هنا.. فى ساقية مكى، وفى أحد أرقى أبراجها مقارنة بالمنطقة، التفت الأسرة حول مائدة طعام يوم ١٣ فبراير، فهى المرة الأولى التى يجتمعون فيها على مائدة منذ أكثر من ١٩ يوما، قضوها متفرقين فى ميدان واحد، هو ميدان التحرير، الذى كان قبلتهم ليلا ونهارا، بل مرقدهم أيضا فى آخر الليل، باعتباره وقتها الأكثر أمنا فى مصر.
لم يكن محمد راغب الشحات عبدالعاطى أصغر أفراد أسرته، فهو فى ترتيب الأبناء الأوسط بحق، أكمل عامه الـ٢٢، ويسبقه اثنان من الأبناء ويتبعه اثنان آخران، لكنه استطاع أن يقود هذا الجمع من الإخوة، ويزيد عليهم أم وأب تجاوزا الخمسين عاما بسنوات، قادهم- حسب وصفه- بإرادته التى حركت وغيرها إرادات الملايين ليحدث التغيير.
فى منزلهم ترى معنى الأسرة المتوسطة، فالأب «راغب الشحات عبدالعاطى» الذى لم يكمل دراسته الثانوية، تفرغ للعمل كصائغ، لكنه بمنطقهم «صحيح صايغ بس على أد حاله» والأم «فاتن» الحاصلة على دبلوم أتمت ٩ أشهر كموظفة، لكنها استقالت وتزوجت قبل نحو ٢٨ عاماً، وتفرغت للبيت والأبناء، قبل أن تأخذ قرارها بارتداء النقاب، منذ ١٣ عاماً والذى أخذت تؤكد أنه قرار ليس مبنيا على توجه دينى، وبررته: «عانيت طوال حياتى من التصنيف، مش معنى إنى لابسة النقاب أبقى إخوان أو سلفيين، ممكن أبقى ست عادية شايفة فى النقاب راحتها، ممكن يكون بيرحمنى من بصة، وأنا شايفة حياتى أحسن بيه».. بين هذين، الأبوين نشأ ٥ أبناء، لم يزد سن أكبرهم على ٢٧ عاما، وأصغرهم ١٢ عاما، وإن كانت الشريحة الأكبر من الأبناء تقع فى مرحلة الشباب.
فى هذه الأسرة نشأ الأشقاء الخمسة، كريم وولاء ومحمد وغادة ونوران، على قيم زرعها فيهم الأب محاولاً أن يتفادى كل ما عاناه، لكنه- وحسب وصفه- وجد معهم معاناة أكثر، ففى اللحظة التى قرر أن يترك فيها التعليم ويتفرغ للعمل الحر، لم يجد من يمنعه، لكنه وجد أجواء تساعده، واستطاع أن يبنى نفسه، لكن الأبناء عندما فكروا فى ترك التعليم تدخل هو بوصفه الأب لمنعهم، وعندما تخرج بعضهم، لم تفلح الشهادة التى حصل عليها فى توفير عمل للولد، أو زيجة للبنت.
من هنا بدأت الثورة، قرر الأب أن يترك لأبنائه حرية التعبير، وحسب منطقه: «يعنى لا شغل ولا جواز ولا حتى يعبروا عن نفسهم..ده يبقى حرام» لذا لم يرفض طلب ابنه الأوسط محمد الاشتراك فى المظاهرات، ولم يمانع فى أن يكون محمد وكريم من أعضاء الـ«فيس بوك»، ومن المشتركين فى صفحة «كلنا خالد سعيد» بل من الداعين للاشتراك فى أول مظاهرة تخرج يوم ٢٥ يناير تنادى بالرحيل وبتوفير «عيش وحرية وعدالة اجتماعية».
عدم رفض الأب لم يعن موافقته الكاملة، بل كان والأم يشتركان فى شعور واحد: هما يعنى هيعملوا إيه.. آخرهم يهتفوا شوية ويرجعوا على البيت» ولم تتصور الأم أن تلك المظاهرات التى رفضتها فى البداية وحاربت من أجل منع أبنائها عنها، ستحدث كل هذا التغيير، لذا تراوحت مشاعرها تجاه المظاهرات بين الرفض للفكرة والخوف من تبعاتها.
