Wednesday, January 12, 2011

فيروس الطائفية

«مصر!.. لى صديق مصرى.. هو قبطى.. هاجر وعائلته بعد فقدانه الكثير من ثروته فى ظل سياسات التأميم.. شخص رائع حقا.. هم أقباط أتعرفين؟».

هكذا انتبهت منذ ست سنوات لوصف أستاذى لصديقه بأنه «قبطى».فتساءلت هل يرانى «مسلمة» إذن؟

وكيف لى أن أفهم ذلك كليا، وأنا لم أفصل فى ذهنى من قبل ماهية المصرى المسلم من المصرى المسيحى؟ فهويتى الدينية نتاج تعليمى فى مدارس الراهبات وكتب الوزارة فى التربية الإسلامية وأسرة منفتحة على الآخر المسيحى واليهودى واللادينى. فمن أين لى أن أسمع فى أمريكا وصفاً «يميز» المصرى إما «قبطيا» أو «مسلما»؟!

قلت له: «جميل فعلا.. المصريون بالقطع مسيحيون ومسلمون.. وأنا شخصيا أفتقد تواجد يهود مصر رغم أن جيلى لم يعاصرهم.. ولكن جدى كان يحكى عنهم قصصا.. ولكنى التفت لوصف المصرى بالقبطى أو المسلم.. لا أظن أننا نفعل ذلك عادة! فالمسيحيون يمثلون ما بين ١٠ و١٣%، وأنا عشت كل حياتى المدرسية فى جو مسيحى مسلم يبدو أقرب لأن يكون ٥٠%-٥٠%، إن لم يكن أغلبية مسيحية مُحتضنة لى...».

الآن أتذكر إحساسى بضرورة «الشرح» أن ليس لدينا «مسائل طائفية» فى مصر وأنا أتحدث إلى أستاذى المتخصص فى النزاعات العرقية! فحين رد «ولكن هناك إشارات إلى بعض المشاكل» شعرت بتخوف مقترن بنزعة «الإنكار» كأن أرفض الطرح أساسا أننا فى مصر قد نواجه خطرا «طائفيا» ما - فليست هذه مصر.

أكدت «نحن فى سلام فى مصر تجاه تلك الأمور الخاصة بالتعددية الدينية.. وسعداء حقا بذلك.. فهذه ميزة عظيمة لشعبنا..» لكن بعد هذا الحوار أصبت بهاجس أن نكون نحن المصريين، مسيحيين، ومسلمين، فى أزمة ما ولا أدرك.

فقد سمعنا عن صراعات بين «مسيحيين» و«مسلمين» فى البوسنة، «هوتو» و«توتسى» فى رواندا، «شيعة» و«سنة» فى العراق، «عرب» و«أفارقة» فى دارفور. والسبب هو وصف الإعلام طرفى النزاع فى صراعات «سياسية» بمسميات «طائفية» رغم أن دراسات عديدة حول بؤر الصراع أشارت إلى ضرورة عدم اختزال الأسباب فى «الكره التاريخى» Ancient Hatred نتيجة فروق دينية أو اثنية أو طائفية أو عرقية، مؤكدة أن ما «ينفجر» من صراعات ينتج عن عمليات سياسية معاصرة «تُفعّل» أوجه الاختلاف داخل الشعب الواحد لتصبح الفروق «خطوطا فاصلة» تقسّم عناصر المجتمع رغم تاريخ الامتزاج والوحدة. وتماما كما تُفصَل العناصر الكيميائية لاستخراج «النقى» قد تصل عمليات الفصل داخل المجتمعات لأقصى حالات «التطهير العرقى».

ما علاقتنا نحن فى مصر بكل هذا؟

علاقتنا أولا، أننا جزء من هذا العالم، الذى يبدو مصابا ولعدة عقود «بفيروس ما» قادر على «تفعيل» الطائفية فى بقاع مختلفة. ثانيا، «مناعتنا» التاريخية المتمثلة فى «الوحدة الوطنية» لا تبدو كافية وحدها للتصدى «للفيروس الطائفى» فى شكله المعاصر. فالنقطة الرئيسية هى أن الصراعات ليست نتيجة «كره تاريخى» أو «حب تاريخى»، وإنما نتيجة «سياسات دولة» و«سلوكيات مجتمع» تجاه مفاهيم معاصرة مثل «التنوع الثقافى» و«التعدد الدينى» و«حريات الأقليات»، بالإضافة إلى ذلك المصطلح، الذى كاد يفقد معناه وهو «حقوق الإنسان». فهذه المسميات أفرزت خطابا حقوقيا دوليا مصر ليست «محمية» منه تحت شعارات «سيادة الدولة» أو «عدم التدخل فى الشؤون الداخلية».

