كالجو السائد صارت الحياة. كالطقس. كالمناخ الذى انقلب. فصل صيفى يمتد طوال العام. بلا خريف. بلا شتاء.
نحن نعشق الصيف والربيع، وتولع دواخلنا بالخريف والشتاء. بكل الفصول الشتاء قارس. رغم ذلك ورغم وصف الخريف بالكئيب ورغم أشجار الشتاء العارية وألوانه الرمادية المعتمة، لكننا مولعون بالتغيير الذى يحدث، عندما تتحول الدنيا إلى عجوز طاعنة. بدواخلنا هوى لتلك العجوز الشتوية، العجوز تشعرنا بالأمان، تشعرنا بالدفء. نرتدى الصوف ونحتمى فى منازلنا أمام المواقد. يلتف الأطفال حول الجدة لتخبرهم حواديتها،
ويتجمع الأقارب سوية أكثر من أى وقت من السنة، فليس هناك الكثير من خيارات التنزه فى فصل البرد، لم نعد نشهد هذا الشتاء التقليدى، بعد أن ارتفعت حرارة الجو وصرنا نعيش فصلا أو فصلين صار طقسنا كحياتنا المكونة من فصل واحد. هو فصل الشباب. أما الكهولة فشطبها هوسنا بالجمال والشباب من القاموس الزمنى. لا أحد يريد أن يصبح عجوزا. ليست هناك امرأة تريد الاعتراف بأن عمرها قد تعدى الستين، كلهن يردن العودة مراهقات، يرتدن عيادات التجميل المنتشرة فى العالم العربى، ينفخن ويشفطن ويقضين على أجمل فصول العمر.
من الصحىّ والجميل أن تعتنى المرأة بنفسها فتبقى محافظة على وجه نضر وجسد ممشوق ونظام غذائى منتظم يعكس رقى حياتها، لكن من القبيح أن تمارس اضطهادنا، فتفقدنا مشهدها الدافئ فى الستين أو السبعين. وما الضرر لو جمعت الجسد الأنيق مع إبقاء علامات السن كما هى. لم يجهدون لاختراع كريمات إخفاء علامات السن؟!
ما عيب تلك العلامات.. ولم هى عدو لدود.. كيف لا نفاخر بعلامات وجودنا فى الدنيا، بعدد سنواتنا على الأرض؟!
أتناقش مع أصدقاء عن فقداننا نموذج جدتنا القديمة، التى زينت علامات السن وجهها ولم تحاول يوماً إخفاءها. اتفقنا جميعاً على أننا افتقدناها كامرأة تشعرك نظرة منها بأن الدنيا كلها تقف إلى جانبك، مشهد كبار السن مريح، ملمسهم باعث على الدفء، مشهدهم يبث الأمان والطمأنينة فى النفس ويبعد القلق. فالحياة مديدة وهناك أشياء كثيرة بانتظارنا، هناك أمور أخرى، سنقوم بها غير التنافس والتسابق على الأرشق والأحلى، هناك مستقبل سيكون حافلا بالمنجزات، حافلاً بالحكمة، مشهدهم يذكرك بألا تنشغل بتوافه المشاكل،
فمسألة عدم انسجامك مع الدنيا هى مسألة طبيعية مؤقتة عائدة لصغر سنك وحداثتك بها، كل ذلك سينتهى وسيصبح ماضياً، وسيحل محله هدوء وسكون وانسجام أبدى مع الدنيا. انظر لغالبية كبار السن وستجد فى قسماتهم ذلك التصالح العجيب مع الحياة بمحاسنها ومساوئها. دليله علامات التقدم فى الوجه، والتى شوهها مصممو الوجوه، فسموها (تجاعيد)، ستفهمك تلك العلامات أمورا كنت تجهلها عن الدنيا.
لكننا اليوم لم نعد نراهم كثيراً (على الأقل فى بعض المناطق)، فالستينى يصبغ شعره كل يوم، حتى لا يشيخ مطلقاً، والستينية لا تشيب ووجهها ملأته العمليات بطريقة تحيرك، إذ توحى بتصميم إنسانى جديد صنعه الأطباء، خلق غير طبيعى تحتاج مدة طويلة كى تستوعبه وتتعامل معه بأريحية دون أن تتفحص التواءاته وانتفاخاته المبتذلة كلما نظرت إليه، عمليات التجميل كشفت لنا أن نسبة مخيفة غير راضية عن شكلها الخارجى وغير واثقة منه، كشفت عن كراهية لا محدودة للتقدم فى العمر وخوف حقيقى منه.
لم يخافون الصعود والتقدم؟!
لأنهم لا يشعرون بالأمان. لا شىء فى بلداننا العربية مصمم للمتقدمين فى السن، كل شىء متوفر لأجل الشباب فقط، وكأن من يصل الستين قد انتهى وقته الافتراضى وأصبح غريباً أو فائضاً.
فى بلدان أخرى متقدمة ستجد أن كل ما بالحياة من مرافق مستعد لاستقبال العجوز حتى سنواته التسعين وحتى ما فوق المائة.. كل شىء متوفر لرجل وامرأة التقاعد. ليس لديهم خوف من ولوج هذا العمر المتأخر، بل بإمكانهم التباهى به. فكل ما أنجزوه بسنواتهم السابقة ستظهر نتائجه اليوم وستنتهى حياتهم وهم فى قمة هرم العمر.. وعلى العكس هنا، إذ لا شىء مهيأ لسنوات التقاعد.
البعض يموت نفسياً ويسقط نحو قاعدة الهرم عند الستين، وآخرون فى السبعين حتى لو كانوا نشطاء فيزيائياً. رغم أن العجوز الحقيقى برأيى هو فاقد القدرة على العطاء، عاجز عنه.. وفق هذا التعريف، ستجد أن العجائز يملأون الأرجاء العربية. عجائز فى العشرين وفى الثلاثين، يهملون أجسادهم ويرفضون تشغيل عقولهم. هل هناك كريمات لإزالة علامات الكسل والتجعد والتأخر عن التفكير؟!
فى الغرب تقود امرأة سبعينية أو ثمانينية دراجتها وتدور فى أنحاء المدينة بقمة نشاطها. وقد تتطوع بإحدى الجمعيات. ويبدأ السياسى المتقاعد رؤية مختلفة للحياة ويقرر خوض مشوار جديد وهو فى الثمانينيات. ونحن نقول للمتقدم فى العمر: (أحسن خاتمتك)، فنوجعه كل يوم بتذكيره بأنه على مشارف الموت. نعيب على امرأة طاعنة تفكر بحيوية، ونتساءل عن دورها بعد أن كبر أبناؤها وتزوجوا جميعاً.
لذلك هى لا تريد أن تشيخ، لكنى أريدها أن تشيخ ليزداد جمال المكان، أريدها أن تعلن الخريف لنرى الألوان النادرة، التى لا تظهر سوى بهذا الفصل الفنان، أريدها أن تعلن كل فصول العام لتتحقق العدالة ويصبح تعريف الجمال قرارها الخاص لا قرار التجار والأطباء، حيث أكتب مقالى الآن.. لا تعيش نسبة كبيرة من كبار السن، فالغالبية هم من الشباب والشابات. المكان الذى يخلو من كبار السن أو يخلو من مقومات الحياة المناسبة للكبار مكان مخيف. لا تثقوا به أبداً.
نادين البدير - Almasry Alyoum
No comments:
Post a Comment