على الرغم من قسوة الحادث الإرهابى الذى شهدته مدينة الإسكندرية الأسبوع الماضى، إلا أن معظم المعالجات التى تعاملت معه نظرت للأمور من السطح، ولم تحاول أن تقترب من عمق المشكلة الطائفية التى باتت مهددة بالانفجار فى أى لحظة.
والحقيقة أن ما شهدته مصر مؤخرا يدل على أن هناك كارثة اقتربت من الانفجار لن تحلها حفلات الوحدة الوطنية، ولا الحديث عن ترابط عنصرى الأمة وغيره من الشعارات السمجة التى ملها حتى من يرددونها.
والحقيقة أن المسؤول الأول عن تصاعد الطائفية هو النظام السياسى، وهو أيضا المسؤول الأول عن إخراجنا منها، ولكن بحزمة من الإجراءات والإصلاحات الجراحية، بعد أن عمّقت المسكنات من المرض، وبات من المهم توصيف المشكلة بشكل حقيقى حتى يمكن البدء فى حلها.
والواقع أن مصر تدفع كل يوم ثمن وجود نظام غير سياسى امتلك مهارات مؤكدة فى الإدارة اليومية وترحيل المشكلات وتلفيقها بصورة أبقته فى الحكم دون أى أخطار حقيقية لأكثر من ٣٠ عاما، وغاب عنه ليس فقط الخيال السياسى إنما الرؤية السياسية التى تبدأ بوضع منظومة من القيم السياسية والقواعد القانونية، التى تلزم بها الجميع حكاماً ومحكومين، وتكون قادرة على نيل ثقة أغلب المواطنين.
ولذا لم يفهم كثير من المسؤولين دلالات غضب الأقباط رغم إعلان الرئيس مبارك وقيادات الدولة أن مصر شهدت (وهو صحيح) أكبر عدد من بناء الكنائس فى تاريخها المعاصر، ومع ذلك خرج الأقباط إلى الشارع احتجاجاً على رفض الدولة المفاجئ تحويل مبنى خدمات إلى كنيسة، ثم خروجهم مرة أخرى عقب حادث الإسكندرية الإرهابى فى مشهد لم تعرفه مصر من قبل.
والحقيقة أن مشكلة الأقباط ليست مشكلة تمييز قانونى، ولا حتى مشكلة بناء كنائس ولكنها مشكلة التعامل اليومى مع واقع طائفى جعل معتدلى الأقباط ضحية لخطابين متطرفين، أحدهما إسلامى استبعدهم معنويا وثقافيا من المجال العام، وأساء لدينهم بخرافات وأفكار ومتعصبة، والآخر مسيحى كرّس العزلة وكراهية الآخر حتى أصبح لا يرى الدنيا إلا من خلال كراهية الإسلام والمسلمين، ونجح فى التواصل مع الخطاب العالمى المعادى للإسلام الذى تبلور بعد اعتداءات ١١ سبتمبر، وابتز الدولة بامتداداته الخارجية وقوته الداخلية.
أما المسلمون فقد تُركوا ضحايا خطاب إسلامى مهمته الأساسية تغييب وعيهم وفصلهم عن العالم الذى يعيشون فيه حتى أصبحت القضايا التى يعتبرونها «أولويات دينية» مسار سخرية أى عاقل، وأصبحت منابع الطائفية الإسلامية مصدراً لتغييب الوعى وكراهية العلم وتكريس التواكل والأفكار الغيبية حتى أصبحت الطائفية ضد المسيحيين حصيلة لقيم أسوأ يتلقاها كثير من المسلمين عبر شبكات الإنترنت وكثير من البرامج والخطب الدينية.
والحقيقة أن ماكينة إنتاج الطائفية فى مصر عملت بهمة ونشاط طوال السنوات الماضية، ونجحت فى استقطاب قطاعات واسعة من جمهور الجانبين، وما لم نعترف بأن المشكلة الطائفية أصبحت فى الشارع وبين الجماهير، وننس حكاية القلة المندسة التى تشوّه العلاقة بين المسلمين والأقباط، فإننا سندخل فى حروب طائفية سيدفع ثمنها الجميع.
وقد ترك الحكم كل هذه المشكلات تمتد وتهيمن على عقول كثير من الشباب دون أن يتحرك لوقفها، وهو ما يعكس فى الحقيقة فشلاً سياسياً كبيراً، لأنه لأول مرة منذ ثورة ١٩١٩ يعتمد نظام سياسى فى بقائه الطويل فى الحكم على الأمن والإجراءات الأمنية، دون أن يمتلك أى رؤية سياسية قادرة على جذب الناس حوله، فالوفد قبل ثورة يوليو كان مصدر إلهام لعموم المصريين، مسلمين وأقباطاً، فخرجوا بإيمانهم الدينى إلى مجال سياسى علمانى من أجل الدفاع عن الاستقلال والدستور، وجاءت تجربة عبدالناصر لتحصل على دعم غالبية المصريين، خاصة فقراء الأقباط والشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى، وحتى الرئيس السادات الذى أطلق التيارات الدينية من عقالها دعم توجهاته السياسية كثير من المصريين.
