عم «إبراهيم» واحد من أبناء مصر المطحونين.. عاش عمره يكد ويكدح.. ينهزم وينهزم.. فيرفع رأسه مبتسما دائما.. له أسرة من شاب وعدد من الفتيات.. أنفق فى تربيتهم من العرق والشرف ما شهدته على ملامح وجهه خلال الشهور الماضية.. قبل أيام سقط متألما من المرض، فهو يعمل حارسا بأحد العقارات الفاخرة فى القاهرة الجديدة.. يومها عشت معه رحلة صراعه مع المرض..
وعشت صراع البحث عن مكان يعالج أثرياء القوم من المليونيرات.. كتبت أن القاهرة الجديدة ومدينة الرحاب لا يوجد فيهما مستشفى.. صرخت راجيا وزير الصحة أن ينظر إلى مستشفى التجمع الأول، الرابض وسط مجتمع الأثرياء.. تم الانتهاء من بنائه وتشطيبه منذ سنوات.. وتم إغلاقه صامتا ساكنا كالقبور.. لم يسمعنى رئيس الوزراء ولا وزير الصحة.. لم يكترث حضرات السادة النواب السابقين أو اللاحقين فى مولد انتخابات مجلس الشعب.. كأننى كنت أكتب عن ملهى أو ملعب كرة قدم أو غرفة بلياردو تم إغلاقها!!
ملايين الجنيهات من أموال دافعى الضرائب أنفقتها «عيلة نظيف أفندى» وألقتها فى العراء.. وتركت الفقراء مع الأثرياء يبحثون عن أماكن للعلاج.. أذكر أن مستشفى مؤسسة الكهرباء استقبل الحالة وكان رحيما، فأنزل تخفيضا ببضعة آلاف من الجنيهات.. وتحمل من له كرم الله دفع الآلاف الأخرى.. المرض كان يطارد عم «إبراهيم»، دهمته أزمة جديدة.. لم تنقذه فيها سيارة الإسعاف أو المسافة بين البيت الذى كان يحرسه ومستشفى يستطيع إنقاذه.. إنا لله وإنا إليه راجعون.. مات عم «إبراهيم» فجر أول أيام عيد الأضحى المبارك.. عشت مع ابنه «ياسر» رحلة البحث عن تصريح الدفن..
عدة اتصالات بشرطة النجدة.. اتصال بقسم شرطة ثان القاهرة الجديدة.. اتصال بإدارة الطوارئ فى وزارة الصحة.. اتصال بالطب الوقائى فى وزارة الصحة.. كلهم لا يعلمون مكان الطبيب الشرعى القادر على استخراج تصريح الدفن!!..
ساعات أجوب فيها بسيارتى محتارا ملتاسا حزينا مع ابن المرحوم حتى عثرنا على المكان المنشود.. مبنى ضخم لا يوجد فيه غير طبيبة كانت صاحبة قلب حنون ووجه بشوش، ميّزت أنها من أقباط أمتى من سلسلة تتدلى من رقبتها.. تحركت بأسرع مما يتخيل بشر.. أنهت الإجراءات وعلى وجهها علامات الحزن وتقديم التعازى.. عرفت أن مبنى صحة الأسرة لا يوجد فيه حارس لحين عودة الطبيبة والممرضة من مهمتهما.. وأنه يفتقد أبسط الإمكانيات رغم أن دولتنا المصرية تجبى الضرائب بالمليارات.. لتتركنا ملتاعين نحاول أن نضمد جراح أنفسنا.
مات عم «إبراهيم»، ابن مركز مغاغة فى المنيا، مودعا الحياة بابتسامة مواطن ساخر.. ترك الوطن مغادرا منتجع الأثرياء يشكو ويعانى بأكثر مما يعانى الفقراء.. ذهب وتركنا لصراع، يبدو أنه سيستمر طويلا، فالآلاف يتنافسون على مقاعد مجلس الشعب، والشعب منهم برىء براءة الذئب من دم ابن يعقوب.. أقلهم ينفق مئات الآلاف وأكثرهم يبعثر الملايين على اللافتات والذبائح ورشاوى الناخبين وإفساد ذمم المواطنين، من أجل تلك الحصانة الزائفة.. لذلك بكيت عم «إبراهيم» وبكيت حالى وحال كل عاجز فى هذا الوطن..
لا يعرف قيمة الإنسان إذا كان يعيش مواطنا بسيطا، لكننا جميعا نتسابق على القمة حيث النفاق والصراع على مناصب نغتصبها فى وضح النهار.. لا نعرف ماذا نفعل بها ولا من أجل الذين نصّبونا عليها.. ذرفت دموعا ساخنة على عم «إبراهيم» وعلى أحوالنا..
أحزانى كانت تتضاعف وأنا أرى مئات الآلاف يتسابقون لذبح الخراف تقربا إلى الله، لكنهم جميعا لم يسمعوا عن عم «إبراهيم» ولا الملايين من أمثاله.. اعتقدوا أن القرب إلى الله طقوس زائفة وحسنات فاسدة وكلمات كاذبة.. مع تضرع إلى الله بعيون زائغة وشعارات ترفع راية الإسلام مع أن الإسلام يؤكد واجبهم تجاه أمثال عم «إبراهيم».
وداعا عم «إبراهيم» ووداعا أصحاب الضمائر الحية ومرحبا بكل الذين ماتت كلماتهم، لأن ضمائرهم ماتت.. فهذا وطن يخسر كل يوم المئات من أمثال عم «إبراهيم».. وكلهم شرفاء.. كادحون.. صابرون.. مثابرون.. أدوا رسالتهم فى صمت.. وغادروا الدنيا فى صمت.. مرحى لهم فى السماء فلهم الرحمة.. علّ الله العلى القدير القادر أن ينتشلنا من تلك الحالة التى ذهبنا إليها لننشغل فى موت النجوم وحياة النجوم وصراع النجوم.. دون أن توخزنا ضمائرنا تجاه الملايين من أمثال عم «إبراهيم».
نصر القفاص - Almasry Alyoum
No comments:
Post a Comment