فلول سرية وذيول علنية
قضيت سبعة أشهر فى سجن المنصورة العمومى على ذمة قضية 18 و19 يناير 77، كانت بالنسبة لى مدرسة استثنائية للتعرف على نفسيات نزلاء السجون من المجرمين الجنائيين، لا لمجرد مخالطتهم فى فترات الفسحة داخل عنبر السجن أو فى الحوش، ولكن فى ظرف خاص واستثنائى تماما، فقد نشأت بينى وبين مأمور السجن شبه صداقة، وقد كان رجلا متحضرا جدا ومهتما بالثقافة ويعد لماجستير فى إدارة الأعمال بعد أن حصل على بكالوريوس من كلية التجارة. ولأننى كنت فى السنة الخامسة بكلية الطب كان السجناء والعساكر يعاملوننى كطبيب، وكنت أنجح بدرجة معقولة فى مداواة ما تيسر من أمراضهم بما توافر لدى من عينات أدوية كانت تجيئنى بغزارة من عيادات أساتذتى وزملائى الذين سبقونى فى التخرج.
ذاعت شهرتى الطبية داخل السجن ووصلت لصديقى المأمور، فقرر أن يفتح لى عيادة داخل العنبر فى إحدى زنزانات الطابق الأرضى الخالية بجوار الزنزانة التى كنت نزيلها وعيَّن لى تومرجيا يعاوننى لم يكن غير نشّال أتوبيسات اسمه «سمير هوا هوا» وكانت هذه العيادة أول ممارسة طبية لى على أرض الواقع، وأى واقع ! أيامها أعطيت أول حقنة فى الوريد لسجين قاتل من قطَّاع الطرق اسمه «السِبْس» لتسكين ألم مرارة ساحق كان يحوله إلى وحش ضار يفر أمامه أعتى حراس السجن، لكنه أبدى حيالى تسامحا صوفيا عجيبا وصبرا على لغوصتى فى أوردته حتى أصبت الهدف وصرنا صديقين، وأيامها أيضا قطبت أول جرح من جراح مشاجرات المساجين التى لا تقاس بالسنتيمتر بل بالشبر، ولعل أطرف ما فى هذه التجربة، استشارات أمراض النساء والتى كان المساجين يراجعوننى فيها نيابة عن زوجاتهم فى الخارج، ومما لا أنساه ويرتعش له القلب كشف على رضيع تحمله أمه زوجة أحد المساجين جاءت به خارج وقت الزيارة فكنت أمد يدىَّ والسماعة وميزان الحرارة لفحص الطفل من كوة بوابة السجن!
أما أهم ما أتاحت لى هذه العيادة الزنزانة أن أتعلمه فكان التعرف على شخصيات الجانحين والمجرمين الذين كنت أقضى معهم أوقاتا طويلة على مدار هذه الأشهر الثمينة! وهى خبرة دعمتها دراستى وممارستى للطب النفسى فيما بعد وحصولى على دورة نظرية وعملية فى المستشفى ـ السجن المخصص للسيكوباتيين، أو المعادين للمجتمع، فى مستشفى بافلوف. وبهذه الخبرة رحت أنظر وأعيد النظر فيما عرضته شاشات التليفزيون من حادث الاعتداء الأخير بمنطقة منازل الزلزال فى المقطم على الدكتور محمد البرادعى وابنته أثناء ذهابه للإدلاء بصوته فى الاستفتاء على التعديلات الدستورية. كما أننى بهذه الخبرة ذاتها رحت أراجع وقائع ما عرفته من حادث اعتداء عامل فى كلية الإعلام (من محاسيب عميد الكلية عضو لجنة السياسات المقبورة فى الحزب المحروق ومهندس حملة إعلانات تلميعه كما حملة ضرائب الوزير الهارب من العدالة) على الدكتورة عواطف عبدالرحمن وتهديدها بالقتل وهو ما وقع قبل حادث الاعتداء على الدكتور البرادعى بيومين.
