«ظهر يوم السبت 26 من شهر يناير 1952 انتفضت الجماهير الغاضبة فى الشوارع الشهيرة بوسط المدينة مثيرة فيها الشغب مضرمة النيران فى كل الأماكن التى يرتادها الأجانب ويسكن فيها الأثرياء والمترفون، دور السينما والبنوك، والنوادى الخاصة والمتاجر الكبيرة الضخمة الفخمة ومكاتب شركات الطيران والمقاهى الكبيرة والكباريهات وكل ما يجعل القاهرة «باريس أفريقيا» وأكثر المدن الجاذبة للأنظار على وجه الأرض.
ومن دواعى الأسف، أن هذه الأماكن قد نجحت أيضا فى إثارة الإحساس بالغربة لدى الفرد العادى، فشعَر القاهريون أن تلك البلاد ليست بلادهم، كانت معظم محلات القاهرة حتى حلوانى جروبى تفوق الإمكانيات المادية لأولئك الذين لم يكونوا أجانب أو أغنياء أو يهود، ولم يكونوا يلقون الترحاب فيها أو ما شابهها فضلا عن عدم قدرة معظمهم على دفع قيمة ما يباع فيها من سلع وبضائع ولهذا السبب ربما اعتُبر جروبى أيضا هدفا من أهداف الجماهير الثائرة.
فدمر الثائرون وأحرقوا تقريبا كل المؤسسات الرئيسية التى لها علاقة بالإنجليز أو الفرنسيين أو اليهود وأضرموا النيران فى جروبى وسرقوا الختم الملكى من على واجهة مطعمه، ولكن بعد ان أخرجوا العاملين به والذين كان من بينهم رئيس الطهاة والخباز وصانع الكريم شانتى إلى حيث الأمان، ومن ثم فقد كانت الضحية الوحيدة لذلك الحريق هى المؤن اللازمة لإعداد الحلوى والتى تمثلت فى عشرات الأجولة من الدقيق الفاخر والسُكَّر والتى كان الغوغاء المسعورون يقومون بحملها إلى الخارج مضرمين فيها النيران.
إن من شهد تلك الليلة المروعة من سكان القاهرة ستظل ذاكرتهم تستدعى رائحة الهواء المعبأ بالسكر المحروق.
كانت هذه رؤية لحريق القاهرة وردت فى كتاب « الرجل فى البدلة الشركسكين وقائع خروج عائلة يهودية من مصر « للكاتبة الأمريكية اليهودية مصرية الأصل «لوسيت لينداو».
وهو كتاب روائى مكتوب بإحاطة وحساسية بالغتين، ويمزج بين السيرة والدراسة والفن الأدبى، فى سبيكة محكمة ومؤثرة إنسانيا، وتتمايز بزاوية رؤية خاصة جدا، لكاتبة مولودة فى حى غمرة لأسرة يهودية ثرية، ولأب تعلقت روحه بمصر حتى مماته، وتعلقت الكاتبة بذكراه، وأرادت أن تستعيده عبر استعادتها لقصة ربيع عمره فى مصر، وخريفه وأفوله فى المهجر الممتد من إيطاليا ففرنسا فأمريكا، وختمت الكتاب بزيارة عاطفية لبيت طفولتها فى شارع الملكة نازلى، رمسيس حاليا، فأغلقت دائرة الحنين فى الرواية بنقطة من الواقع الراهن، جعلت ذاكرة الماضى أقوى حضورا فى النص والوجدان معا.
هذا الكتاب عمل يستحق النقاش الهادئ والعميق، فى قضية اليهود الذين كانوا مواطنى بلدان عربية ولم يصيروا إسرائليين ولا صهاينة، وهى قضية ستظل مفتوحة ومريرة وحزينة طالما ظل هناك من يكتب عنها بهذا الشكل المؤثر، وطالما ظلت هنا إسرائيل الدموية والإجرامية وبقيت الصهيونية كأيديولوجيا للتعصب والتمييز والمقت، لأن إسرائيل والصهيونية فى حقيقة الأمر ليستا ضدنا فقط، بل هما ضد اليهود أنفسهم، أعنى اليهود غير الإسرائيليين وغير الصهاينة، والأحزان الفياضة فى هذا الكتاب تؤكد على ذلك.