أما «الإنكار» كأن نقول جميعا، دولةً ومجتمعاً، بتفاخر بل غرور أحيانا: «نحن عراق لا طبعا! صراع شيعى- سنى؟ لسنا طرفا فيه! سودان يتفكك؟ أزمة فى دارفور؟ ليس لدينا مثل تلك الأشياء! بوسنة أو صرب؟ بالتأكيد أمور ليست ذات صلة بنا! ٣٠٠.٠٠٠ «توتسى» يُبَادون جماعيا من قبل «الهوتو» فى ١٠٠ يوم؟ فقد نقول باستعلاء كما قال الجميع فى حينها «أفارقة يتصرفون كالأفارقة»، ونسى أو تناسى الجميع أن مأساة «رواندا» كانت نتاجاً لعلاقات دولية «آنية معاصرة حديثة» استُخدمت فيها التكنولوجيا المتاحة فى حينها مثل «راديو السيارات» لتحريض الأفراد على قتل الأصحاب والجيران بعد إشعال الفتنة.
الآن.. هل الشائعات ورسائل المحمول هى ما يحرك شعوبا ضد نفسها؟
بمعنى آخر رغم إيمانى الكامل برسوخ مبدأ «الوحدة الوطنية» كما حدثت أستاذى، فأنا أصر الآن على طرق جرس إنذار للمجتمع وللدولة، التى يبدو أن الجميع قد ملّ تصرفاتها فى الداخل والخارج، فباتت تُوصف بالدولة الفاشلة Failing State - أى دولة مفككة فاقدة للشرعية، غير عابئة بتوفير الحاجات الأساسية لشعبها، غير قادرة على حماية الأفراد بشكل عام، وحماية الأقليات بشكل خاص - وهذا هو بيت القصيد فى الخطاب الدولى بعد حادث تفجير الكنيسة فى الإسكندرية، ولا يجب أن يُتهم بنشره المسيحيون فى مصر أو فى الخارج فهو خطاب قائم بالفعل، نابع من المناخين العالمى والمحلى اللذين نعيشهما وموجه «للدولة» المصرية.
فما العمل إذن؟

أولا: مصارحة أنفسنا أننا لسنا بالضرورة أفضل من غيرنا ممن عانى مرارة الطائفية. فنحن نعيش فى منظومة عالمية تدفع إلينا «فيروس الطائفية» دفعا كسمةٍ من سمات العولمة السياسية.

ثانيا: نحن نستطيع التصدى «للفيروس» إن لم ننكر «الإصابة»، وإن اعترفنا بأن هناك تغيرات ثقافية شعبية جذرية يجب أن نحدثها تعتمد على احترام الاختلاف والاعتراف بالآخر. فأداتنا الوحيدة فى التصدى للخطر الطائفى، التى تتمثل فى شعار «الوحدة الوطنية التاريخية» لم تعد أداة كافية - فلا نستطيع أن نعيش فى ماضٍ جليلٍ خلقته أجيال قبلنا وتوارثناه، ولكن بددنا منه ما بددناه بتهاوننا كمجتمع تجاه أهمية التنوع الدينى والثقافى والفكرى.

ثالثا: مازال علينا تصور السيناريو الأفضل لمستقبلنا السياسى فى مصر والتفاؤل تجاه قدرتنا على تحقيقه، لأننا إن لم نتفاءل ونعمل على تصحيح المسار المصرى ككل فقد نكون بالفعل مقدمين على مرحلة نزاع طبقى، عرقى، دينى مقلقة للغاية.
أين «الدولة» من تلك الحقائق؟

لا أدرى صراحةً ولا أعبأ فى الوقت الحالى. «فالمجتمع» أهم.

بقلم مروى مزيد - المصرى اليوم

زميل مركز دراسات الشرق الأوسط
جامعة واشنطن، سياتل، الولايات المتحدة الأمريكية

No comments: