدون حرفيا فى تاريخه. ولو لم يكونوا كذلك لما استطاعوا أن ينقذوا سلطان العرب فى الأندلس على يد سليل الطوارق يوسف بن تاشفين، بل ولما استطاع العرب أن يطأوا أرض الأندلس التى يتغنون بها إلى اليوم كفردوس مفقود لو لم يكن لهم سليل البربر طارق بن زياد قائدا إلى تلك الديار ولولا هذه الأمة ذات التاريخ المجيد التى روى سيرتها أبوالتاريخ هيردوت قبل أن يروى هذه السيرة ابن خلدون لما استطاع العرب اليوم أن يتداولوا سر لغتهم ذاتها، لأن «لسان العرب» مرجع من تأليف ابن منظور الطرابلسى (قاضى طرابلس) ذى الأصول البربرية، أو الأمازيغية. أردت أن أقول إن العروبة لا يجب أن تظل مفهوما قائما على العرق كما أراد لها قوميو العصر الحديث، ولكنها يجب أن تبقى أفقا ثقافيا مفتوحا على ثقافات الأعراق الأخرى، كما كانت يوما عندما بلغت الحضارة العربية ذروة مجدها بفضل هذه العقلية بالذات. وعلّ هذه الروح الشوفينية المنكرة هى أهم نقاط خلافى التاريخى مع القذافى منذ أول يوم، كما كان أحد أهم أسباب كل الملاحقات من قبل النظام. كما كانت هذه النقطة حجر الزاوية فى وجهة نظر لم أتنازل عنها، ولن أتنازل عنها ليقينى بأن إلغاء هوية الآخر إنما يعنى إلغاء وجوده فعليا.
ولم أخش البطش فى ذروة أعوام البطش من أن أعبر للرجل عن خطأ هذه النزعة مرارا. والمأساة أنها نزعة ليست حكرا على القذافى أو على نظيره بومدين، ولكنها نزعة سائدة فى عالمنا العربى لا على مستوى ساسة يبيحون لأنفسهم التطاول فى مجاهل الفكر وحسب، ولكن على مستوى أئمة الثقافة وروادها المخولين بالتنظير للتسامح العرقى والتعايش بين الثقافات على غرار الدرس الرائع الذى تقدمه لنا دولة صغيرة فى أوروبا هى سويسرا.
وبدل أن أكسب أدبيا بسبب هذه الازدواجية اعترف لك بأننى خسرت كثيرا فى وقت يجب أن أكسب، لأن ازدواج الهوية هو ثراء فى حقيقته كما عاملنى السويسريون مثلا عندما جاهروا بانتمائى إلى سويسرا يوم منحونى هويتهم.
هذا فى حين صار انتمائى إلى أقلية عرقية فى ليبيا سببا لضغائن مخجلة بدأت فى أوساط الليبيين الثقافية قبل أن تتفاقم لتتحول اضطهادا علنيا فى كثير من بلاد العرب. وقد حيرتنى هذه العداوة المجانية طويلا قبل أن أجد لها المبرر البشرى ولا أقول المبرر الأخلاقى. فليبيا وطن قدر له أن يكون مصادرا، أو فلنقل مغتربا، فى الخارطة الثقافية العربية لسببين: أولهما تاريخى لعب فيه الاستعمار الإيطالى دورا أساسيا من خلال العزلة القاتلة، التى فرضها على البلاد. وثانيهما سياسى لعب فيه النظام الحالى دورا لا يقل سوءا عن عمل الاستعمار الإيطالى.
ولهذا السبب فإن من الطبيعى أن تستهجن العقلية الشوفينية ظهور موهبة أدبية من بيئة غير معترف بها أساسا كالبيئة الصحراوية، فكيف إذا أضيف إلى هذه الخطيئة انتماء هذه الموهبة إلى وطن مغيب عن العالم هو ليبيا؟ وما آلمنى دائما فى هذا الاضطهاد ليس فى طبيعته العمياء، التى اعتدنا حضورها فى الأوساط الثقافية إجمالا، ولكن فى أن يصدر بالأساس لا من العرب العاربة الذين لم أجد فى محافلهم إلا الإكبار (أبناء الجزيرة العربية أساسا)، ولكن فى أن يصدر من العرب المستعربة غير المعنيين أساسا بحقيقة العروبة التى يدعون الحرص على مستقبلها، ولا يدرون أنهم (وربما يدرون فى قرارة أنفسهم) أنهم أكثر من أساء إليها!
ولهذا من المحزن أن تستعملى كلمة «انحياز» فى التعبير عن التزامى بهموم أهلى لا لقدرتى فى أن أحقق لهم السعادة، ولكن لأؤدى نحوهم واجبا أخذته على عاتقى رسالة حياة أو موت منذ الصبا المبكر، لا لأنهم أقلية مضطهدة فحسب، ولكن لأنهم قوم يحملون ثقافة عريقة مهددة بالانقراض برغم حقيقتهم كأصحاب أرض أصليين!
وعندما أفعل ذلك فلا انتصر لقوانين الواجب الأخلاقى، ولكن لأنتصر لأبسط
قوانين الأدب التى تحث المريد على أن يكتب عما يعرف! فهل بلّغت؟
●أعمالك الأخيرة عن البحر والماء كـ«ديوان البر والبحر» و«فى مديح مولانا الماء» وملحمة حوض المتوسط «الأخلاق والأسلاف»، هل كانت معادلا موضوعيا لملحمة الصحراء الطويلة، أم مجرد تحد لمن أشاعوا أنك سجين الصحراء؟
ــ وهل نستطيع أن نكتب رواية دون التحلى بروح التحدى؟ هذا يعنى أن الروائى لا يكتب عن المكان بقدر ما يكتب عن الإنسان الذى يسكن المكان.