وقبل أن أدلى بنتيجة ما توصلت إليه أقول إننى لست مشايعا لأى ممن أعلنوا عن ترشُّحهم أو نيتهم فى الترشيح للرئاسة ومنهم الدكتور البرادعى الذى رجوته أن يظل ممثلا للضمير لا منافسا فى غاغة الترشُّح للرئاسة، ليس فقط من منطلق تقديرى الإنسانى لشجاعة الوداعة والصلابة القانونية الحضارية عند الرجل، بل لأننى كنت وما زلت وسأظل ضد حكم مصر بجمهورية رئاسية تعيد إنتاج الرؤساء الطواويس والوحوش والفراعنة والآلة المزيفة والأنبياء الكذبة ومُدَّعى وكالة الله فى الأرض. وسأظل أدافع عن مطلب الحكم بجمهورية برلمانية يكون الرئيس فيها رمزا بروتوكوليا وصماما للطوارئ فى الأزمات الوزارية، بينما تكون المسئولية فيها لرئيس الحكومة، رئيس الوزراء، الذى يخضع لمساءلة الفريق السياسى الذى اختاره، ومحاسبة مجمل أعضاء البرلمان المقبل بانتخابات حرة، والرفض الشعبى عند اللزوم.
لقد تأملت مشاهد الاعتداء على الدكتور البرادعى وابنته إلى جواره، وأقطع بأن المعتدين عليه ليسوا مجرد بلطجية عاديين ولا حتى غاضبين من أبناء المنطقة الشعبية مشحونين بدعايات سافلة وكاذبة ضد الرجل كما أوردت صحفية رديئة التلفيق فى صحيفة حكومية يرأس تحريرها زوجها المُعيَّن بقرارات النظام الساقط الفاسد لأسباب نعلم جميعا أنها لا تستند إلى الجدارة المهنية بل إلى الإمعان فى التبعية لذلك النظام، بل التبعية للفسل الذى كان هذا النظام يعده لركوب ظهر مصر والدوس على رءوس أهلها.
أبدا لم يكن المعتدون من أصحاب الرؤية المُضلَّلة، ولا أى نوع من أرباب السوابق وعصابات الجنوح الاجتماعى، فالمعتدون على الدكتور البرادعى وابنته، كانوا مجرمين من نوع خاص جدا ابتكرته ممارسات النظام الساقط الإجرامية وعرفناه فى كرنفالات الترويع فى الانتخابات وفض الاعتصامات بالقوة وبالسفالة البشرية المطلقة فى معاملة النساء والشيوخ والعُزَّل، لأنه يستحيل، يستحيل، لأرباب السوابق والجانحين اجتماعيا من النوع المعتاد أن يُظهروا هذا التبجح فى التهجم على رجل ليس شابا وليس مستفِز الهيئة وإلى جواره ابنته التى هى فى النهاية سيدة صغيرة الحجم بلا حول ولا قوة كانت تحاول بكل ضعفها وهلعها على أبيها أن تمنع عنه ما يصيبه من حجارة واعتداء فيه وطاوة واجتراء خسيس يمتعض منه أعتى محترفى الإجرام وأرباب السوابق الذين عرفتهم فى السجن، فهؤلاء أيضا لديهم حد أدنى من القيم يمنعهم من الاعتداء على أب كبير مع ابنته، وهم بنوع من الحس شبه الغريزى يعرفون للناس أقدارهم، خاصة عندما يكون حتى خصومهم ممن تبدو عليهم علائم التمدين أو الثقافة أو المكانة الاجتماعية.
هؤلاء الذين اعتدوا على الدكتور البرادعى وابنته كانوا متحللين من كل قيمة أو حدود للأخلاق والتقاليد المصرية حتى لدى الجانحين من أولاد البلد، فقد كانوا شرسين ووقحين ومصرين على إكمال عدوانهم حتى بعد أن نجح المحيطون بالدكتور البرادعى ومنهم ضابط شرطة شجاع ونبيل بأن يُدخلوه هو وابنته سيارتهما، ولم يكتف المعتدون بتحطيم زجاج السيارة الخلفى، بل واصلوا مطاردة السيارة وهى تنطلق بالعصى والحجارة وأقذر الشتائم التى تدل على قذارتهم وقذارة محركيهم المختفين وراء الستار.
هؤلاء فلول من شبكة بلطجة نظام إجرامى تم نشرها على اتساع مصر كلها وكان يديرها متنفذون رسميون وضيعون، سواء فى الحزب المحروق أو من دوائر النفوذ الضيقة حول الأسرة الحاكمة الساقطة، مما كان يوفر لهؤلاء المجرمين الجدد مظلة حمائية تجعلهم غير هيابين من أية مؤاخذة ومنفذين شرسين لمخططات مرسومة لهم بخبث دنىء ومزودين بأكاذيب سياسية لا يستطيع الجانحون العاديون استيعابها. وبموازاة هذه الفلول كانت هناك ولا تزال ذيول تكمل العدوانية الإجرامية لهؤلاء بعدوانية إعلامية وإدارية بثتها عصابة لجنة السياسات وجهاز أمن النظام الساقط فى الإعلام والصحافة والجامعة، وبإسناد لوجيستى من فرقة البرلمان المزور ومجلس الشورى المنحل وترزية القوانين ومحامى الشيطان.
هناك تنظيم سرى إجرامى كانت مهمته إدارة بلطجة النظام الساقط من غرف سرية فى أحد أجهزة الدولة المخطوفة وتردد أن الحزب المحروق كانت به واحدة من هذه الغرف كما أن هناك شهادة بأن فرقة خاصة لبلطجة عليا كانت تدار من القصر الرئاسى برعاية السيدة الرئيسة السابقة والوريث الفسل وكانت إحدى أشهر عملياتها القذرة هى اختطاف الدكتور عبدالحليم قنديل والاعتداء عليه وإلقاؤه عاريا معصوب العينين فى الصحراء، وقد وردت هذه الشهادة على لسان الدكتور عبدالحليم قنديل فى لقاء مع العزيز الموهوب والشجاع بلال فضل فى برنامجه الوطنى والحضارى «عصير الكتب»، وأنا أصدق الشهادة لأن الضحية هو أفضل من يتعرف على جلاده لأنه أكثر من يصبر على تعقُّب من أجرموا فى حقه!
أما ذروة تجليات هذا التنظيم السرى لبلطجية النظام الفاسد فكانت عمليات قنص المعتصمين فى ميدان التحرير فى ظلمة الأربعاء الأسود من فوق أسطح المبانى ببنادق مصوبة بأشعة الليزر وقاتلة بإصرار وفظاعة حتى إنها كانت تخترق مجمل جذع المصاب برصاصاتها فى مسارات رأسية تخترق الدماغ أو العنق أو الكتفين وتخرج من أسفل البطن، وهذا النوع من بنادق الفتك الوحشى ليست مما يباع فى السوق السرية المعتادة للسلاح فى مصر ولا مما تتزود به أجهزة الشرطة والأمن الرسميين لأنها بنادق اغتيالات، فاستيرادها يلزمه قرارات من أعلى قمم الإجرام والفساد الذى كان حاكما ومتحكما فى بلادنا ولم تزل ههنا فلوله وذيوله.
تفكيك فلول شبكة بلطجية النظام الفاسد الساقط التى لم تسقط بعد، وإقصاء ذيوله عن مواقعهم الإدارية فى الإعلام والصحافة والجامعة والمحليات، وحل الحزب الوطنى ومحاكمة قياداته التى أفسدت الحياة السياسية فى مصر من أمثال فتحى سرور وزكريا عزمى وصفوت الشريف وعلى الدين هلال ومفيد شهاب، ومنع فاسديه من نواب الأمس من ممارسة الحياة السياسية ولو كعقوبة لفترة دورة برلمانية واحدة على الأقل لعلهم يتطهرون. هذه ليست مغالاة ولا مكارثية كما يشيع الذين يتحسسون بطحات رءوسهم.
هذا حق إنسانى لغالبية هذه الأمة التى اكتوت بممارسات كل هذا الإجرام والفساد السياسى، وهو ليس أقل من الفساد الاقتصادى، بل هو مظلة حماية له وفخ لإيقاع الكثيرين فى حبائله، بل إنه إذا جاز التصالح على أسس عادلة فى قضايا الفساد الاقتصادى باستعادة حقوق الأمة من سالبيها، فإن الفساد السياسى لا ينبغى أن يكون هناك تسامح فيه لأنه مسئول عن كل ما تلاه من نهب وسرقة وقتل وترويع وتخريب فى بنية الدولة باختطاف مؤسساتها الأمنية وتشويه التشريع والعبث بالعدالة والقانون مما وضع مصر على حافة خطر لاتزال تجاهد فى إزاحته، وستظل طويلا تعانى من عواقبه.
إننى أستعيد ذكرياتى عن أعتى المجرمين الذين عايشتهم فى عيادتى العجيبة تلك فى زنزانة بسجن المنصورة العمومى وأشعر بالشفقة على بؤس إجرامهم والإكبار لقيم وأخلاقيات لم يتجردوا منها برغم ظلمة وظلام واقعهم الذى كان مفترضا أن يجردهم من أى قيمة أو أية أخلاق، وأشعر يقينا بأن منتسبى عصابة بلطجة النظام السابق الساقط، الباقية فلولهم وذيولهم، هم أشد إجراما من المجرمين الجنائيين لأنهم ذهبوا بعيدا فى انعدام الأخلاق والقيم دون مبرر حقيقى من جهل أو احتياج، بل لمجرد إشباع جشعهم ونهمهم للفلوس والنفوذ والسُلطة والتسلُّط. وسيظل استمرار وجودهم الفاعل ولو فى شكل فلول وذيول، يشكِّل خطرا على الأمة فى مصر التى نريدها «جديدة»، والتى من الحق والعدل والإنصاف أن تصير جديدة.
