يتم هذه الأيام تسريب عدد هائل من الوثائق الأمريكية السرية عن طريق موقع «ويكيليكس». الكثير من تلك الوثائق يحتوى على رسائل من السفارة الأمريكية بالقاهرة، من بينها وثيقة تدون مقابلة بين الرئيس مبارك وعدد من أعضاء الكونجرس الأمريكى، أشار الرئيس خلالها للوضع فى العراق، واعتبر أن لا جدوى من محاولة إنشاء نظام ديمقراطى هناك لأن «العراقيين من طبيعتهم العنف»، لذلك نصح الأمريكيين بأن «ينسوا الديمقراطية».
هذا الرأى غير صادم فى حد ذاته، لأننا تعودنا خلال العقود الماضية أن نسمع من المسؤولين المصريين أن الشعب المصرى نفسه غير مؤهل للديمقراطية. لكن اللافت للنظر هو نصيحة سيادة الرئيس للأمريكان بأن يعملوا على «تقوية الجيش» العراقى، وأن يسمحوا بقيام انقلاب عسكرى على الحكومة المنتخبة، انقلاب يصعد من خلاله «الديكتاتور العادل».
فَمنْ هو بالضبط الديكتاتور العادل هذا؟ لا أعتقد أن المَعنىَّ هنا هو «الفيلسوف الملك»، الذى يفهم - فلسفياً - باطن الأمور بطريقة أعمق من العامة، ولذلك يعتقد أن من حقه فرض نظرته عليهم، الحاكم الذى أشار إليه أفلاطون فى سياق كتابه عن الجمهورية الفاضلة، فهذا الحاكم يتسم بنزعات أيديولوجية قد تجعل منه ديكتاتوراً شمولياً من أمثال هتلر وستالين، تلميذى فكرة الملك الفيلسوف - حسب رأى فيلسوف العلم كارل بوبر - أو آية الله الخومينى الذى يقال إنه كان متأثرا هو الآخر بنفس الفكرة (كما أشار رايموند أندرسون مثلا فى مقال نشره بجريدة «نيويورك تايمز» سنة ١٩٨٩).
بل إن الأدلة التى يمكن استنتاجها من أرض الواقع تشير إلى أن الديكتاتور العادل هو شخص مختلف تماما، فهو ليس قائداً شمولياً «ملهماً»، كاريزمياً ومرعباً مثل هتلر أو ستالين، أو حتى الخومينى، إنما هو شخص يحب ألا يأخذ بالآراء المعارضة، أو يقيم لها أى اعتبار يذكر، بل فى إمكانه سحب هذه الحريات فى حالات معينة، وممارسة الضغط الأمنى ضد معارضيه إذا انتقلوا من حيز التحليل والنقد إلى حيز التنفيذ.. فهو إنسان عقلانى يسمح بالمعارضة وتعدد الآراء، لكن - لأنه ديكتاتور - لا يسمح بالمنافسة على مقاليد الحكم، ويسمح بالانفتاح الإعلامى وحرية الرأى لكنه نادر العمل، أو التحريض على التنفيذ العملى، أى إذا انتقلوا من حيز المعارضة إلى حيز المنافسة والمساءلة.. فهو لا يستخدم الأجهزة الأمنية «عمال على بطال» لقمع أى معارض أو مراقبة أى مواطن كما يفعل الديكتاتور الشمولى، إنما يستخدمها عندما يرى «تهديدا تنافسيا» أو إهانة مباشرة لمكانته كديكتاتور عادل. وهو يسمح أيضا بالتعددية الاقتصادية فى حدود معينة، فلا ينبذ اقتصاد السوق أو القطاع الخاص، بل ربما يشجعه، بشرط أن تكون أعمدة هذا الاقتصاد من أعوانه وتحت سيطرته... وأخيرا يسمح بالانتخابات السياسية بشرط أن تسفر عن أغلبية ساحقة مؤيدة لمنهجه واتجاهه.
هذه هى صفات «الديكتاتور العادل»، التى يمكن استنتاجها من الواقع المصرى، لكن ما هى «الاتجاهات» التى يحاول الحفاظ عليها من خلال المنظومة المذكورة، وما هى الإجراءات العملية الإيجابية التى يتخذها لتفعيل تلك الاتجاهات؟
على عكس الديكتاتور الشمولى فـ«الديكتاتور العادل» ليست لديه اتجاهات أيديولوجية واضحة يتشبث بها فكريا أو على الأقل يتذرع بها علنيا، وهو لا يعتمد على شخصية كاريزمية لتحليل وجوده فى السلطة. لذلك، قد يعتقد البعض أن هذا الوجود هو غاية هذا الديكتاتور الوحيدة، وقد يكون ذلك صحيحا إلى حد ما. مع ذلك، فإن هذا البقاء يحتاج لتبرير من قبل الحاكم، ليس فقط أمام الناس إنما أيضا أمام نفسه، لأن النزعات السلطوية تمتزج عادة بمفاهيم عقلانية تستخدم لتبريرها. فى حالة الديكتاتور العادل يبدو أن ذلك يتمثل فى اعتقاده أنه الضامن الأساسى للاستقرار السياسى والنمو الاقتصادى، لذلك يعتمد نظام حكمه على ثلاثية «القبضة الأمنية الانتقائية ورجال الأعمال الموالين للسلطة وطبقة تكنوقراطية عالية الكفاءة فى كثير من الأحيان تتمثل فى حكومة تدير شؤون البلاد اليومية لكنها لا تتدخل فى صياغة الخطوط العامة لنظام الحكم».. هذا بالإضافة لشبكة محسوبية عملاقة مركزة حول الحزب الحاكم، وتتشابك هذه الخيوط فى كثير من الأحيان، حتى إنه من الممكن أن ينتمى بعض الناس إلى أكثر من دائرة فى آن واحد.
أما المعضلة التى تواجه هذا الديكتاتور فتتمثل فى الآتى: فحتى إذا حدث فعلا النمو الاقتصادى، تنشأ طبقات جديدة تطالب بأن تكون لها كلمة فى إدارة شؤون البلاد، وطبقات أخرى مهمشة لم تستفد من النمو العام بل ربما تضررت منه، ولا يمكن احتواء كل أعضاء هذه الفئات فى ظل الدوائر المذكورة، هكذا تنشأ معارضة حقيقية لا يمكن كبتها إلا أمنيا، فتتسع دائرة القمع وتتفتت مقومات الدولة خارج الدوائر المذكورة، وتنمو أيضا المعارضة الرافضة للدولة القائمة من الأصل، والتى تريد تكبيلها بنظام شمولى أصيل، دينياً كان أو علمانياً.
ولأن «الديكتاتور العادل» لا يتمتع بكاريزما إلهامية، فإنه لا يستطيع مقاومة جاذبية تلك التيارات الخلاصية بفاعلية. لذلك، فبدلا من تثبيت الاستقرار يصبح النظام الذى يشيده غير مستقر، فقد يؤول فى النهاية نحو الديمقراطية، أو على العكس قد يظهر الديكتاتور الشمولى القادر على إنقاذ ذلك النظام.
د. عمرو الزنط
Almasry Alyoum
No comments:
Post a Comment