وتردُّنا إلى ضرورة الإنصاف الإنسانى والحضارى ليهود ليسوا صهاينة وليسوا إسرائيليين، بل حتى مناهضين لأكاذيب الصهيونية وعدوانية إسرائيل، ويمكننا أن نعدد فى هذا الإطار أسماء لامعة عديدة مثل المفكر الأمريكى الحر نعوم تشومسكى، والروائية الجنوب إفريقية نادين جورديمر، والبروفسور نورمان فنكلشتاين، وجماعة «ناتورى كارتا» لليهود الأرثوذكس، والكاتب روجر كوهن، وكثيرون ممن يُناصرون الحق الفلسطينى والعربى ويناهضون الصهيونية وإسرائيل، ويدفعون فى ذلك أثمانا باهظة إما لأنهم بين نابى أفعى النفوذ الصهيونى فى الولايات المتحدة على وجه الخصوص، أو على مرمى لدغة من هذه الأنياب.
لقد توقفت أمام ذلك المقطع من الرواية الذى يتحدث عن حريق القاهرة، لأنه يضيف شهادة ليست جديدة فى محتواها، لكنها جديدة المصدر وزاوية الرؤية، النفسية تحديدا، فلقد فاجأنى تماما أن الكاتبة اليهودية الأمريكية ذات الأصول المصرية البعيدة، كانت مبصرة بحقيقة الاغتراب الذى تخلقه حرمانات أبناء البلد العاديين فى مدن بلادهم التى كان يتسيدها الأجانب، والمترفون المصريون.
واليهود الذين كان معظمهم يجمع بين الصفتين فى الوجدان الشعبى المصرى، وهو اغتراب تجدد برغم أن القاهرة لم تعد مرتعا للأجانب ولا لليهود بالمعنى الذى كانت عليه إبان حريق القاهرة وكما وصفته الكاتبة، فلم يعد من هذا المثلث الذى ذكرته الكاتبة غير ضلع واحد، مصرى، وأعاد هذا الضلع تكوين مثلث الاستفزاز بضلعين آخرين، مصريين أيضا، أولهما الفساد الذى تُفشيه سياسات آثمة، سواء بوعى أو بغير وعى.
وثانيهما القهر بالقوة والتلاعب بالقانون لحماية هذه السياسات، سواء عن قناعات خاطئة أو بأنانية قصيرة النظر وعمياء البصيرة، فهل صفة المصرية لصانعى مثلث الاستفزاز الجديد مما يمكن أن يزيد من شعور عامة المصريين بالاغتراب أم يقلله؟
أظن أن الإجابة يمكن أن تنبع من الحقيقة الشعرية العربية القائلة: «وظلم ذوى القربى أشد مضاضة / على النفس من وقع الحسام المُهنَّدِ»، وبغض النظر عن زيادة أو نقصان مشاعر الاغتراب لدى المصريين مقارنة بما كانت عليه إبان حريق القاهرة، فالمهم أن مشاعر الاغتراب موجودة، وتتجدد باندفاع يشى بقصر نظر صانعى هذا الشعور بالاغتراب لدى مجمل المصريين، وليس أدل على ذلك من حالة الإقصاء السياسى الفظة والسافرة التى أظهرتها الانتخابات الأخيرة لمجلس الشعب ومن قبله مجلس الشورى.
والتى لا يمكن لمتابع عادل إلا أن يشهد بزيفها، ليس فيما هو شائع عن ملابسات التزوير وحماية المزورين فقط، بل فى اصطناع شروط يستحيل أن تحقق أى عدالة انتخابية أو تحرير لإرادة المواطن ليُحسن الاختيار بوعى، وبتعفف عن مهانة رشاوى اللحمة والفياجرا والموبايل والعيدية، وبترفُّع عن عصبية القبيلة والعائلة والعشيرة والرَبع. ولم يكن ذلك كله مستحيلا لو كانت هناك إرادة حضارية وبصيرة تدرك أهمية الاستقامة فى التنافس السياسى لصالح الأمة، لا لصالح فريق أنانى يكرر نفسه بلا أى تبصُّر، ظانا أنه بذلك يكون منتصرا، وهو فى رأيى من الخاسرين. لماذا؟
لابد أن أؤكد أولا أن الحرمان هو الحرمان، سواء كان متأتيا عن طريق الاحتكار السياسى أو الاقتصادى لفريق بعينه، وهذا الفريق المصرى الذى لم يكف عن الجئير بنشيد «الاستمرار والاستقرار»، هو بأدائه قصير النظر وكليل البصيرة، كرَّس ويُكرِّس واقعيا للقطيعة والاضطراب، وهذا ما أراه من زاوية نفسية على الأقل، لأن هذا الإقصاء الواضح للرؤى المختلفة فى اجتهاداتها من أجل نهضة أمة فى مأزق، مأزق شامل لا يمكن أن ينقذها منه فريق واحد تراكمت أخطاؤه وخطاياه، إنما يضرب الشعور بالهوية لدى قطاعات واسعة من المصريين العاديين، وليسوا المشتغلين بالسياسة من المعارضين الذين خالفوا سلامة الحس وصدق التوجُّه بدخولهم فى هكذا مَكْذَبة، فهؤلاء لابد لمعظمهم من وقفة بعد كل ما جرى، لأن أغلبهم كانوا طلاب قوة لاحق، تماما مثل من أقصوهم ولم يكونوا إلا طلاب قوة لا حق، وإن اختلفوا فى الادعاءات والوسائل!