ذاعت شهرتى الطبية داخل السجن ووصلت لصديقى المأمور، فقرر أن يفتح لى عيادة داخل العنبر فى إحدى زنزانات الطابق الأرضى الخالية بجوار الزنزانة التى كنت نزيلها وعيَّن لى تومرجيا يعاوننى لم يكن غير نشّال أتوبيسات اسمه «سمير هوا هوا» وكانت هذه العيادة أول ممارسة طبية لى على أرض الواقع، وأى واقع ! أيامها أعطيت أول حقنة فى الوريد لسجين قاتل من قطَّاع الطرق اسمه «السِبْس» لتسكين ألم مرارة ساحق كان يحوله إلى وحش ضار يفر أمامه أعتى حراس السجن، لكنه أبدى حيالى تسامحا صوفيا عجيبا وصبرا على لغوصتى فى أوردته حتى أصبت الهدف وصرنا صديقين، وأيامها أيضا قطبت أول جرح من جراح مشاجرات المساجين التى لا تقاس بالسنتيمتر بل بالشبر، ولعل أطرف ما فى هذه التجربة، استشارات أمراض النساء والتى كان المساجين يراجعوننى فيها نيابة عن زوجاتهم فى الخارج، ومما لا أنساه ويرتعش له القلب كشف على رضيع تحمله أمه زوجة أحد المساجين جاءت به خارج وقت الزيارة فكنت أمد يدىَّ والسماعة وميزان الحرارة لفحص الطفل من كوة بوابة السجن!
أما أهم ما أتاحت لى هذه العيادة الزنزانة أن أتعلمه فكان التعرف على شخصيات الجانحين والمجرمين الذين كنت أقضى معهم أوقاتا طويلة على مدار هذه الأشهر الثمينة! وهى خبرة دعمتها دراستى وممارستى للطب النفسى فيما بعد وحصولى على دورة نظرية وعملية فى المستشفى ـ السجن المخصص للسيكوباتيين، أو المعادين للمجتمع، فى مستشفى بافلوف. وبهذه الخبرة رحت أنظر وأعيد النظر فيما عرضته شاشات التليفزيون من حادث الاعتداء الأخير بمنطقة منازل الزلزال فى المقطم على الدكتور محمد البرادعى وابنته أثناء ذهابه للإدلاء بصوته فى الاستفتاء على التعديلات الدستورية. كما أننى بهذه الخبرة ذاتها رحت أراجع وقائع ما عرفته من حادث اعتداء عامل فى كلية الإعلام (من محاسيب عميد الكلية عضو لجنة السياسات المقبورة فى الحزب المحروق ومهندس حملة إعلانات تلميعه كما حملة ضرائب الوزير الهارب من العدالة) على الدكتورة عواطف عبدالرحمن وتهديدها بالقتل وهو ما وقع قبل حادث الاعتداء على الدكتور البرادعى بيومين.
وقبل أن أدلى بنتيجة ما توصلت إليه أقول إننى لست مشايعا لأى ممن أعلنوا عن ترشُّحهم أو نيتهم فى الترشيح للرئاسة ومنهم الدكتور البرادعى الذى رجوته أن يظل ممثلا للضمير لا منافسا فى غاغة الترشُّح للرئاسة، ليس فقط من منطلق تقديرى الإنسانى لشجاعة الوداعة والصلابة القانونية الحضارية عند الرجل، بل لأننى كنت وما زلت وسأظل ضد حكم مصر بجمهورية رئاسية تعيد إنتاج الرؤساء الطواويس والوحوش والفراعنة والآلة المزيفة والأنبياء الكذبة ومُدَّعى وكالة الله فى الأرض. وسأظل أدافع عن مطلب الحكم بجمهورية برلمانية يكون الرئيس فيها رمزا بروتوكوليا وصماما للطوارئ فى الأزمات الوزارية، بينما تكون المسئولية فيها لرئيس الحكومة، رئيس الوزراء، الذى يخضع لمساءلة الفريق السياسى الذى اختاره، ومحاسبة مجمل أعضاء البرلمان المقبل بانتخابات حرة، والرفض الشعبى عند اللزوم.
لقد تأملت مشاهد الاعتداء على الدكتور البرادعى وابنته إلى جواره، وأقطع بأن المعتدين عليه ليسوا مجرد بلطجية عاديين ولا حتى غاضبين من أبناء المنطقة الشعبية مشحونين بدعايات سافلة وكاذبة ضد الرجل كما أوردت صحفية رديئة التلفيق فى صحيفة حكومية يرأس تحريرها زوجها المُعيَّن بقرارات النظام الساقط الفاسد لأسباب نعلم جميعا أنها لا تستند إلى الجدارة المهنية بل إلى الإمعان فى التبعية لذلك النظام، بل التبعية للفسل الذى كان هذا النظام يعده لركوب ظهر مصر والدوس على رءوس أهلها.
أبدا لم يكن المعتدون من أصحاب الرؤية المُضلَّلة، ولا أى نوع من أرباب السوابق وعصابات الجنوح الاجتماعى، فالمعتدون على الدكتور البرادعى وابنته، كانوا مجرمين من نوع خاص جدا ابتكرته ممارسات النظام الساقط الإجرامية وعرفناه فى كرنفالات الترويع فى الانتخابات وفض الاعتصامات بالقوة وبالسفالة البشرية المطلقة فى معاملة النساء والشيوخ والعُزَّل، لأنه يستحيل، يستحيل، لأرباب السوابق والجانحين اجتماعيا من النوع المعتاد أن يُظهروا هذا التبجح فى التهجم على رجل ليس شابا وليس مستفِز الهيئة وإلى جواره ابنته التى هى فى النهاية سيدة صغيرة الحجم بلا حول ولا قوة كانت تحاول بكل ضعفها وهلعها على أبيها أن تمنع عنه ما يصيبه من حجارة واعتداء فيه وطاوة واجتراء خسيس يمتعض منه أعتى محترفى الإجرام وأرباب السوابق الذين عرفتهم فى السجن، فهؤلاء أيضا لديهم حد أدنى من القيم يمنعهم من الاعتداء على أب كبير مع ابنته، وهم بنوع من الحس شبه الغريزى يعرفون للناس أقدارهم، خاصة عندما يكون حتى خصومهم ممن تبدو عليهم علائم التمدين أو الثقافة أو المكانة الاجتماعية.
هؤلاء الذين اعتدوا على الدكتور البرادعى وابنته كانوا متحللين من كل قيمة أو حدود للأخلاق والتقاليد المصرية حتى لدى الجانحين من أولاد البلد، فقد كانوا شرسين ووقحين ومصرين على إكمال عدوانهم حتى بعد أن نجح المحيطون بالدكتور البرادعى ومنهم ضابط شرطة شجاع ونبيل بأن يُدخلوه هو وابنته سيارتهما، ولم يكتف المعتدون بتحطيم زجاج السيارة الخلفى، بل واصلوا مطاردة السيارة وهى تنطلق بالعصى والحجارة وأقذر الشتائم التى تدل على قذارتهم وقذارة محركيهم المختفين وراء الستار.
هؤلاء فلول من شبكة بلطجة نظام إجرامى تم نشرها على اتساع مصر كلها وكان يديرها متنفذون رسميون وضيعون، سواء فى الحزب المحروق أو من دوائر النفوذ الضيقة حول الأسرة الحاكمة الساقطة، مما كان يوفر لهؤلاء المجرمين الجدد مظلة حمائية تجعلهم غير هيابين من أية مؤاخذة ومنفذين شرسين لمخططات مرسومة لهم بخبث دنىء ومزودين بأكاذيب سياسية لا يستطيع الجانحون العاديون استيعابها. وبموازاة هذه الفلول كانت هناك ولا تزال ذيول تكمل العدوانية الإجرامية لهؤلاء بعدوانية إعلامية وإدارية بثتها عصابة لجنة السياسات وجهاز أمن النظام الساقط فى الإعلام والصحافة والجامعة، وبإسناد لوجيستى من فرقة البرلمان المزور ومجلس الشورى المنحل وترزية القوانين ومحامى الشيطان.
هناك تنظيم سرى إجرامى كانت مهمته إدارة بلطجة النظام الساقط من غرف سرية فى أحد أجهزة الدولة المخطوفة وتردد أن الحزب المحروق كانت به واحدة من هذه الغرف كما أن هناك شهادة بأن فرقة خاصة لبلطجة عليا كانت تدار من القصر الرئاسى برعاية السيدة الرئيسة السابقة والوريث الفسل وكانت إحدى أشهر عملياتها القذرة هى اختطاف الدكتور عبدالحليم قنديل والاعتداء عليه وإلقاؤه عاريا معصوب العينين فى الصحراء، وقد وردت هذه الشهادة على لسان الدكتور عبدالحليم قنديل فى لقاء مع العزيز الموهوب والشجاع بلال فضل فى برنامجه الوطنى والحضارى «عصير الكتب»، وأنا أصدق الشهادة لأن الضحية هو أفضل من يتعرف على جلاده لأنه أكثر من يصبر على تعقُّب من أجرموا فى حقه!
أما ذروة تجليات هذا التنظيم السرى لبلطجية النظام الفاسد فكانت عمليات قنص المعتصمين فى ميدان التحرير فى ظلمة الأربعاء الأسود من فوق أسطح المبانى ببنادق مصوبة بأشعة الليزر وقاتلة بإصرار وفظاعة حتى إنها كانت تخترق مجمل جذع المصاب برصاصاتها فى مسارات رأسية تخترق الدماغ أو العنق أو الكتفين وتخرج من أسفل البطن، وهذا النوع من بنادق الفتك الوحشى ليست مما يباع فى السوق السرية المعتادة للسلاح فى مصر ولا مما تتزود به أجهزة الشرطة والأمن الرسميين لأنها بنادق اغتيالات، فاستيرادها يلزمه قرارات من أعلى قمم الإجرام والفساد الذى كان حاكما ومتحكما فى بلادنا ولم تزل ههنا فلوله وذيوله.
تفكيك فلول شبكة بلطجية النظام الفاسد الساقط التى لم تسقط بعد، وإقصاء ذيوله عن مواقعهم الإدارية فى الإعلام والصحافة والجامعة والمحليات، وحل الحزب الوطنى ومحاكمة قياداته التى أفسدت الحياة السياسية فى مصر من أمثال فتحى سرور وزكريا عزمى وصفوت الشريف وعلى الدين هلال ومفيد شهاب، ومنع فاسديه من نواب الأمس من ممارسة الحياة السياسية ولو كعقوبة لفترة دورة برلمانية واحدة على الأقل لعلهم يتطهرون. هذه ليست مغالاة ولا مكارثية كما يشيع الذين يتحسسون بطحات رءوسهم.
هذا حق إنسانى لغالبية هذه الأمة التى اكتوت بممارسات كل هذا الإجرام والفساد السياسى، وهو ليس أقل من الفساد الاقتصادى، بل هو مظلة حماية له وفخ لإيقاع الكثيرين فى حبائله، بل إنه إذا جاز التصالح على أسس عادلة فى قضايا الفساد الاقتصادى باستعادة حقوق الأمة من سالبيها، فإن الفساد السياسى لا ينبغى أن يكون هناك تسامح فيه لأنه مسئول عن كل ما تلاه من نهب وسرقة وقتل وترويع وتخريب فى بنية الدولة باختطاف مؤسساتها الأمنية وتشويه التشريع والعبث بالعدالة والقانون مما وضع مصر على حافة خطر لاتزال تجاهد فى إزاحته، وستظل طويلا تعانى من عواقبه.
إننى أستعيد ذكرياتى عن أعتى المجرمين الذين عايشتهم فى عيادتى العجيبة تلك فى زنزانة بسجن المنصورة العمومى وأشعر بالشفقة على بؤس إجرامهم والإكبار لقيم وأخلاقيات لم يتجردوا منها برغم ظلمة وظلام واقعهم الذى كان مفترضا أن يجردهم من أى قيمة أو أية أخلاق، وأشعر يقينا بأن منتسبى عصابة بلطجة النظام السابق الساقط، الباقية فلولهم وذيولهم، هم أشد إجراما من المجرمين الجنائيين لأنهم ذهبوا بعيدا فى انعدام الأخلاق والقيم دون مبرر حقيقى من جهل أو احتياج، بل لمجرد إشباع جشعهم ونهمهم للفلوس والنفوذ والسُلطة والتسلُّط. وسيظل استمرار وجودهم الفاعل ولو فى شكل فلول وذيول، يشكِّل خطرا على الأمة فى مصر التى نريدها «جديدة»، والتى من الحق والعدل والإنصاف أن تصير جديدة.
بقلم:محمد المخزنجي - الشروق
No comments:
Post a Comment