ماذا بعد جريمة الإسكندرية؟
كانت ردود الفعل للجريمة التى ارتكبت ضد الأقباط فى ليلة رأس السنة، طيبة للغاية، وبعثت الأمل فى نفوس المصريين فى أن مصر ربما لا تزال بخير.
كانت ردود المثقفين متوقعة، ولكنها جاءت هذه المرة، أكثر من أى مرة سابقة، مفعمة بالإخلاص، وبالحزن الشديد لما حدث.
والأفضل منها كانت ردود الفعل لدى بسطاء المصريين، الأقل تعليما وثقافة ودخلا. حكت لى صديقة عائدة من أسيوط أن مظاهر الحزن والمشاركة الحقيقية من جانب المسلمين لأحزان الأقباط، وحرص كثيرين من أهل البلد البسطاء على الذهاب إلى الكنائس فى أسيوط لمشاركة الأقباط عيدهم، كانت كلها ملحوظة بشدة وباعثة على الأمل.
جاءت ردود الفعل من جانب الحكومة وصحفها، كالعادة، فى شكل الكليشيهات المألوفة والتى لا يستطيع المرء فيها التمييز بين الحقيقى والزائف.
بل وكذلك جاءت التصريحات المتعلقة بسير التحقيق، والصور المنشورة للشخص الذى يزعم أنه من المحتمل أن يكون قد قتل نفسه من أجل ارتكاب الجريمة...
إلخ، لا تبعث أيضا أى ثقة فيما إذا كان ما ينشر وصفا لما حدث بالفعل أو لما تريد الحكومة أن يظن الناس أنه حدث.
ولكن هذا لم يغير من الانطباع العام بأن شعور المسلمين المصريين بالتعاطف الحقيقى مع الأقباط فى هذه المأساة كان شعورا صادقا وقويا.
ومع هذا فلا شك أن المصريين على بكرة أبيهم يستولى عليهم أيضا قلق حقيقى من المستقبل، بما فى ذلك مستقبل العلاقة بين المسلمين والأقباط. فالجريمة كانت أبشع من سابقتها التى حدثت فى نجع حمادى منذ عام واحد، وكلتاهما نوع جديد من الاعتداء على الأقباط، إذ يحدث بتدبير سابق دون استفزاز لأى سبب. وفى نفس الأسبوع يجرى استفتاء فى السودان حول انفصال الجنوب عن الشمال. والأحداث فى العراق تجرى بما يزيد من الفرقة بين الشيعة والسنة.
والدول الأوروبية والولايات المتحدة تصدر تصريحات أشد من المعتاد تتحدث عن مغبة عجز النظام المصرى عن حماية الأقليات. وكأن الفكرة الشيطانية التى سمعنا عنها لأول مرة منذ سنوات كثيرة، عن وجود مخطط لتفتيت العالم العربى إلى دويلات على أساس دينى، إمعانا فى إضعاف العرب من ناحية، واستئصالا لفكرة القومية العربية إلى غير رجعة، ودعما لفكرة الدولة اليهودية على أنقاض فلسطين، قد بدأ تنفيذه الجوى، مما قد يكون له علاقة أيضا بإشعال الفتنة بين المصريين المسلمين والأقباط.
كل هذا لا بد أن يثور فى أذهان الكثيرين (وأنا منهم)، ومن ثم يضعف من أثر ردود الفعل الإيجابية للحادثة الأخيرة، ويجعل المرء أكثر ميلا للتشاؤم.
كان هذا أحد الأسباب التى جعلتنى أتردد فى الاستجابة لطلب إحدى الصحف التى خطر لها أن تجمع من بعض الكتاب اقتراحات لما يمكن عمله فى المستقبل لمواجهة الفتنة الطائفية فى مصر. إذ قلت لنفسى: «وهل نحن فى حاجة للمزيد من الاقتراحات؟ ألم يُقل فى الحقيقة كل شىء، وقدمت كل الاقتراحات الممكنة؟ هل يمكن أن أعيد الكلام عن ضرورة الإصلاح لما تبثه وسائل الإعلام، والامتناع عن التحريض وإشاعة الكراهية فى خطب أئمة المساجد، ومراجعة ما تحتويه الكتب الدراسية التى يقرأها ملايين التلاميذ، ومنع المدرسين من إفساد عقول تلاميذهم بشروح سيئة للغاية باسم الدين، مما يشيع البغضاء بين الأطفال المسلمين والأقباط؟ بل وهل أعيد الكلام عن اثر السياسات الاقتصادية وشيوع البطالة وانخفاض الدخول مع ارتفاع الأسعار، على مشاعر الناس نحو بعضهم البعض، وخاصة ضد الأقليات، حيث لا يجد الشخص المحبط لأسباب اقتصادية، متنفّسا لسخطه وإحباطه إلا صبّ غضبه وكرهه على أشخاص من غير دينه؟».