وهكذا بقى الخطاب الدينى بجوار خطابات سياسية أخرى تنجز وتتعثر، وتصيب وتخطئ، وليس بجوار الفراغ، حتى سيطر وهيمن على عقول الناس.
لقد غابت السياسة والأحزاب، وأصبح لدينا نظام سياسى يقتصر فهمه لهذه الأمور على عدد الكنائس التى بنيت فى عهد الرئيس مبارك، ولا يفهم معنى التغير الذى حدث فى قيم المصريين وثقافتهم، وكيف تحول رجال الدين إلى رموز لإنتاج الطائفية، مستغلين الفراغ الذى حدث بغياب الدولة وضعف الأحزاب ومنظمات المجتمع المدنى، وقتل أى مبادرة ذات قيمة تخرج من المجتمع.
وقد فشلت محاولات الحكم فى البحث عن الشرعية من خلال مواجهة الخارج وضغوطه، فحين يرفض النظام السياسى التدخلات الأجنبية لا ينصت له الناس كثيرا، فهو ليس نظام عبدالناصر الذى خاض حروب تحرر حقيقية ضد الاستعمار، فخاصم الغرب وأمريكا دفاعا عن التحرر الوطنى، فى حين أن الحكم الحالى يرفض تدخلات الغرب حين يكون الضحية هو المواطن المصرى، وبعد أن فشل فى حماية المسلمين والمسيحيين معاً، وتقديم قيم ملهمة للناس أو إصلاح سياسى أو اقتصادى يخرجهم من دائرة الخطاب الدينى المغلق إلى دنيا الله الواسعة.
إن تجفيف منابع الطائفية فى مصر سيبدأ من عنوان عريض هو «مراجعة الخطاب الدينى»، وليس فقط تعيين رئيس جامعة أو محافظ آخر مسيحى، فهى كلها مسكنات قد تكون مطلوبة، ولكن المعضلة الحقيقية فى استعادة مئات الآلاف من الشباب الذين سقطوا ضحايا اللوثة الدينية، والتدين المغشوش، وإن ذلك لن يتم إلا بالعمل على تأسيس «تجمع ما» جديد يحمل عنواناً عريضاً «دفاعاً عن الدولة المدنية» وليس بيت العائلة المصرية الذى دعا إليه الأزهر الذى هو جزء من المشكلة، وإصلاحه جزء من الحل.
إن المدافعين عن مدنية الدولة وعلمانية النظام السياسى والمتصالحين فى نفس الوقت مع الدين والمؤمنين بهوية هذا البلد العربية وثقافته الإسلامية، عليهم أن يتقدموا الصفوف من أجل تجفيف منابع الطائفية الإسلامية ورفض الطائفية المسيحية، فالأولى هى المسؤولة عن تنامى الثانية، وفعل المسلمين مثّل عاملاً رئيسياً وراء رد فعل المسيحيين.
لقد تُركت الساحة لخطاب إسلامى متعصب وجماعات مصرية ادعت أنها ضد التمييز وهى أكبر مكرس للتمييز والطائفية، فى حين ظهرت تجمعات جديدة ضمت شباباً مسلماً ومسيحياً سعى بشكل تلقائى ودون أى تصنّع إلى العمل سوياً، متخلصاً من أمراض أيديولوجية وسياسية ودينية كثيرة، فكانت جمعية «عيش وملح» الواعدة، ثم جاءت صور التضامن التى أبداها نشطاء ومسلمون عاديون مع قضايا الأقباط وبدلاً من أن يرى الحكم هذه الصور طريقاً لمواجهة الطائفية وتجفيف منابعها، أحالهم لمحاكمة عاجلة بتهم التكسير والحرق وإتلاف ممتلكات عامة، بدلا من مكافأتهم وتشجيعهم على مشاعرهم غير الطائفية.
نعم يمكن فى مصر تجفيف منابع الطائفية بفتح الباب أمام مبادرات مجتمعية تأخذ نفس نصيبها فى الحركة والفعل مثلما يأخذ رموز التدين الشكلى والمغشوش، ولا تكون قادمة من رجال الدين ولا تكون أيضا ضد الدين، ولا تعبر عن الأزهر ولا الكنيسة، ولا الحزب الوطنى ولا المعارضة، إنما فقط تؤسس لتحركات مدنية ومبادرات أهلية تكون قادرة على إنقاذ الوطن من خطر الحرب الطائفية.
المصرى اليومعمرو الشوبكى
No comments:
Post a Comment