Friday, January 14, 2011

حوار مع الأديب الحاصل على جائزة ساويرس لأفضل عمل روائى


مع نهاية 2010 احتلت رواية «التكوين» لأحمد صبرى أبوالفتوح قوائم أفضل الروايات المصرية فى العديد من استفتاءات الصحف والملحقات الثقافية والمواقع الإلكترونية. ومنذ أيام قليلة حصدت «الخروج»، وهو الجزء الأول من خماسية «ملحمة السراسوة» جائزة ساويرس لأفضل عمل روائى (فئة كبار الكتاب) وأجمعت عليها لجنة تحكيم الجائزة، التى رأسها إبراهيم أصلان واعتبرتها رواية استثنائية ستأخذ وضعها فى تاريخ الأدب المصرى.

إلا أنها لم تحظ بعد بالقراءة النقدية التى تستحقها ككتابة أدبية جادة ومجددة فى زمن الوجبات السريعة، بداية من المخاطرة فى الإقدام على مشروع أدبى ضخم أو ملحمة من خمسة أجزاء (صدر منها «الخروج» 2009 و«التكوين» و«أيام أخرى» 2010، أما جزءاها الأخيران فقد أوصى بصدورهما بعد وفاته)، ومرورا بمساءلة التاريخ على مدى 250 عاما منذ نهاية حكم المماليك وفترة حكم محمد على وحتى عام 2005، من خلال كتابة مسيرة عائلة موسى السرسى ــ التى ينتمى إليها الكاتب ــ الذى ذكره الجبرتى كأحد أبرز شيوخ الأزهر، والتى تركت قريتها وأملاكها هربا من بطش الوالى. ووصولا إلى إمكانات السرد الهائلة والكتابة التى وصفت بالفاتنة لهذا المحامى، التى تذكرنا سيرته بين القانون والكتابة بقامات مثل توفيق الحكيم ويحيى حقى، كما أنه ليس غريبا على الأدب بل له أعمال سبقت الملحمة مثل روايتى «طائر الشوك» 2000 و«جمهورية الأرضين» 2004 ومجموعة قصصية «وفاة المعلم حنا» 2003.

ما المحرك الرئيسى الذى دفعك لتبنى مشروع ضخم مثل كتابة ملحمة روائية فى خمسة أجزاء؟ هل كانت سيرة العائلة أو رواية الأجيال «ذريعة» للتعرض لتاريخ الوطن وما آل إليه حال البلاد؟ ــ أم أنها كانت محاولة لمعرفة الذات واكتشافها من خلال السيرة العائلية الأوسع؟
ــ الدافع للكتابة إشكالية كبرى لم يصل البحث فيها إلى يقين، وفى الحقيقة فإن القاص لا يعرف لماذا يكتب، لكنه وهو يفعل يمتلك إذا كان متمكنا القدرة على توجيه رغبته الوجهة التى يرى أنها توصله إلى غايته، إلى أقصى متعة، فالكتابة متعة كبيرة، متعة الخلق والإبداع، وأنا طوال عمرى كنت أنظر إلى حكايات أسرتى التى تناقلتها عبر أجيال عديدة على أنها مادة صالحة للكتابة، لكن الأحداث الكبرى فى حياة الأسرة واكبت تحولات تاريخية ضخمة فى حياة الوطن، لذا وجدتنى وأنا أكتب أضفر أحداث الأسرة فى تاريخ الوطن، لم تكن حكايات الأسرة أبدا ذريعة للتعرض لتاريخ الوطن، إذ هى بالفعل جزء من تاريخ الوطن، هى إذن كتابة واحدة عن أسرة نبتت فى حقل الأحداث مواكبة لتحولات تاريخية جذرية فى مصر، ولأن الملحمة تغطى أحداثا تمتد لأكثر من قرنين من الزمان تعاقبت الأجيال فيها، وليس عيبا أن نحاول اكتشاف الذات والتعرف عليها، فتلك هى إحدى أهم غايات الفن بشكل عام والأدب على نحو خاص.