كل هذا صحيح بالطبع، ولا شك أنه يعتبر مساهمة فى حل المشكلة، ولكن هناك عدة أمور تجعل المرء يتردد فى قوله من جديد، عدا أنه قيل من قبل عشرات المرات.
فهناك أولا الاحتمال الذى ذكرته حالا من أن يكون الدافع الأساسى لإثارة الفتنة بين المسلمين والأقباط، مخططا خارجيا لن يقف فى طريقه لا تحسين برامج التليفزيون، ولا إصلاح المقررات المدرسية، ولا حتى إصلاح السياسة الاقتصادية.
فإذا كانت قوى خارجية هى المسئول الأساسى عن إفساد العلاقة بين المسلمين والأقباط فهى ستستمر فى عملها أيا كان ما نقوم به من إصلاحات.
بل قد تكون لنفس هذه القوى الخارجية يد فى استمرار التليفزيون والإعلام المصرى والمقررات الدراسية والسياسية والاقتصادية على ما هى عليه.
إذ أليس لهذه القوى الخارجية يد أيضا فى اختيار حكامنا، وبقاء من يبقى منهم وعزل من يُعزل؟
ولكن فلنفرض جدلا أنه ليست هناك أصابع خارجية على الإطلاق فى هذا الأمر، وأن الإصلاح والإفساد هما من صنعنا نحن تثور هنا صعوبة أخرى هى أن كل ما نرجوه من إصلاح فى هذه المجالات (الإعلام / التعليم / الاقتصاد) لا يمكن أن يؤتى بثمراته فى يوم وليلة. فالتدهور الذى حدث فى هذه الميادين بدأ منذ مدة طويلة، وآثاره النفسية ترسخت وتعمقت، مما يجعل استئصالها يحتاج إلى فترة ليست قصيرة من العمل الدءوب.
ولكن الأسوأ من هذا أنه حتى لو كانت المسئولية تقع على عاتقنا نحن دون أى تدخل خارجى، فلابد من الاعتراف بأن النظام الحالى فى مصر ليس راغبا أصلا فى القيام بهذه الإصلاحات الضرورية مهما صدر عنه من تصريحات بعكس ذلك. لا المسئولون عن التعليم، ولا عن الإعلام، ولا عن الاقتصاد يريدون اتخاذ الإجراءات اللازمة للتخفيف من التوتر بين المسلمين والأقباط، ومن ثم فإن تقديم النصح لهم يكاد يكون مضيعة للوقت.
«هل هذا معقول؟»، هكذا قد يكون رد فعل البعض لهذا الكلام. «أليس فى الوزارات والهيئات المسئولة عن هذه المجالات الثلاثة الرئيسية، من يهمه صلاح هذا البلد والقضاء على الفتنة؟».
إجابتى عن هذا السؤال أن هذه الوزارات والهيئات مليئة بالفعل بالوطنيين الذين يهمهم صلاح هذا الوطن، بل هم الغالبية فى كل هذه الوزارات والهيئات، ولكنهم ليسوا أصحاب القرارات الحاسمة والمؤثرة.
بل وحتى أصحاب القرارات الحاسمة والمؤثرة قد يحمل بعضهم مشاعر طيبة إذا خلوا لأنفسهم، ويعبرون عنها إذا جلسوا مع عيالهم وأصدقائهم ولكنهم عندما يجلسون لاتخاذ هذه القرارات يفعلون العكس بالضبط.
والسبب فى ذلك، بصراحة، أن القرارات المطلوب اتخاذها من أجل القضاء على الفتنة الطائفية تتعارض مع مصالح أخرى هى فى نظر هؤلاء أهم وأولى. هذه المصالح الأخرى تتلخص فى ثلاث كلمات «البقاء فى الحكم».
أما لماذا يتعارض هدف البقاء فى الحكم، مع العمل على القضاء على الفتنة الطائفية، فالإجابة هى أن القضاء على الفتنة الطائفية يتطلب القضاء على الفساد، ومزيدا من العدل، ومزيدا من الحرية، ومزيدا من الاستقلال عن القوى الخارجية.
بعبارة أخرى: القضاء على الفتنة الطائفية يحتاج إلى ديمقراطية، وهذه ليست فى صالح هذا النظام.
كانت ردود المثقفين متوقعة، ولكنها جاءت هذه المرة، أكثر من أى مرة سابقة، مفعمة بالإخلاص، وبالحزن الشديد لما حدث.
والأفضل منها كانت ردود الفعل لدى بسطاء المصريين، الأقل تعليما وثقافة ودخلا. حكت لى صديقة عائدة من أسيوط أن مظاهر الحزن والمشاركة الحقيقية من جانب المسلمين لأحزان الأقباط، وحرص كثيرين من أهل البلد البسطاء على الذهاب إلى الكنائس فى أسيوط لمشاركة الأقباط عيدهم، كانت كلها ملحوظة بشدة وباعثة على الأمل.
جاءت ردود الفعل من جانب الحكومة وصحفها، كالعادة، فى شكل الكليشيهات المألوفة والتى لا يستطيع المرء فيها التمييز بين الحقيقى والزائف.
بل وكذلك جاءت التصريحات المتعلقة بسير التحقيق، والصور المنشورة للشخص الذى يزعم أنه من المحتمل أن يكون قد قتل نفسه من أجل ارتكاب الجريمة...
إلخ، لا تبعث أيضا أى ثقة فيما إذا كان ما ينشر وصفا لما حدث بالفعل أو لما تريد الحكومة أن يظن الناس أنه حدث.
ولكن هذا لم يغير من الانطباع العام بأن شعور المسلمين المصريين بالتعاطف الحقيقى مع الأقباط فى هذه المأساة كان شعورا صادقا وقويا.
ومع هذا فلا شك أن المصريين على بكرة أبيهم يستولى عليهم أيضا قلق حقيقى من المستقبل، بما فى ذلك مستقبل العلاقة بين المسلمين والأقباط. فالجريمة كانت أبشع من سابقتها التى حدثت فى نجع حمادى منذ عام واحد، وكلتاهما نوع جديد من الاعتداء على الأقباط، إذ يحدث بتدبير سابق دون استفزاز لأى سبب. وفى نفس الأسبوع يجرى استفتاء فى السودان حول انفصال الجنوب عن الشمال. والأحداث فى العراق تجرى بما يزيد من الفرقة بين الشيعة والسنة.
والدول الأوروبية والولايات المتحدة تصدر تصريحات أشد من المعتاد تتحدث عن مغبة عجز النظام المصرى عن حماية الأقليات. وكأن الفكرة الشيطانية التى سمعنا عنها لأول مرة منذ سنوات كثيرة، عن وجود مخطط لتفتيت العالم العربى إلى دويلات على أساس دينى، إمعانا فى إضعاف العرب من ناحية، واستئصالا لفكرة القومية العربية إلى غير رجعة، ودعما لفكرة الدولة اليهودية على أنقاض فلسطين، قد بدأ تنفيذه الجوى، مما قد يكون له علاقة أيضا بإشعال الفتنة بين المصريين المسلمين والأقباط.
كل هذا لا بد أن يثور فى أذهان الكثيرين (وأنا منهم)، ومن ثم يضعف من أثر ردود الفعل الإيجابية للحادثة الأخيرة، ويجعل المرء أكثر ميلا للتشاؤم.
كان هذا أحد الأسباب التى جعلتنى أتردد فى الاستجابة لطلب إحدى الصحف التى خطر لها أن تجمع من بعض الكتاب اقتراحات لما يمكن عمله فى المستقبل لمواجهة الفتنة الطائفية فى مصر. إذ قلت لنفسى: «وهل نحن فى حاجة للمزيد من الاقتراحات؟ ألم يُقل فى الحقيقة كل شىء، وقدمت كل الاقتراحات الممكنة؟ هل يمكن أن أعيد الكلام عن ضرورة الإصلاح لما تبثه وسائل الإعلام، والامتناع عن التحريض وإشاعة الكراهية فى خطب أئمة المساجد، ومراجعة ما تحتويه الكتب الدراسية التى يقرأها ملايين التلاميذ، ومنع المدرسين من إفساد عقول تلاميذهم بشروح سيئة للغاية باسم الدين، مما يشيع البغضاء بين الأطفال المسلمين والأقباط؟ بل وهل أعيد الكلام عن اثر السياسات الاقتصادية وشيوع البطالة وانخفاض الدخول مع ارتفاع الأسعار، على مشاعر الناس نحو بعضهم البعض، وخاصة ضد الأقليات، حيث لا يجد الشخص المحبط لأسباب اقتصادية، متنفّسا لسخطه وإحباطه إلا صبّ غضبه وكرهه على أشخاص من غير دينه؟».
كل هذا صحيح بالطبع، ولا شك أنه يعتبر مساهمة فى حل المشكلة، ولكن هناك عدة أمور تجعل المرء يتردد فى قوله من جديد، عدا أنه قيل من قبل عشرات المرات.
فهناك أولا الاحتمال الذى ذكرته حالا من أن يكون الدافع الأساسى لإثارة الفتنة بين المسلمين والأقباط، مخططا خارجيا لن يقف فى طريقه لا تحسين برامج التليفزيون، ولا إصلاح المقررات المدرسية، ولا حتى إصلاح السياسة الاقتصادية.
فإذا كانت قوى خارجية هى المسئول الأساسى عن إفساد العلاقة بين المسلمين والأقباط فهى ستستمر فى عملها أيا كان ما نقوم به من إصلاحات.
بل قد تكون لنفس هذه القوى الخارجية يد فى استمرار التليفزيون والإعلام المصرى والمقررات الدراسية والسياسية والاقتصادية على ما هى عليه.
إذ أليس لهذه القوى الخارجية يد أيضا فى اختيار حكامنا، وبقاء من يبقى منهم وعزل من يُعزل؟
ولكن فلنفرض جدلا أنه ليست هناك أصابع خارجية على الإطلاق فى هذا الأمر، وأن الإصلاح والإفساد هما من صنعنا نحن تثور هنا صعوبة أخرى هى أن كل ما نرجوه من إصلاح فى هذه المجالات (الإعلام / التعليم / الاقتصاد) لا يمكن أن يؤتى بثمراته فى يوم وليلة. فالتدهور الذى حدث فى هذه الميادين بدأ منذ مدة طويلة، وآثاره النفسية ترسخت وتعمقت، مما يجعل استئصالها يحتاج إلى فترة ليست قصيرة من العمل الدءوب.
ولكن الأسوأ من هذا أنه حتى لو كانت المسئولية تقع على عاتقنا نحن دون أى تدخل خارجى، فلابد من الاعتراف بأن النظام الحالى فى مصر ليس راغبا أصلا فى القيام بهذه الإصلاحات الضرورية مهما صدر عنه من تصريحات بعكس ذلك. لا المسئولون عن التعليم، ولا عن الإعلام، ولا عن الاقتصاد يريدون اتخاذ الإجراءات اللازمة للتخفيف من التوتر بين المسلمين والأقباط، ومن ثم فإن تقديم النصح لهم يكاد يكون مضيعة للوقت.
«هل هذا معقول؟»، هكذا قد يكون رد فعل البعض لهذا الكلام. «أليس فى الوزارات والهيئات المسئولة عن هذه المجالات الثلاثة الرئيسية، من يهمه صلاح هذا البلد والقضاء على الفتنة؟».
إجابتى عن هذا السؤال أن هذه الوزارات والهيئات مليئة بالفعل بالوطنيين الذين يهمهم صلاح هذا الوطن، بل هم الغالبية فى كل هذه الوزارات والهيئات، ولكنهم ليسوا أصحاب القرارات الحاسمة والمؤثرة.
بل وحتى أصحاب القرارات الحاسمة والمؤثرة قد يحمل بعضهم مشاعر طيبة إذا خلوا لأنفسهم، ويعبرون عنها إذا جلسوا مع عيالهم وأصدقائهم ولكنهم عندما يجلسون لاتخاذ هذه القرارات يفعلون العكس بالضبط.
والسبب فى ذلك، بصراحة، أن القرارات المطلوب اتخاذها من أجل القضاء على الفتنة الطائفية تتعارض مع مصالح أخرى هى فى نظر هؤلاء أهم وأولى. هذه المصالح الأخرى تتلخص فى ثلاث كلمات «البقاء فى الحكم».
أما لماذا يتعارض هدف البقاء فى الحكم، مع العمل على القضاء على الفتنة الطائفية، فالإجابة هى أن القضاء على الفتنة الطائفية يتطلب القضاء على الفساد، ومزيدا من العدل، ومزيدا من الحرية، ومزيدا من الاستقلال عن القوى الخارجية.
بعبارة أخرى: القضاء على الفتنة الطائفية يحتاج إلى ديمقراطية، وهذه ليست فى صالح هذا النظام.
بقلم:جلال أمين- الشروق
No comments:
Post a Comment