لم يعبأ محمد كثيراً بهذا الرفض، إذ كان بالفعل بدأ التحرك من خلال «فيس بوك» بل كان متابعا جيدا لما يحدث فى تونس، واستطاع من خلال أصدقائه التونسيين نشر فكرة «طالما حصل فى تونس.. ليه ما يحصلش عندنا»، لم يكن فى البداية مهتما بالأمر، ويرويه: سمعت عن بوعزيزى لكنى لم أهتم، وسمعت عن الثورة وأيضا لم أهتم، بعدها سمعت عن هروب الرئيس وقتها شعرت بأننا نستطيع أن نفعل ما فعلوه، وبدأت التواصل مع أصدقائى التوانسة، واشتركت مع كثيرين فى جروب كلنا خالد سعيد، ووصل عددنا لأكثر من ٤٠ ألفا، وتمت الدعوة لمظاهرة ٢٥ يناير، وتوقعنا أن ينزل إلى الميدان نصف هذا العدد فقط، لحنت أغنية بصوتى اسمها «اهزم صمتك» ووضعتها على اليوتيوب والفيس بوك، ودعوت من خلالها كل أصحابى لأن يشاركوا، وبعدها أرّخت لكل أحداث الثورة بأغنياتى التى تعاونت فيها مع عدد كبير من أصدقائى، كتبوا الكلمات وتوليت أنا اللحن والتوزيع والغناء.
محمد يدرس نهارا فى أكاديمية طيبة فى معهد نظم معلومات، ويعمل مساء فى محل فضة يمتلكه وأصدقاؤه، ويمارس هوايته بين كل هذا فى استوديو صغير يؤجره على نفقته الخاصة ليسجل فيه أغنياته، كان اتفاقه الأول مع أصدقائه عبر الفيس بوك ينص على الالتقاء فى ميدان مصطفى محمود ورفع لافتات تطالب بتوفير العيش والحرية والعدالة الاجتماعية، وقال: الأمن هو الذى وجهنا دون أن يقصد إلى التحرير، فقد أغلق كل المنافذ والمداخل المؤدية لميدان مصطفى محمود، فاتصل بى أصدقائى وغيرنا المكان إلى دار القضاء، لكن الوضع تكرر، فالتقينا فى التحرير، وحتى نصل مارسنا كل الخدع وتحايلنا للهروب من كردونات الأمن، لأنهم كانوا بيضربوا أى مجموعة ماشيين مع بعض، لذا كنا نتخفى ونتحايل ونهرب من خلال الشوارع الخلفية، وأضاف: الأمن كان صعب جدا فى أول أيام المظاهرات، لأننا أساسا كنا خايفين، ومعندناش خبرة مواجهة القنابل المسيلة للدموع، وفى الأيام التالية زادت جرأتنا على المواجهة مع زيادة أعدادنا، ومع خبرتنا فى مواجهة الأسلحة، كنا بننزل الميدان معانا العدة «بيبسى وخل وبصل وكمامة».
محمد أكد أن الضرب كان يشتد وعزيمتهم أيضا، وحسب وصفه: كل ما يضربونا نقف جنب بعض أكتر ونحمى بعض أكتر، وكنا نغادر الميدان ونعود إليه، ورغم رفض الأسرة، لم أكن أتخيل أننى سأتخلى عن أصدقائى فى الميدان الذين تعرفت عليهم من الفيس بوك.. وقال: كنا نغادر الميدان لنلتقى على الفيس بوك، لكننا فوجئنا بقطع الإنترنت فى اليوم التالى، وهو أغبى قرار يمكن أن يتخذه مسؤول، لأنه شجعنا أكثر على التواجد فى التحرير، بعد أن فقدنا الاتصال ببعضنا، بالعكس شجع مئات آخرين على التوجه للميدان ليعرفوا ما الذى يحدث هناك.. محمد أكد أن أحداث يوم ٢٥ يناير كانت الأصعب، أكثر من ٢٨ يناير، وبرر: أصل العدد يوم ٢٨ كان كبير جداً والأمن بدأ يخاف، ده غير أننا كنا يومها مدربين على التعامل مع القنابل والرصاص المطاطى عكس أول يوم فى المظاهرة، ده غير أن الأحداث ولعت فى السويس والإسكندرية وده اللى كان بيخلى إصرارنا يزيد.