• تبدو الافتتاحية أو الاقتباس على لسان الشيخ الجبرتى «يا مصر انظرى إلى أولادك وهم حولك مشتتين متباعدين مشردين، واستوطنك أجلاف وأراذل وصاروا يقبضون خراجك....»، كما لو كانت حاملة لإجابة عن سؤال الملحمة. بمعنى هل اللحظة الحاضرة هى المفجرة والملحة للتنقيب فى التاريخ عبر الشكل الروائى؟
ــ فى الأوقات الصعبة يبحث الإنسان عن جذر قوى يربطه بالأرض، وأمام الأسئلة الحائرة يحن المرء إلى اليقين، واليقين هنا يتشكل عبر تاريخ شعب جبار، عبر كل المحن ليتحقق وتتحقق معه بلده. لا شك أن اللحظة الحاضرة ضاغطة، والأسئلة المطروحة شديدة الوطأة، لكن الإجابة تظل دائما ممكنة، فلقد عبر الشعب صعابا تنوء بحملها الجبال، فتعالوا نكتشف أنفسنا من جديد، وتعالوا نعيش معا كيف عبرت أسرة هى من صميم نسيج الشعب تجربتها الكبرى لتشكل لبنة فى جدار الوطن الكبير، وتمحى الصعاب ويبقى الوطن، وتنداح العقبات ويبقى الشعب، نعم اللحظة الحاضرة الضاغطة فجرت فى وجدانى شوقا عظيما للتنقيب عن جذورنا القوية وحكاياتنا الجميلة الرائعة.

يظهر التماس فى عناوين الملحمة (الخروج) و(التكوين) مع أسفار التوراة مما يعكس التنوع المعرفى داخل العمل الروائى، لكنى أفترض أنك ربما أردت أن تعطى بعدا فلسفيا أوسع لفكرة الخروج من الأرض الأم ثم الحنين إليها على طول الطريق فيما بعد. ما هو تصورك؟
ــ فى الحقيقة غواية استلهام التراث غالبة، والتوراة تراث الإنسانية مجتمعة، ولقد اخترت العناوين وأنا واقع تحت تأثير تلك الغواية، فحكايات الخروج هى على مر الأزمان أكثر الحكايات تشويقا وألما، خروج اليهود من مصر، خروج بنى هلال فى السيرة الهلالية، خروج المسلمين الأوائل من مكة، وكلها تنويعات للخروج الأول والأهم، وهو خروج آدم من الجنة، ألم أقل إنها الغواية؟!، والسراسوة فى الرواية الأولى من روايات الملحمة الخمس (الخروج) خرجوا من جنتهم فى سرس القديمة، مع ما لذلك الخروج من سحر يتمثل فى ضبط النفس الإنسانية، وهى تعانى الاقتلاع من جذرها والبعد عن محيطها وأمنها، إنها دراما إنسانية بالغة الروعة، لذا لا غرو أن تحدث الرواية الأولى (الخروج) تلك الصدمة، أو لنقل الدهشة للقارئ، فلقد اكتشفنا أن الإنسان يمتلك قوى جبارة لا تظهر إلا فى الشدائد، وهذا هو ما تسمينه بالبعد الفلسفى لفكرة الخروج، وأنا أغبطك على هذا السؤال الذى يكشف عن تذوق جميل للنص.

أما التكوين فإن الإنسان إذا ما استقر فى مكان تتلبسه روح مغايرة، روح التكوين، وفيها يكون الصراع مختلفا تماما، إنها تجليات الاجتماع الإنسانى فى استقراره ومحاولاته، التى لا تكل ولا تهدأ من أجل إعادة الانبعاث، باعتبار أن الإنسان هو فى حقيقته حالة تقدمية رائعة، تنحو دائما نحو الصعود.

وهل يضيف هذا بعدا انسانيا أكثر شمولا قد يتسع ليشمل مجاز الخروج من فلسطين وتعرض أهلها للشتات مثل أسرة الشيخ أم سيكون تأويلا مقحما للعمل؟
ــ أصدقك القول أنا لم أفكر أبدا على ذلك النحو، لكنى لا أستبعد أن يكون هذا الأمر كان فى عقلى الباطن، فأنا الآن أرتاح إليه، وربما يتسع النص لتأويل من هذا النوع.