نستطيع أن نستخدم الحلم فى ابتداع الأمكنة، ولكن الإنسان هو اللغز الذى كان موضوع الأدب منذ الأذل. ومدى التعبير عن هوية هذا اللغز هو ما يميز عبقرية هذا المبدع عن موهبة ذاك. ولهذا فإن الأهم من المكان الذى نسكنه هو المكان الذى يسكننا. هذا على مستوى صنع الدراما. أما على المستوى الجمالى فإن الأنبل من المكان الذى يؤكد له حضورا فى الطبيعة، هو المكان المتخيل المجبول بروح الحلم. ولذلك لا نبالى كثيرا بالأمكنة الطبيعية فنعبرها ولا نتوقف عندها إلا عندما يقدمها الفن، لأنه وحده يكشف لنا فيها بعدها الماورائى، الذى يستهوينا. هنا تستوى كل الأمكنة سواء أكانت صحراء أم بحرا، جبلا أم سهلا، مدينة أم نفسا، ويعلو شأن القدرة على تحويلها رمزا أو استعارة.
●«نقد الفكر الثورى»، «الورم»، «من أنت أيها الملك؟» وغيرها من أعمالك التى تحمل بعدا تثويريا وإدانات واضحة ومستترة للقمع والاستبداد. للأسف لم يمنع من اتهامك بالقرب من السلطة فى ليبيا. صف لنا هذه العلاقة الملتبسة مع النظام الليبى؟
ــ ألا تظنين أنك تستخدمين تعبيرا غامضا عندما تقولين: «اتهامك بالقرب من النظام»؟ ماذا يعنى «القرب من النظام» بالضبط؟ هل قمت بتولى منصب فى هذا النظام؟ هل نلت منه حظوة أو امتيازا لم ينله غيرى من الأدباء؟ ألم يشهد لى التاريخ بكونى أول ضحية لهذا النظام؟ ألم أكن من عاش اضطهاده منذ 1969 كما تشهد الوثائق وشهود العيان؟ ألم يكن كتابى «نقد الفكر الثورى» أول كتاب يحرق بعد الانقلاب عام 1970م؟ ألم تصادر كتبى من التداول منذ ذلك التاريخ إلى اليوم؟ أليس مفارقة أن يتهمنى بالقرب من النظام أولئك الذين كانوا يوما أقرب منى للنظام، بل وكانوا جزءا منه، لمجرد أنهم اختلفوا معه تاليا ليدعوا الوصاية على المعارضة فى الخارج وهم فى مأمن من بطش النظام؟ أليس مفارقة أيضا أن يتجاهل هؤلاء المجرمون الحقيقيون، الذين يتولون أرفع المناصب ليمارسوا الفساد علنا، ولا يلتقون بكل الرذائل فيستغلوا سلطتهم ليكيدوا للشرفاء (كما فعلوا معى طوال هذه الأعوام) ثم ينبرى هؤلاء برجم الشرفاء، الذين ضحوا ببحبوحة العيش فى سبيل إعلاء رسالة الوطن وإنقاذه من التغييب والتغريب والمصادرة عبر عقود وعقود، دون أن يقدم هؤلاء شيئا سوى الشتائم والحقد وحبك مكائد الزور ليشتروا بالأكاذيب فشلهم وخيباتهم؟
لست فى حاجة للدفاع عن نفسى لأن سيرتى (التى ستشهد النور قريبا إذا أمهلنى القدر) هى وثيقتى الدنيوية المدعومة بالحقائق.
أما أعمالى وآثارى الأدبية، التى توجها الغرب والشرق بأرفع الجوائز والأوسمة فهى الشهادة، التى تترجم حقيقتى كضمير لليبيا فى زمن اغترابها الكبير.
وإذا كان صاحب النظام قد تسامح معى، أو احترمنى، فهذا ليس خطيئتى، برغم أنه لم يفعل ذلك من باب التكفير عن خطاياه ضدى، لأنه لم يتسامح معى إلا بعد أن مكنتنى العناية الإلهية من مكانة دولية تباهت بها سويسرا، فكيف لا تعترف بها ليبيا سواء أكانت نظاما، أم أهلا؟
ولهذا فإن من يتهمنى بخرافة «القرب من النظام» لمجرد أن نظاما اعترف بعمل المبدع كمن يتهم شيشرون بالقرب من نظام يوليوس قيصر لمجرد أن الأخير خرج لاستقباله عائدا من معسكر خصمه اللدود «بومبيوس» حافيا، وتشبث بلجام الجواد كى يعينه على النزول إكبارا لم يشرف به يوليوس قيصر أحدا أو كمن ينكر على سلطان العالم القديم الإسكندر الأكبر أن يقول: «لو لم أكن الإسكندر الأكبر لفضلت أن أكون ديوغين الكلبى»، أو كمن يتهم شولوخوف بالاشتراك فى ارتكاب جرائم لمجرد أن ستالين زاره فى بيته ليقدم له فروض الإكبار، أو كمن يتهم إمام الفلسفة فى القرن العشرين «هايدغر» بالعار لمجرد أن هتلر اختاره من دون كل الكفاءات العلمية ليترأس جامعة فرايبورغ إكبارا لفكره!
الشروق