بابتسامة تضحك فاتن والدة محمد وهى تتذكر هذه الأيام: محمد فنان من يومه، كنت فرحانة أنه بيشارك بغنوة أو بهتاف، لكن كنت خايفة جدا عليه، كل يوم كنت بناقشه فى القرارات اللى بتطلع، وبعد أول خطاب للرئيس السابق قلت له كفاية كده الراجل عمل اللى عليه وشال الحكومة، لكنه استهان بى، وقتها شعرت أن البلد هتضيع لو العيال دول ما حدش عقلهم، لكنى اكتشفت أن العيال دول أرجل من رجالة كتير، وأنهم قدروا يغيروا اللى ما عرفناش نغيره طول عمرنا.
فاتن تروى: بعد الخطاب المؤثر للرئيس مبارك، قعدت مع محمد وقلت له كفاية كده، ده راجل كبير ومحترم حرام عليكم وبكيت بحرقة على الزعيم واللى حصله، لكن بعد ما شفت الجمال والخيول بتدهس الولاد فى التحرير، ما حستش بنفسى غير وانا بادعى على الرئيس واللى عمله فى البلد، وتانى يوم على طول بدأت آخد بناتى وننزل مع أبوهم التحرير، ناخد معانا أكل وشرب للولاد المعتصمين ونقضى معاهم ساعات طويلة ونرجع بعدها نبات فى بيتنا.
محمد يقاطع والدته: وقتها كنا بنعرف بالصدفة أنهم نزلوا التحرير، وساعات كنا بنقابلهم هناك، ولا أنكر فرحتى بوجودهم، لأنه يعنى أنهم اقتنعوا بمطالبنا وشرعيتها، وأن ثورة الشباب أصبحت ثورة مجتمع كامل، وبصراحة لولا وجود كل الأعمار والطوائف والفئات لما نجحت الثورة، فقد بدأت شبابية وتحولت فيما بعد إلى ثورة الأسرة المصرية.
هنا تدخل الأب، إذ طلب من «المصرى اليوم» أن ترسل رسالة باسم الثوار إلى الحكومة وجهاز الشرطة وقبلهما الرئيس مبارك، تقول لهم فيها «نشكركم على حسن تعاونكم معنا» مؤكدا أنه لولا غباء الحكومة فى التعامل مع الثوار، وتأخر الرئيس السابق وعناده، وفشل الشرطة فى احتواء الغضب، لما نجحت هذه الثورة.
وبقدر سعادته بنجاح الثورة، بقدر حزنه على أنها لم تبدأ منذ فترة، إذ أكد أنه كان من الأولى بجيله أو حتى الجيل الذى جاء بعده أن يتحركا لإنقاذ مصر، ورغم ذلك لم يخف فخره بأن أبناءه وغيرهم صنعوا مستقبلا أفضل لمصر، لذا أعلن أنه سيشارك فى كل مظاهرة يتم الإعلان عنها من الآن فصاعدا، ومنطقه: هانزل بس عشان أكمل العدد ونوصل للمليون ونحقق مطالبنا، فالثورة لن تنجح إلا إذا غيرت على أرض الواقع، والمظاهرات الآن هدفها الأساسى إثبات أن الثورة حية لم تمت، وحتى ننتقل من مرحلة معرفة الفساد والكشف عنه إلى مرحلة التخلص من الفساد ذاته.
