نقص فى الشعور بالمواطنة، وفائض فى الإحساس بالهوية الدينية. هذا هو، بشىء من التبسيط، جوهر الأزمة التى تفرز احتقانا دينياً متجدداً يشتد خطره كل يوم. بدأ هذا الاحتقان فى الظهور فى أوائل سبعينيات القرن الماضى. وعندما تبين أنه بات مقيما فى قلب المجتمع، وليس طارئا أو عابرا، أسميناه فتنة طائفية.
وكلما أنتج هذا الاحتقان نزاعاً صغيرا بين مسلم ومسيحى فى منطقة ما، أو صراعاً كبيراً تخرج بسببه مظاهرات على الجانبين، نجد أنفسنا أمام حقيقة مُرة وهى أن الكثير من الناس فى بلدنا يعتبرون أنفسهم مسلمين ومسيحيين أكثر مما هم مصريون تجمعهم المواطنة فى دولة مدنية.
وليس هذا عيباً فيهم بل فى الأجواء العامة السائدة فى مجتمع تنامت الهويات الفرعية فيه، وبصفة خاصة الهوية الدينية، على حساب الهوية الجامعة لأهله باعتبارهم مواطنين.
فهناك، إذن، أزمة عميقة تواجه المواطنة وترتبط بخلل فى بنية الوطن نفسه. فلا يمكن أن تتراجع المواطنة، وأن يكون الوطن بخير. فالمواطنة المعلولة تقترن عادة بداء يصيب الوطن فى مجمله، وليس جزءا فيه، ويسرى بالتالى فى أوصال الدولة.
وفى ظل هذا الداء، تفقد الدولة طابعها المدنى فى الواقع الفعلى، بالرغم من سعيها إلى التمسك به على مستوى الخطاب والشعار السياسيين. وهذا يفسر لماذا يزداد الاهتمام بالمواطنة على المستوى الرسمى فى حين تتراجع فى الواقع وتنحسر فى المعاملات بين الناس. فقد أضيفت المواطنة إلى الدستور وُوضعت فى صدارته، ولكن بعد أن صارت أضعف من أى وقت مضى منذ أن تبلورت الهوية الوطنية المصرية فى أواخر القرن التاسع عشر.
ولم يأخذ معظم المصريين هذا الاهتمام الرسمى بالمواطنة مآخذ الجد لسبب بسيط، وهو أن الكثير منهم لا يشعرون أصلا بأنهم مواطنون يتمتعون بكامل حقوقهم المدنية والسياسية.
فالمواطنة ليست كلمة توضع فى الدستور، وإنما واقع يعيشه الناس. ولو أن المصريين يمارسون حياتهم باعتبارهم مواطنين حقا، ما كانت هناك حاجة إلى كل هذا الاهتمام الرسمى الذى يغفل حقيقة جوهرية هى أن المواطنة لا تقتصر على العلاقة بين المسلمين والمسيحيين، ولا معنى ولا أثر لها فى الواقع إذا حُبست فى هذا الإطار. وهى، فى محبسها هذا الذى يُراد لها أن ترقد فيه الآن، تفقد محتواها الذى ينصرف إلى المساواة بين المصريين جميعهم الأقوياء فيهم والضعفاء، والأثرياء بينهم والفقراء، وليس فقط إلى المسلمين منهم والمسيحيين.
ولا يمكن لأى وعظ يَّبشر بأن المواطنة هى أساس العلاقة بين المؤمنين بأديان مختلفة أن ينتج أثرا فى الواقع إلا إذا كان الضعفاء من المسلمين والمسيحيين وفقراؤهم يُعاملون معاملة الأقوياء أصحاب السلطة والنفوذ والمال والجاه.
وفى هذه الحال، لن يبقى مبرر أصلا للوعظ الدعائى الذى يروَّج لمواطنة لا توجد حين يستطيع الأقوياء والأثرياء أن ينتهكوا القانون ويدوسوا على غيرهم ويشتروا كل شىء بأموالهم أو بنفوذهم. وحين يكون الإنسان نفسه مجالا لبيع وشراء، كما يحدث الآن فى بلادنا، يصبح الكلام عن المواطنة لغوا ويغدو الوعظ بها استهانة بعقول الناس.
وفى التاريخ الحديث، ومنذ فجر الدولة القومية فى أوروبا، لم تتحقق المواطنة فى أى بلد عبر الوعظ والتبشير ، ولا من خلال نصوص دستورية ومواد قانونية.
فالناس يتصرفون باعتبارهم مواطنين حين يكونون كذلك فعلا، وهم لا يكونون مواطنين إلا فى مجتمع يحصل الضعيف فيه على حقه كاملا إذا اغتصبه منه قوى، ويشعر الفقير فيه بالمقدار نفسه من الكرامة الذى يتمتع به الغنى، ويسود فيه قانون عادل دون تمييز.
وفى هذا المجتمع يتحرر الناس من القيود فيشعرون بآدميتهم ويفخرون بقدرتهم على المشاركة فى اختيار مستقبلهم ويتنافسون من أجل تقدم وطنه
د. وحيد عبدالمجيد
Almasry Alyoum
No comments:
Post a Comment