هذه المَكْذبة السياسية التى صُمِّمت ونُفِّذت ليظل فريق واحد فى موقع الاحتكار شبه المطلق للسلطة والتسلُّط، كانت ضربة إضافية للشعور بالهوية لدى الأغلبية من المصريين العاديين المتعطشين للتغيير وتحسين الأحوال دون أن تكون لهم مطامع ولا أحلام فى أية سلطة.
والهوية كما يعرفها علم النفس الاجتماعى هى شعور يتكون من معطيات يستقى منها الفرد معنى لقيمته ووجوده فى الوسط الذى يعيش فيه، اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا وثقافيا، وهو بحصوله على هذا المعنى لقيمته كفرد فى مجتمع وفى أمة، يشعر بتكامل مستقبله مع ماضيه مع الحاضر الذى يعيشه، وينخرط بدرجة أو بأخرى فى حالة من الاتساق الاجتماعى التى تصنع الاستمرار والاستقرار الحقيقى فى أى مجتمع، لا ذلك الاستقرار والاستمرار الذى صدَّعتنا وستصدِّعنا به جوقة الأناشيد الكذوب! كيف؟..
لنأخذ الإنسان الفرد، المواطن العادى من الأغلبية التى لاتزال صامتة وتحتمل ما تعانيه فى صبر كظيم، فهو عندما يجد أن هناك حلقة ضيقة من ذوى النفوذ، تستأثر بكل القرارات التى تؤثر فى حياته، ولصالح امتيازات هى فى مجملها أبعد ما تكون عن ذاته وأمور معيشته الصعبة، وبإضافة شعوره بالعجز عن تغيير هذا التعسف، فإنه يغترب فى وطنه، يغترب فى نفسه، ويصير فاقدا للشعور بالأمان، قلقا.
وعاجزا عن تحديد معنى لحياته بصورة إيجابية، ومن ثم يصير عرضة للانخطاف بأية إغراءات سلبية تلوح له فى ثنايا تقلبات وعواصف هذه الحياة الخانقة، فتكون الإدمانات المختلفة، والجنوح للتطرف والتعصب، والممارسات التدميرية للذات وللغير، وفى ذُرى هذه الممارسات التدميرية تأتى اللحظات التى تتيح له الثأر من صانعى اغترابه، من رموزهم ومصالحهم ومفردات تواجدهم أو أشباح هذا التواجد. ومثالها التاريخى واضح فى الفقرة التى أوردتها فى البداية عن حريق القاهرة من الرواية آنفة الذِكر.
كالعادة، سيحتفل المنتصرون بفوزهم المخاتل ويمعنون فى الاحتفال حتى يُقنعوا أنفسهم بجدارة ونزاهة الفوز، ولن يبصروا وهم فى حُمَّى الكرنفال، المدى الذى ذهبوا إليه فى صناعة ملايين المصريين المغتربين فى وطنهم، ملايين النفوس المنطوية على عدم الرضا عنهم والسخط عليهم، والذى لا يستطيع عاقل لديه أدنى قدر من البصيرة، أن يقطع باستحالة انفجار هذه النفوس إذا ما اشتعل حريق تلقائى أو مُدبَّر، وواقعنا للأسف المرير يحفل بشتى مبررات اشتعال هذه الحرائق وبكافة أصناف المدبرين!
صحيح أننى مثل غالبية الناس لم أكن أتصور أن يحدث إلا ما حدث، إلا أن تجسُّد ما كان هاجسا وتحوله إلى واقعٍ مُر التكرار ومنفِّر الوجوه، يصيب القلب بحزن مرير، تتضاعف مرارته لدى مؤمن مثلى بالنبذ المطلق للعنف مهما تداعت مبرراته، ولا أجد فى قلبى المحزون على وطنى، لا على الخاسرين بكل أطيافهم..لا أجد إلا الدعاء، بأن يحمى الله بلادى، من شرور أى حريق، حتى لو فاحت منه رائحة الكريم كراميل الذى تشابهه، خِداعا، رائحة السكر المحروق!
ومن دواعى الأسف، أن هذه الأماكن قد نجحت أيضا فى إثارة الإحساس بالغربة لدى الفرد العادى، فشعَر القاهريون أن تلك البلاد ليست بلادهم، كانت معظم محلات القاهرة حتى حلوانى جروبى تفوق الإمكانيات المادية لأولئك الذين لم يكونوا أجانب أو أغنياء أو يهود، ولم يكونوا يلقون الترحاب فيها أو ما شابهها فضلا عن عدم قدرة معظمهم على دفع قيمة ما يباع فيها من سلع وبضائع ولهذا السبب ربما اعتُبر جروبى أيضا هدفا من أهداف الجماهير الثائرة.
فدمر الثائرون وأحرقوا تقريبا كل المؤسسات الرئيسية التى لها علاقة بالإنجليز أو الفرنسيين أو اليهود وأضرموا النيران فى جروبى وسرقوا الختم الملكى من على واجهة مطعمه، ولكن بعد ان أخرجوا العاملين به والذين كان من بينهم رئيس الطهاة والخباز وصانع الكريم شانتى إلى حيث الأمان، ومن ثم فقد كانت الضحية الوحيدة لذلك الحريق هى المؤن اللازمة لإعداد الحلوى والتى تمثلت فى عشرات الأجولة من الدقيق الفاخر والسُكَّر والتى كان الغوغاء المسعورون يقومون بحملها إلى الخارج مضرمين فيها النيران.
إن من شهد تلك الليلة المروعة من سكان القاهرة ستظل ذاكرتهم تستدعى رائحة الهواء المعبأ بالسكر المحروق.
كانت هذه رؤية لحريق القاهرة وردت فى كتاب « الرجل فى البدلة الشركسكين وقائع خروج عائلة يهودية من مصر « للكاتبة الأمريكية اليهودية مصرية الأصل «لوسيت لينداو».
وهو كتاب روائى مكتوب بإحاطة وحساسية بالغتين، ويمزج بين السيرة والدراسة والفن الأدبى، فى سبيكة محكمة ومؤثرة إنسانيا، وتتمايز بزاوية رؤية خاصة جدا، لكاتبة مولودة فى حى غمرة لأسرة يهودية ثرية، ولأب تعلقت روحه بمصر حتى مماته، وتعلقت الكاتبة بذكراه، وأرادت أن تستعيده عبر استعادتها لقصة ربيع عمره فى مصر، وخريفه وأفوله فى المهجر الممتد من إيطاليا ففرنسا فأمريكا، وختمت الكتاب بزيارة عاطفية لبيت طفولتها فى شارع الملكة نازلى، رمسيس حاليا، فأغلقت دائرة الحنين فى الرواية بنقطة من الواقع الراهن، جعلت ذاكرة الماضى أقوى حضورا فى النص والوجدان معا.
هذا الكتاب عمل يستحق النقاش الهادئ والعميق، فى قضية اليهود الذين كانوا مواطنى بلدان عربية ولم يصيروا إسرائليين ولا صهاينة، وهى قضية ستظل مفتوحة ومريرة وحزينة طالما ظل هناك من يكتب عنها بهذا الشكل المؤثر، وطالما ظلت هنا إسرائيل الدموية والإجرامية وبقيت الصهيونية كأيديولوجيا للتعصب والتمييز والمقت، لأن إسرائيل والصهيونية فى حقيقة الأمر ليستا ضدنا فقط، بل هما ضد اليهود أنفسهم، أعنى اليهود غير الإسرائيليين وغير الصهاينة، والأحزان الفياضة فى هذا الكتاب تؤكد على ذلك.
وتردُّنا إلى ضرورة الإنصاف الإنسانى والحضارى ليهود ليسوا صهاينة وليسوا إسرائيليين، بل حتى مناهضين لأكاذيب الصهيونية وعدوانية إسرائيل، ويمكننا أن نعدد فى هذا الإطار أسماء لامعة عديدة مثل المفكر الأمريكى الحر نعوم تشومسكى، والروائية الجنوب إفريقية نادين جورديمر، والبروفسور نورمان فنكلشتاين، وجماعة «ناتورى كارتا» لليهود الأرثوذكس، والكاتب روجر كوهن، وكثيرون ممن يُناصرون الحق الفلسطينى والعربى ويناهضون الصهيونية وإسرائيل، ويدفعون فى ذلك أثمانا باهظة إما لأنهم بين نابى أفعى النفوذ الصهيونى فى الولايات المتحدة على وجه الخصوص، أو على مرمى لدغة من هذه الأنياب.
