أيامنا القادمة صعبة وثقيلة ومرهقة جداً..
والأجدر بأهل مصر فى هذه الأيام الصعبة أن يبحثوا بجهد وجد عن الرؤية الصائبة، وأيضاً البحث فى حقيقة الأشياء والأحداث والتعمق فى جوهرها وإعمال العقل.
الآن نحن نعيش تحت راية الحكم العسكرى وهذا أمر محزن للغاية وغير مرحب به بالنسبة لجميع الشعوب، هذا الحكم قد تفرضه الضرورة فيصبح هو الأمر الوحيد للخروج من أزمة طاحنة ودامية كما حدث عندنا بعد تنحى الرئيس حسنى مبارك.. وقد يفرض الحكم العسكرى نفسه فى دولة ما بواسطة انقلاب على السلطة الشرعية أو غير الشرعية ليصبح هو الآخر سلطة غير شرعية.. والنظم العسكرية دائماً وأبداً تبشر شعوبها بالعدالة والأمن وضمان الحقوق والانتقال سريعاً إلى الحكم المدنى.
ويأتى هذا الحكم المدنى، حيث يخلع العسكر الزى الرسمى ويستبدلونه بالزى المدنى، وكأنهم ذاهبون إلى عرس أو حفل ساهر، ويظل الحكم العسكرى قائماً وفوق جسده ملابس مدنية..
حدث ذلك لنا ولغيرنا من الإخوة العرب وجميع دول العالم.. ولسنا بصدد الحديث عن مساوئ الحكم العسكرى فهذا الأمر متفق عليه، والمجلس العسكرى الذى يحكم الآن، وهم رجال نثق فيهم ونشفق عليهم - لأن المسؤولية الملقاة على عاتقهم لها ثقل الجبال - قد وعدونا بالعودة إلى الدولة المدنية فى خلال شهور معدودة،
وهذا أمر طيب بالنسبة للشعب المصرى وبالنسبة لهم أيضاً، حيث إن المهمة العظمى لهم هى ضمان سلامة الوطن ودفع الأخطار بعيداً عنه، الأمر الذى يجعلهم فى قلوبنا وعقولنا، ورجال مصر كلهم أو الغالبية العظمى منهم كانوا جنوداً يوماً ما وفى صدر كل منهم مخزون طيب من الذكريات التى لا تنسى والتى تجعل الصلة الوثيقة بين المواطن وجيشه أبدية ومتواصلة.. وإذا كانت الضرورة تستلزم فتح الجراح فإن هذا الأمر يتطلب المهارة والدقة والإخلاص حتى لا نزيد الجراح عمقاً وسقماً،
وفى إيجاز شديد لأننا سوف نعلم بما هو معلوم نقول إن مصر قد ضاقت بحكم الرئيس مبارك بعد السنوات العشر الأولى وبعد ذلك بدأت مساحات السخط تزيد، وبدأت الدولة بكاملها فى الانحدار داخلياً وخارجياً، وفى ذات الوقت بدأت مساحات الفساد تتسع بشكل بشع وفج وغير إنسانى، وأهملت مرافق الدولة وغابت العدالة الاجتماعية والإنسانية وتوحش نفر من الناس كانوا بلا حول ولا قوة ولا شخصية ولا ثقافة ولا علم وإنما لديهم قدرة فائقة على النفاق والرياء والمداهنة حتى أصبح الكذب فضيلة..
ويبدو أن السيد الرئيس الذى كان زاهداً فى البداية قد أعجبه الحال، فأغمض عينيه وسد أذنيه حتى إن السيدة الفاضلة انطلقت هى الأخرى من عقالها فصار لها حاشية وإدارة وإمارة وكانت لها مؤسسة رئاسة خاصة بها.. إلى أن ظهر السيد جمال مبارك بحاشيته من الزملاء والأصدقاء، وهنا صار الفساد فى مصر دستوراً، والصلف مع الحمق مع الغرور مع النرجسية كانت العجلات الأربع التى قادت عربة النظام بكامله إلى الارتطام بحائط صلب ومنيع هو إرادة الشباب الثائر.. وكان من الطبيعى أن تتحطم السيارة بمن فيها ومن حولها من المنتفعين والفاسدين والسماسرة وكل الذين رفعوا راية الباطل وزينوه.
وقامت ثورة الشباب.. ولا أدرى لأى سبب يتجاهل السادة الخبراء والمحللون الذين صدعوا أدمغتنا بكلام كثير وثرثرة أن هذه الثورة هى أول ثورة يعلن عنها مسبقاً، أى أن أمرها كان معلوماً ومتى سوف تتحرك ومن أين وإلى أين..؟!
إلا أن حالة الطغيان التى كان يعيشها النظام جعلته يراها صغيرة كما تعود أن يرى كل شىء فى مصر صغيراً ما عدا كيانه وذاته.. كانت ثورة شباب خالصة ومخلصة وخالية من الشوائب ولا مجال فيها لمندس أو خائن أو لص.. وعليه فقد ثبتت وصمدت وانتصرت..
إلا أن الأحداث التى جرت تفرض علينا أن نفكر فيما لا يمكن تجاهله أبداً، وإلا فإن الغفلة تكون قد تمكنت منا، وعلينا أن نسأل بحسم وجدية هذه الأسئلة:
١- مَنْ الذى أشعل النار وفى أماكن بعينها وفى وقت واحد وكأنها خطة مرسومة وهناك من ينفذها.. مع علم الجميع بأن جموع الشباب لم تفعل ذلك؟
٢- مَنْ الذى شن الغارات على السجون المصرية فى أنحاء البلاد كافة فى وقت واحد ومحدد رغم تباعد السجون جميعها عن أماكن الثورة ومناطقها.. والكل يعلم أن الثوار كان لديهم هدف واحد هو إسقاط النظام؟
٣- مَنْ الذى سرق ونهب وروع الناس فى بيوتهم.. ليس الشباب الثائر وليس الفقراء ولا حتى سكان العشوائيات وإنما سر هويتهم غامض حتى الآن.. فإذا كنا نتفق على أن هذه الجرائم البشعة ليست من فعل أصحاب الثورة ولا الأهالى.. فمن هم المجرمون؟ ولماذا حرق المحاكم والمؤسسات العلمية وحتى المستشفيات؟
لابد من إجابة، لأن الدمار والخراب الذى حدث لا يمكن أن يفعله أهل مصر بأنفسهم.. القسوة كانت مفرطة وعن عمد وتفتقد إلى عفوية الحدث حتى لو كان جريمة بهذا الحجم. وهناك عدة أسئلة فى منطقة أخرى بالغة الأهمية وهى الهجوم الغادر على ميدان التحرير والمأساة الإنسانية التى أصابت شبابه.. من هؤلاء؟
ومن المخطط؟ ومن الممول؟ ومن المنفذ؟.. سألنى صديق فى عفوية هوه الجمل علشان يوصل ميدان التحرير إذا كان من الهرم يلزمه وقت قد إيه؟
لم يكن يعلم هذا الصديق أن هذه الدواب القتالية نقلت من الهرم إلى التحرير بعربات أولاً، وأن المسألة مرتبة وكل من شارك فيها معروف ومعلوم ولكن لماذا الصمت؟ لأنهم شخصيات كبيرة جداً وهم بهذا الفعل البشع لم يكونوا مع النظام السابق بقدر ما كانوا مع مصالحهم ومع ثرواتهم التى هى من دم هذا الشعب.. هى أسماء معروفة وعلى كل لسان وإثبات تورطها من أسهل الأشياء لدى جهاز الشرطة إلا إن كان يخشى على نفسه.
وحتى الآن، وإذا كنا لا نقدر قيمة هذا الانتصار العظيم من زواياه المختلفة، والتى منها استرداد المواطن المصرى كرامته وهمته وإنسانيته فإنه من المدهش والمؤسف حقاً أن فى مصر فريقاً من الناس لديهم مهارة فائقة فى تحويل أى شىء إلى بضاعة أو سلعة يتاجر فيها، فقد رأينا وجوهاً بعينها تتسابق على الشاشات المختلفة والكل يدعى البطولة ويظهر نفسه على أنه كان المعارض النبيل..
رأيت بعينى رأسى على الشاشة لصوصاً صغاراً وهم يوجهون الاتهام إلى لصوص كبار، وفاسدين يلعنون من هم أكبر منهم فى الفساد وكأنهم بهذا قد أبعدوا الشبهة عن أنفسهم!
رأيت الذين كانوا خصياناً فى بلاط الحاكم وهم يحاولون أن يكونوا رجالاً بتركيب الأطراف الصناعية، ولكن هذا لن يكون، فأمرهم مفضوح ولا أحد يلتمس العذر لنفسه بأنه كان مرغماً أو مكرهاً لأن غيره ظل أميناً مع نفسه مخلصاً لضميره وفياً لمبادئه..
لم يكسب المال أو المنصب أو النفوذ ولكنه كسب شرف إنسانيته.. مثل هؤلاء الذين حاولوا القفز على الثورة والسطو عليها وهم سواقط القيد أصحاب المناهج القديمة التى لا تواكب نهضة العقول الشابة.. حتى التيارات الإسلامية عادت لتطل برأسها من جديد لتشارك فى غنيمة لم تحارب من أجلها.. تريد نصيباً من صيد لم تشارك فيه على طريقة الثعالب..
ثورة الشباب لم يكن لها أى لون سياسى أو دينى أو عقائدى.. حتى جماعة الإخوان التى شاركت بقدر محدد دون الإعلان عن نفسها ودون أن تطلق شعاراتها.. الآن تعلن عن نفسها.. فإذا كان أهل مصر جميعاً قد كشفوا عن قدراتهم غير المحدودة وإرادتهم القادرة على الفعل..
فإنهم لن يسمحوا لجماعات الفرقة والانقسام أن تفرق هذه الأمة أو تفرض عليها معتقداتها.. مصر دولة مدنية وستظل ونحن جميعاً نعلم وندرك أن الديكتاتورية الدينية أعنف من الديكتاتورية المدنية أو العسكرية.. وليست هذه الجماعات فقط، فكلما تأملت المشهد أجد عشرات الجحور قد فتحت وأطلت منها رؤوس الأفاعى والقوارض، وكلها تستهدف هذه الثورة التى كنا نسأل الله أن يحفظها..
الانتهازيون السفلة الذين لم يقدروا هدف الشباب النبيل الذين قدموا أرواحهم فى سبيل هذا الهدف، فى الوقت ذاته كانت الفئة الباغية تدمر الأرض الزراعية وتعمل على تبويرها وتخريبها بفضل الثقافة الانتهازية التى غرسها الحزب الوطنى فى صفوف أتباعه الذين هم رعاة الفساد الرسميون..
وآخرون فى المدن هبوا للاستيلاء على مساكن ليست لهم.. ولولا أصالة الثورة وصمودها لتحول الأمر إلى «هوجة» حمقاء مدمرة وغير ذلك كثير وكثير.. وكما خرجت أفاعى السياسة خرجت أفاعى الدمار التى تعيش على العدوان..
وهذا الحكم العسكرى الذى نعيش تحت ظله الآن عليه أن يطبق القانون بكل حسم فى سبيل عودة الأرض الزراعية إلى ما كانت عليه، حتى لو أدى الأمر إلى نزول جرافات القوات المسلحة.. وكذلك إعمال القانون ضد كل مغتصب لحقوق الآخرين.. صحيح أن الأحوال مازالت مضطربة ولكن يجب ألا نشترى الاستقرار بالتسامح مع الأشرار وإهدار القانون الذى يحمى مصالح الناس والدولة.. ولابد من العقاب.. ولابد أن تعود للأمة المصرية هيبتها وصلابة قوانينها.
ويأتى دور أهل الكلام فى مصر الذين يطلون علينا عبر الشاشات العديدة.. رحمة بمصر يا قوم.. فلم تتمزق ثيابها بعد ولم يُكشف لحمها.. وأنا شخصياً كمواطن مصرى مستعد وكلى ثقة بأن الظروف الحالية لن تمنع مصر من خوض حرب قتالية ضد عدو أخرق وسوف تفوز وتنتصر بفضل صلابة رجالها وطموح شبابها.. تحدثوا عن الكرة كما تشاءون.. تحدثوا عن الفن بكل حرية.. وعند الحديث عن الوطن يجب أن تكونوا على أعلى قدر من المسؤولية والمصداقية والمعرفة بدلاً من هذا السيرك المنصوب وهؤلاء الأراجوزات من غير الواعين الذين يرون فيما حدث ملعباً لهم..
مصر وثورتها أكبر بكثير من الذين يتحدثون عنها بلا رؤية وبلا منطق.. لقد صنع الشباب ما صنعوه بوعى وإيمان وتضحية وأخلوا ساحتهم.. فلا تخذلوهم يرحمكم الله.. لأنهم إذا عادوا مرة أخرى فسيكون الأمر مختلفاً تماماً.. وسوف نحزن حزناً عميقاً وطويلاً، الله وحده يعلم كم ستطول سنواته.. والله المستعان
المصرى اليوم
No comments:
Post a Comment