رغم كونه الابن الأكبر، الذى تخرج فى كلية الحقوق، وعمل لفترة محللا ماليا فى البورصة، فإنها أشياء لم تمنعه من أن يحمس شقيقه الأصغر على المواصلة والصمود، حيث استبدل شعار الحزب الوطنى «عشان تطمن على مستقبل ولادك» بشعار آخر أكثر واقعية «عشان يبقى ليك مستقبل من الأساس».
وخرج كريم وشقيقه محمد فى المظاهرات التى بدأت يوم ٢٥ يناير.. خرجا اثنين فى البداية ويوما بعد آخر كان ينضم إليهما أحد أفراد الأسرة، بمن فيهم نوران الطفلة التى لم تتجاوز عامها الـ١٢، ليعود الجميع بعد بيان القوات المسلحة الذى طالبت فيه بإخلاء الميدان، عادوا حسب تأكيده بعد أن اطمأنوا على نجاح المرحلة الأولى من ثورتهم، مؤكدا أن المراحل المقبلة أصعب وتحتاج إلى مزيد من التركيز والعمل.
الأسرة التى لم تكن تجتمع إلا على طعام أو مناسبة، اجتمعت منذ ٢٥ يناير أكثر من مرة، كلها لمناقشة ما يحدث فى مصر، وآلية الخروج منه، وهنا يرتفع صوت الأم: عمرى ما اهتميت بالسياسة ولا فكرت فيها، لكن ولادنا رجعونا تانى نحب البلد ونخاف عليها، وبقى ميدان التحرير بالنسبة لنا هو البيت الكبير.. ويقاطع الأب: مش مهم عندى اسم الوزير، الأهم بالنسبة لى سياسته اللى هيحطها، واللى لازم تبقى نابعة من مبادئ الثورة وجاية تحققها.. وهو ما دفع الصغيرة نوران إلى مقاطعة والدها: حاسة يا بابا إن أنا فرحانة، حاسة أنى عملت حاجة كبيرة قوى، أكبر من سنى، فضحك محمد: مش هانسى أول يوم نزلت وشميت فيه القنابل المسيلة للدموع، حسيت أنى هاموت يومها، وعرفت إزاى أن الروح ممكن تهون على الواحد طالما أن الهدف أكبر، أول مرة يبقى لى لازمة أنا وجيلى، أول مرة نتكلم فى السياسة، أول مرة أحس إن اللى كانوا بيحكمونا عصابة ده بعد ما أعلنوا عن الثروات المنهوبة والفساد اللى فى البلد، أول مرة أحس أنى غيرّت فى أهلى وبعد ما كانوا سلبيين ويتجاهلون مطالبي، أصبحوا إيجابيين بعض الشىء ورفضوا أفكارى، وفى النهاية وبعد موقعة الجمل قابلتهم صدفة فى ميدان التحرير.
غادة «مقاطعة»: كل معلوماتنا عن البلد والحكومة جبناها من وسط الميدان، فى الأول كنا خايفين نتوه من بعضنا، بعدها حسيت بالأمان وأنا جوه الميدان، كل الشباب كان نفسهم يهربوا من البلد، دلوقتى هدفنا اننا نعمرها ونطورها.
يختنق صوت الأم وهى تتذكر خطابات الرئيس السابق مبارك: كان فى كل خطاب يقول يهمنى رجل الشارع البسيط، نفسى أعرف عمل إيه لرجل الشارع ده غير انه زوِّده فقر على فقره؟.
وتبكى الأم وهى تتذكر خوفها، وتحتضن صغيرتها نوران، وعلى وجه كريم ابتسامة، فيما يرسم وجه الأب علامات الارتياح، يجتمعون حول محمد وهو يعزف على جيتاره ويغنى «اهزم صمتك».
ويقول فيها:
صوتنا هيبنى ومش هيدمر.. صوتنا أكيد لازم هيغير
أوعى تقول دا مافيش تأثير.. صوتك هيجيب التغيير
نفض نومك من على عينك.. قوم واصرخ وبأعلى الصوت
اهزم خوفك بينى وبينك.. اللى بيصرخ مش هيموت
شيماء البردينى
المصرى اليوم
No comments:
Post a Comment