لقد توقفت أمام ذلك المقطع من الرواية الذى يتحدث عن حريق القاهرة، لأنه يضيف شهادة ليست جديدة فى محتواها، لكنها جديدة المصدر وزاوية الرؤية، النفسية تحديدا، فلقد فاجأنى تماما أن الكاتبة اليهودية الأمريكية ذات الأصول المصرية البعيدة، كانت مبصرة بحقيقة الاغتراب الذى تخلقه حرمانات أبناء البلد العاديين فى مدن بلادهم التى كان يتسيدها الأجانب، والمترفون المصريون.
واليهود الذين كان معظمهم يجمع بين الصفتين فى الوجدان الشعبى المصرى، وهو اغتراب تجدد برغم أن القاهرة لم تعد مرتعا للأجانب ولا لليهود بالمعنى الذى كانت عليه إبان حريق القاهرة وكما وصفته الكاتبة، فلم يعد من هذا المثلث الذى ذكرته الكاتبة غير ضلع واحد، مصرى، وأعاد هذا الضلع تكوين مثلث الاستفزاز بضلعين آخرين، مصريين أيضا، أولهما الفساد الذى تُفشيه سياسات آثمة، سواء بوعى أو بغير وعى.
وثانيهما القهر بالقوة والتلاعب بالقانون لحماية هذه السياسات، سواء عن قناعات خاطئة أو بأنانية قصيرة النظر وعمياء البصيرة، فهل صفة المصرية لصانعى مثلث الاستفزاز الجديد مما يمكن أن يزيد من شعور عامة المصريين بالاغتراب أم يقلله؟
أظن أن الإجابة يمكن أن تنبع من الحقيقة الشعرية العربية القائلة: «وظلم ذوى القربى أشد مضاضة / على النفس من وقع الحسام المُهنَّدِ»، وبغض النظر عن زيادة أو نقصان مشاعر الاغتراب لدى المصريين مقارنة بما كانت عليه إبان حريق القاهرة، فالمهم أن مشاعر الاغتراب موجودة، وتتجدد باندفاع يشى بقصر نظر صانعى هذا الشعور بالاغتراب لدى مجمل المصريين، وليس أدل على ذلك من حالة الإقصاء السياسى الفظة والسافرة التى أظهرتها الانتخابات الأخيرة لمجلس الشعب ومن قبله مجلس الشورى.
والتى لا يمكن لمتابع عادل إلا أن يشهد بزيفها، ليس فيما هو شائع عن ملابسات التزوير وحماية المزورين فقط، بل فى اصطناع شروط يستحيل أن تحقق أى عدالة انتخابية أو تحرير لإرادة المواطن ليُحسن الاختيار بوعى، وبتعفف عن مهانة رشاوى اللحمة والفياجرا والموبايل والعيدية، وبترفُّع عن عصبية القبيلة والعائلة والعشيرة والرَبع. ولم يكن ذلك كله مستحيلا لو كانت هناك إرادة حضارية وبصيرة تدرك أهمية الاستقامة فى التنافس السياسى لصالح الأمة، لا لصالح فريق أنانى يكرر نفسه بلا أى تبصُّر، ظانا أنه بذلك يكون منتصرا، وهو فى رأيى من الخاسرين. لماذا؟
لابد أن أؤكد أولا أن الحرمان هو الحرمان، سواء كان متأتيا عن طريق الاحتكار السياسى أو الاقتصادى لفريق بعينه، وهذا الفريق المصرى الذى لم يكف عن الجئير بنشيد «الاستمرار والاستقرار»، هو بأدائه قصير النظر وكليل البصيرة، كرَّس ويُكرِّس واقعيا للقطيعة والاضطراب، وهذا ما أراه من زاوية نفسية على الأقل، لأن هذا الإقصاء الواضح للرؤى المختلفة فى اجتهاداتها من أجل نهضة أمة فى مأزق، مأزق شامل لا يمكن أن ينقذها منه فريق واحد تراكمت أخطاؤه وخطاياه، إنما يضرب الشعور بالهوية لدى قطاعات واسعة من المصريين العاديين، وليسوا المشتغلين بالسياسة من المعارضين الذين خالفوا سلامة الحس وصدق التوجُّه بدخولهم فى هكذا مَكْذَبة، فهؤلاء لابد لمعظمهم من وقفة بعد كل ما جرى، لأن أغلبهم كانوا طلاب قوة لاحق، تماما مثل من أقصوهم ولم يكونوا إلا طلاب قوة لا حق، وإن اختلفوا فى الادعاءات والوسائل!
هذه المَكْذبة السياسية التى صُمِّمت ونُفِّذت ليظل فريق واحد فى موقع الاحتكار شبه المطلق للسلطة والتسلُّط، كانت ضربة إضافية للشعور بالهوية لدى الأغلبية من المصريين العاديين المتعطشين للتغيير وتحسين الأحوال دون أن تكون لهم مطامع ولا أحلام فى أية سلطة.
والهوية كما يعرفها علم النفس الاجتماعى هى شعور يتكون من معطيات يستقى منها الفرد معنى لقيمته ووجوده فى الوسط الذى يعيش فيه، اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا وثقافيا، وهو بحصوله على هذا المعنى لقيمته كفرد فى مجتمع وفى أمة، يشعر بتكامل مستقبله مع ماضيه مع الحاضر الذى يعيشه، وينخرط بدرجة أو بأخرى فى حالة من الاتساق الاجتماعى التى تصنع الاستمرار والاستقرار الحقيقى فى أى مجتمع، لا ذلك الاستقرار والاستمرار الذى صدَّعتنا وستصدِّعنا به جوقة الأناشيد الكذوب! كيف؟..
لنأخذ الإنسان الفرد، المواطن العادى من الأغلبية التى لاتزال صامتة وتحتمل ما تعانيه فى صبر كظيم، فهو عندما يجد أن هناك حلقة ضيقة من ذوى النفوذ، تستأثر بكل القرارات التى تؤثر فى حياته، ولصالح امتيازات هى فى مجملها أبعد ما تكون عن ذاته وأمور معيشته الصعبة، وبإضافة شعوره بالعجز عن تغيير هذا التعسف، فإنه يغترب فى وطنه، يغترب فى نفسه، ويصير فاقدا للشعور بالأمان، قلقا.
وعاجزا عن تحديد معنى لحياته بصورة إيجابية، ومن ثم يصير عرضة للانخطاف بأية إغراءات سلبية تلوح له فى ثنايا تقلبات وعواصف هذه الحياة الخانقة، فتكون الإدمانات المختلفة، والجنوح للتطرف والتعصب، والممارسات التدميرية للذات وللغير، وفى ذُرى هذه الممارسات التدميرية تأتى اللحظات التى تتيح له الثأر من صانعى اغترابه، من رموزهم ومصالحهم ومفردات تواجدهم أو أشباح هذا التواجد. ومثالها التاريخى واضح فى الفقرة التى أوردتها فى البداية عن حريق القاهرة من الرواية آنفة الذِكر.
كالعادة، سيحتفل المنتصرون بفوزهم المخاتل ويمعنون فى الاحتفال حتى يُقنعوا أنفسهم بجدارة ونزاهة الفوز، ولن يبصروا وهم فى حُمَّى الكرنفال، المدى الذى ذهبوا إليه فى صناعة ملايين المصريين المغتربين فى وطنهم، ملايين النفوس المنطوية على عدم الرضا عنهم والسخط عليهم، والذى لا يستطيع عاقل لديه أدنى قدر من البصيرة، أن يقطع باستحالة انفجار هذه النفوس إذا ما اشتعل حريق تلقائى أو مُدبَّر، وواقعنا للأسف المرير يحفل بشتى مبررات اشتعال هذه الحرائق وبكافة أصناف المدبرين!
صحيح أننى مثل غالبية الناس لم أكن أتصور أن يحدث إلا ما حدث، إلا أن تجسُّد ما كان هاجسا وتحوله إلى واقعٍ مُر التكرار ومنفِّر الوجوه، يصيب القلب بحزن مرير، تتضاعف مرارته لدى مؤمن مثلى بالنبذ المطلق للعنف مهما تداعت مبرراته، ولا أجد فى قلبى المحزون على وطنى، لا على الخاسرين بكل أطيافهم..لا أجد إلا الدعاء، بأن يحمى الله بلادى، من شرور أى حريق، حتى لو فاحت منه رائحة الكريم كراميل الذى تشابهه، خِداعا، رائحة السكر المحروق!
بقلم:محمد المخزنجي - الشروق
No comments:
Post a Comment