هناك اتجاه اليوم فى الدراسات التاريخية يتعامل مع النص الأدبى كشهادة حية، إلى أى مدى يمكن التعامل مع الأدب كشهادة تاريخية وهل هذا ما تطمح إليه من خلال عملك الذى يغطى سيرة عائلة على مدى 250 عاما؟
ــ الأستاذ الدكتور سامى سليمان أستاذ الأدب فى كلية الآداب جامعة القاهرة والناقد النابغ له دراسة مهمة حول ملحمة السراسوة كتاريخ مواز، نعم، بعض الدراسات التاريخية تضع الأدب ضمن مصادر التاريخ، فإذا اهتم التاريخ بحكايات الحكام فإن الأدب يحكى تاريخ الناس، ومن هنا جاءت التسمية، «التاريخ الموازى»، وفى السراسوة رأينا كيف كان لتاريخ الحكام أثره البليغ فى حياة مجموعات هائلة من الناس، وظهر جليا أن تاريخ الناس يكمل بالضرورة تاريخ الحكام والطبقات الحاكمة.

تبدو فى أحاديثك الصحفية شديد اللوم على النقاد، رغم اعتبار الخروج ضمن أهم كتب عام 2009 وتبوؤها الصدارة فى معرض القاهرة للكتاب وكذلك الحال بالنسبة للتكوين، التى لاقت استحسانا من النقاد وفى استفتاء الأهرام: إلخ. هل تمت المصالحة بعد حصولك على جائزة ساويرس من لجنة تحكيم رفيعة المستوى؟
ــ نعم كنت وما زلت أعتبر أن منظومة النقد الأدبى على نحو خاص أصابها نوع شديد الوطأة من العطب، أنا لا أريد أن أغضب أحدا، فالنقد الذى يقود عملية الإبداع إلى غاياتها العظمى، والذى يلاحق الإبداع بالتقييم والرقابة والتحليل، والذى يكتشف الغث من السمين، هذا النقد غائب الآن فى المشهد الثقافى المصرى بالذات، وذلك لظروف تاريخية معروفة، فبعض النقاد والكتاب لم يكتب عنى لا لشىء إلا لأن انتمائى السياسى لا يعجبه، والكثيرون امتدحوا الرواية فى حضورى لكنهم لم يكتبوا عنها حرفا واحدا، ولذلك فإن أعظم ما كتب عن الرواية كتبه مبدعون كبار أمثال الأساتذة أبوالمعاطى أبوالنجا وخيرى شلبى وأحمد الخميسى ومحمود الوردانى وإبراهيم عبدالمجيد، بالإضافة إلى ما كتبه الدكتور سامى سليمان والدكتور يسرى عبدالله والدراسة العظيمة التى كتبها الدكتور محمود إسماعيل أستاذ التاريخ بجامعة عين شمس، أين إذن النقاد الذين لطالما امتدحوا الرواية لكنهم لا يكتبون عنها؟!، ولكنى مع الوقت سأتعلم أن أمسك لسانى حتى لا أغضب أحدا، فلقد ردت إلى الجائزة يقينا بأن العمل الجميل قادر على أن يفرض نفسه بالرغم من المعوقات، وأنا معك فى أن الكاتب قد يقدم إنتاجا متنوعا ولا يشتبك مع الذوق إلا عمل بعينه، لكنى لا أعانى من تلك المعضلة، فهذه بديهية لا ينكرها نابه، ما أقصده هو تفشى العطب فى منظومة النقد الأدبى، وهنا يتدخل القراء أو المبدعون ليعوضوا النقص الشديد، الذى يمثله انسحاب النقد من حياتنا الأدبية، ولكنى أثمن المحاولات الرائدة والدءوب، التى يقوم بها النقاد الشباب من أمثال الدكتور سامى سليمان والدكتور يسرى عبدالله وغيرهما من النقاد الجادين المبرئين من عيب العطب أو الانسحاب.

دينا قابيل - الشروق

No comments: