لكتابة عن إدوار الخراط لا يمكن أن تستقيم إلا بطرح أسئلة حوله، وحول أعماله..
قرأت كثيرا له فلم أستطع تصنيف أعماله هل هى أدب أم فلسفة؟.. لكن ما الفرق بينهما؟
وكنت دائم السؤال: لماذا يحاط حوله كل هذا الغموض.. غموض فى الكتابة، وآخر فى الحياة؟
ولماذا بعد كل هذه السنوات التى أبدع فيها «حيطان عالية»، و«ساعات الكبرياء»، و«يقين العطش»، و«رامة والتنين»، و«صخور السماء»... لم يحصل على ما يستحق؟
منذ شهور، وقبل أن تسوء حالته الصحية، ذهبت إليه بهذه الأسئلة وغيرها، وفوجئت به يقول: «لم أحقق شيئا، وعلى الرغم من صدور عدة كتب لى، فيبدو أنى ما زلت أقف على شاطئ بحر خضم لا نهاية له».
عرفت من الكاتب الكبير سعيد الكفراوى أن حالته الصحية فى تراجع. وكالعادة اشتكى بعض زملائه من إهمال الوسط الثقافى، ونسيان السؤال عنه، مؤكدين تأثيره القوى فى تيار الحداثة العربية، واهتمامه البالغ بكل ما هو جديد. كلامهم، خاصة الكفراوى، جاء بنوع من الحسرة على الخراط الذى كان «ملء السمع والبصر». لكن هذا هو حال دنيا الناس، فالنسيان تيمتها الرئيسية.
منذ يومين اتصلت بالخراط لأطمئن عليه، وسألته عن صحته، فقال: «الحمد لله تمام. وعكة صحية وهتروح لحالها».
● هل انتهيت من مجموعتك القصصية «حكايات الأفندية»؟
ــ لا. أحضر بعضها الآن. العمر طويل. ستنشر قريبا.
● تجاوزت الثمانين عاما، فهل حققت ما تريده؟
ــ لا. لم أحقق شيئا، وعلى الرغم من صدور عدة كتب لى، فيبدو أنى ما زلت أقف على شاطئ بحر خضم لا نهاية له، هناك بالطبع قدر من التحقق مع قدر أكبر بكثير من الطموح لم يتحقق بعد.
● وما الذى لم يتحقق بعد؟!
ــ كثير. ما زال هناك من الأفكار الكثيرة التى تختمر فى الذهن، ولم تجد بعد طريقة إلى الكتابة الفعلية، ولكن ذلك هى الطريقة التى أكتب بها باستمرار: فترة احتشاد واختمار طويلة لا تكاد تنتهى ثم تدفق فى الكتابة سريعا ومتوهجا.
● بعد كل هذا العمر الطويل فى الكتابة هل تحس بالرضا؟
ــ لم أحس بالرضا أو الغضب، فالرضا ليس من خصائصى الشخصية.
● لماذا تبدو كتاباتك غامضة وصعبة على الفهم؟
ــ أرجو ألا تكون كتاباتى غامضة، المهم أنها غير سطحية، وأنا من الكُتّاب الذين يعنون بعمق الفكرة، أما الغموض يأتى من قصور فى فكر من يقرأ أعمالى.
● لعل هذا ما يبعد النقاد عن أعمالك؟
ــ هذا غير صحيح، هناك قلة فقط من النقاد لا تتعرض لأعمالى، ولكن هناك من اهتم بها، وكتب عنها أهمهم الكاتب الراحل بدر الديب.
● لماذا يلاحظ قلة إنتاجك الآن؟
ــ بعد الشر، لماذا تقول ذلك، أنا لا أوافق على هذه الملاحظة.
● هناك اتهام وجه لك بأنك قبطى تكتب عن الأقباط وللأقباط فقط، تعليقك؟
ــ أرفض أن يوجه لى اتهام من الأصل، كتاباتى تنم عن أنها كتابات مصرية وإنسانية أساسيا، وإذا كانت الشخوص والأحداث تدور فى أجواء قبطية فلما لا؟ أليست هذه الأجواء والشخوص من صميم الواقع الإنسانى، ثم إن كتاباتى لا تقتصر على هذا الجانب وحده دون غيره، أجدها تتسع لجميع جوانب الحياة المصرية والإنسانية فيما أرجو وآمل على الأقل.
وأنا أوضحت فى كتابى أنشودة للكثافة: «أنى عربى مصرى قبطى فى آن وبلا انفصال، والثقافة العربية الإسلامية مقوم أساسى من مقومات حياتى الفردية أو الجماعية على السواء وباعتبارى قبطيا، وهو أمر مختلف إلى حد ما عن كونى مسيحيا، فإنى أكتب نصا أتصور أنه مشرب تماما ــ عن وعى أو عن غيره ــ بيقين ولا أقول عقيدة، بأن المطلق إنما يتجسد فى الإنسان، وبأن الخالد والعرضى هو واحد فى آن، وأن الإنسان هو المطلق دون قسمة، وأن التوحد بين الإنسانى والقدسى مكتمل.
كتابة مثالية● بخصوص العلاقة بين المسلمين والأقباط، أجد أن كتاباتك عن هذه العلاقة مثاليا بعض الشىء؟
ــ أرفض هذا الطرح الذى يحمل الكثير من التشاؤم. وما زلت أعتقد أن مصر بلد التعايش والتسامح. ولا تنسى أننى فى «يقين العطش» عرضت ما يعانيه المسيحى من الإرهاب (قالوا لابد نرحل، لماذا نرحل؟ لن أترك أهلى وناسى وبلدى، لن أترك لهم عظم أجدادى فى تُرب العائلة، ليست هذه أول مرة يا بنتى ــ يقصد رامة المسلمة ــ لم نترك لهم البلد عندما كانوا يعلقون فى أعناقنا صلبان الخشب الثقيلة، ويرغموننا على لبس الزنار، وركوب البغلة بالمندار، أنت أثرية وتعرفين التاريخ، كفاية الذين رحلوا، هاجروا، كفاية سرسوب الدم الذى نزف من أرض الوطن، وانسكب هدرا فى الغربة).
● ولماذا تصر على أن الإبداع بلا حدود؟
ــ لأن الإبداع يكسر الجمود، المبدع بطبيعته طليعى، وبالتالى لا ينصاع للتقاليد الاجتماعية السائدة، فهو يحللها لإرساء قيم أجمل وأفضل، وهذه مهمة الفنان الحقيقى. وأرى أنه لا يمكن أن يحد من حرية المبدع إلا حرية النقد بشرط توافر الفهم والمعرفة والاستناد لدراسات عميقة وحسن النية لما يقرأ وليس التربص والترصد للأخطاء.
وليس من حق أى شخص قمع الإبداع، من حقه نقد ما يشاء سواء كان على أسس من المعرفة والفن أو لم يكن... وكما يقال هناك ناقدان عظيمان هما الزمن، والقراء، وهما فى النهاية يصنعان الإبداع، وأحيانا هذا الجمهور والزمن يستنقذان من التاريخ الأدبى كنوزا مهملة كما حدث مع الشاعر الإنجليزى الميتافيزيقى «دون» بعد صمت استمر قرونا عديدة، فأصبح النقاد والقراء يكتشفون مدى ثراء هذا الشاعر.
دعوة للتكفير● بسبب تأكيدك على حرية الإبداع اتهمت بأن كتابك «شعر الحداثة فى مصر» يدعو للتكفير، لأنه يتضمن عبارات فاحشة?
ــ هذه تهمة سيئة النية، وغير جديرة بالالتفات. القضية أُثيرت فى سياق معركة سياسية أخذت الدين ستارا لها، والشعر لا يقرأ بانتزاع كلمة هنا، وكلمة هناك وتشويه معناه الأصلى، فالشعر له أسلوب خاص فى التلقى ليس أسلوب «التصيد» للمفردات المنتزعة من سياقها الشعرى، والمسألة أكبر من كتاب طرح فى الأسواق.
● وهل مصادرة الإبداع مجرد ظروف طارئة أم مناخ عام نعيش فيه؟
ــ هذا مناخ عام سائد يدعو للأسف والحزن والغضب، لكن هذا ليس معناه أن يتوقف الكُتاب، وأن يكون هناك رقيب على أعمالهم، بالعكس فالفن والحرية صنوان لا يفترقان، والحرية فى الفن لعلها هى الحرية الوحيدة المتبقية لنا، ولن ينال المكفّر منها.
● ألا تجد أن هذا يقع فى منطقة الفلسفة؟
ــ إذا لم يكن الإبداع مستندا إلى رؤية فلسفية؛ فإنه يصاب أو يعتريه الهزال والجمود.
● لماذا لا توجد نظرية عربية فى النقد الأدبى؟
ــ النقد ليس له حدود جغرافية.. وهذا سؤال مغلوط، فهل يوجد فى الأساس نظرية فرنسية أو يابانية لكى نطالب بنظرية عربية، والنظرة العنصرية الضيقة لا مجال لها فى العملية الإبداعية.
● ولكنك أبدعت عدة مصطلحات نقدية مثل الحساسية الجديدة والكتابة عبر النوعية؟
ــ هذه مجرد مصطلحات نقدية، ولا تشكل نظرية.
الكتابة عبر النوعية
● متى بدأت التفكير فى هذا المصطلح، وهل هناك كتابات فى الأدب المصرى تشتمل على هذا الاتجاه؟
ــ كان ذلك قبل صدور «رامة والتنين» بسنة واحدة أى عام 1979، هناك كتابات الراحل بدر الديب والراحل الذى فارقنا مبكرا يحيى الطاهر عبدالله، ولعل بعض كتابات بشر فارس تدخل أيضا فى هذا المفهوم، ولو رجعنا إلى الأعمال الكاملة ليحيى الطاهر عبدالله التى صدرت عن دار المستقبل العربى وقرأت القصص القصار الأخيرة التى كتبها فى مرحلة أخيرة من عمره لوجدت أنها قصص بديعة تجمع بين السرد والشعر وبشكل مبكر ورائع لفتنى أنا نفسى إلى ما كنت أفعل حتى منذ أيام كتابى «حيطان عالية» عندما كنت أخرج من السرد فجأة إلى نوع من الفانتازيا الشعرية أو الحلم السريالى المخالف لكل موضوعات القصة القصيرة التى كانت تكتب فى ذلك الوقت.
● وماذا تعنى بالكتابة عبر النوعية؟
ــ إنها الكتابة التى تتمثل منجزات الأنواع المكرسة مثل الشعر والمسرح والرواية والقصة وما إلى ذلك، وكذلك هى الكتابة التى تتمثل منجزات التقنيات السينمائية أيضا، بل أكثر من ذلك منجزات الفنون غير القولية مثل النحت والتصوير والموسيقى، فى الكتابة عبر النوعية نلاحظ العناية بالجرس الصوتى وبالنسق الصوتى، كما يحدث فى الأعمال الموسيقية نفسها، ولا أعنى أن يقوم المبدع بإقحام إحدى منجزات أو تقنيات فن ما أو نوع أدبى ما بجانب الأنواع الأخرى بحيث ينشأ نوع من التجاور فقط أو النتوء أو النشاز، بل أعنى شيئا صعبا ونادرا أيضا هو تمثل واستيعاب هذه المنجزات المختلفة من الأنواع الأخرى ومن الفنون الأخرى تمثلا واستيعابا تامين ثم صهرها وإدراجها فى هذه الكتابة بحيث يتكون منها شىء لا أدرى هل أسميه نوعا جديدا؟ إنى أتردد قليلا فى أن أسميه نوعا جديدا وإن كنت لا أزال أرى أن هناك فوارق أو خصائص تحسم هذه المسألة أو المشكلة، بمعنى أنه حتى مع استيعاب وتمثل منجزات هذه الفنون الأخرى إذا كانت السردية غالبة على النص فهو ينتمى إلى القص أو الرواية، وإذا كانت الإيقاعية غالبة على النص ولو كان فيه سرد أو غيره من منجزات الفنون الأخرى فهو شعر، أما إذا غلبت الحوارية على النص فهو مسرح، وإذا غلبت المشهدية على النص فهو سينما.
● قال أحد النقاد إن «النص الخراطى تضخم فيه حضور المكان فى حين تراجع الزمن.. تقلص السرد وتضخم الوصف».. أليس ذلك بالضبط ما يحدث فى اللوحة التشكيلية؟.. فلماذا لم تسلك طريق الفن التشكيلى خاصة أنك شغوف به؟
ــ ما قاله التونسى محمد الخبو فى دراسته عن كتابى «إسكندريتى» يكفى ويبين أن كتاباتى لوحات تشكيلية. وتمنيت لو لم أكن كاتبا أن أكون رساما أو نحاتا ولعلّى على نحو ما مارست التصوير بشكل آخر فى كتاباتى الروائية والشعرية حيث اللغة أحيانا تقوم وحدها وبما تحمله من طاقة مقام اللون بكل أطيافه ودرجاته، من الزعفرانى إلى اللازوردى ومن القانى اليانع إلى الأبيض الساطع أو تقوم مقام مادة النحت الصلبة الصوان أو البازلت أو الناصعة المرمرية، وحيث يحتل المشهد البصرى أو التجسيم الذى يكاد يكون نحتيا مكانة لعلها أولى من هذه الكتابات.
قرأت كثيرا له فلم أستطع تصنيف أعماله هل هى أدب أم فلسفة؟.. لكن ما الفرق بينهما؟
وكنت دائم السؤال: لماذا يحاط حوله كل هذا الغموض.. غموض فى الكتابة، وآخر فى الحياة؟
ولماذا بعد كل هذه السنوات التى أبدع فيها «حيطان عالية»، و«ساعات الكبرياء»، و«يقين العطش»، و«رامة والتنين»، و«صخور السماء»... لم يحصل على ما يستحق؟
منذ شهور، وقبل أن تسوء حالته الصحية، ذهبت إليه بهذه الأسئلة وغيرها، وفوجئت به يقول: «لم أحقق شيئا، وعلى الرغم من صدور عدة كتب لى، فيبدو أنى ما زلت أقف على شاطئ بحر خضم لا نهاية له».
عرفت من الكاتب الكبير سعيد الكفراوى أن حالته الصحية فى تراجع. وكالعادة اشتكى بعض زملائه من إهمال الوسط الثقافى، ونسيان السؤال عنه، مؤكدين تأثيره القوى فى تيار الحداثة العربية، واهتمامه البالغ بكل ما هو جديد. كلامهم، خاصة الكفراوى، جاء بنوع من الحسرة على الخراط الذى كان «ملء السمع والبصر». لكن هذا هو حال دنيا الناس، فالنسيان تيمتها الرئيسية.
منذ يومين اتصلت بالخراط لأطمئن عليه، وسألته عن صحته، فقال: «الحمد لله تمام. وعكة صحية وهتروح لحالها».
● هل انتهيت من مجموعتك القصصية «حكايات الأفندية»؟
ــ لا. أحضر بعضها الآن. العمر طويل. ستنشر قريبا.
● تجاوزت الثمانين عاما، فهل حققت ما تريده؟
ــ لا. لم أحقق شيئا، وعلى الرغم من صدور عدة كتب لى، فيبدو أنى ما زلت أقف على شاطئ بحر خضم لا نهاية له، هناك بالطبع قدر من التحقق مع قدر أكبر بكثير من الطموح لم يتحقق بعد.
● وما الذى لم يتحقق بعد؟!
ــ كثير. ما زال هناك من الأفكار الكثيرة التى تختمر فى الذهن، ولم تجد بعد طريقة إلى الكتابة الفعلية، ولكن ذلك هى الطريقة التى أكتب بها باستمرار: فترة احتشاد واختمار طويلة لا تكاد تنتهى ثم تدفق فى الكتابة سريعا ومتوهجا.
● بعد كل هذا العمر الطويل فى الكتابة هل تحس بالرضا؟
ــ لم أحس بالرضا أو الغضب، فالرضا ليس من خصائصى الشخصية.
● لماذا تبدو كتاباتك غامضة وصعبة على الفهم؟
ــ أرجو ألا تكون كتاباتى غامضة، المهم أنها غير سطحية، وأنا من الكُتّاب الذين يعنون بعمق الفكرة، أما الغموض يأتى من قصور فى فكر من يقرأ أعمالى.
● لعل هذا ما يبعد النقاد عن أعمالك؟
ــ هذا غير صحيح، هناك قلة فقط من النقاد لا تتعرض لأعمالى، ولكن هناك من اهتم بها، وكتب عنها أهمهم الكاتب الراحل بدر الديب.
● لماذا يلاحظ قلة إنتاجك الآن؟
ــ بعد الشر، لماذا تقول ذلك، أنا لا أوافق على هذه الملاحظة.
● هناك اتهام وجه لك بأنك قبطى تكتب عن الأقباط وللأقباط فقط، تعليقك؟
ــ أرفض أن يوجه لى اتهام من الأصل، كتاباتى تنم عن أنها كتابات مصرية وإنسانية أساسيا، وإذا كانت الشخوص والأحداث تدور فى أجواء قبطية فلما لا؟ أليست هذه الأجواء والشخوص من صميم الواقع الإنسانى، ثم إن كتاباتى لا تقتصر على هذا الجانب وحده دون غيره، أجدها تتسع لجميع جوانب الحياة المصرية والإنسانية فيما أرجو وآمل على الأقل.
وأنا أوضحت فى كتابى أنشودة للكثافة: «أنى عربى مصرى قبطى فى آن وبلا انفصال، والثقافة العربية الإسلامية مقوم أساسى من مقومات حياتى الفردية أو الجماعية على السواء وباعتبارى قبطيا، وهو أمر مختلف إلى حد ما عن كونى مسيحيا، فإنى أكتب نصا أتصور أنه مشرب تماما ــ عن وعى أو عن غيره ــ بيقين ولا أقول عقيدة، بأن المطلق إنما يتجسد فى الإنسان، وبأن الخالد والعرضى هو واحد فى آن، وأن الإنسان هو المطلق دون قسمة، وأن التوحد بين الإنسانى والقدسى مكتمل.
كتابة مثالية● بخصوص العلاقة بين المسلمين والأقباط، أجد أن كتاباتك عن هذه العلاقة مثاليا بعض الشىء؟
ــ أرفض هذا الطرح الذى يحمل الكثير من التشاؤم. وما زلت أعتقد أن مصر بلد التعايش والتسامح. ولا تنسى أننى فى «يقين العطش» عرضت ما يعانيه المسيحى من الإرهاب (قالوا لابد نرحل، لماذا نرحل؟ لن أترك أهلى وناسى وبلدى، لن أترك لهم عظم أجدادى فى تُرب العائلة، ليست هذه أول مرة يا بنتى ــ يقصد رامة المسلمة ــ لم نترك لهم البلد عندما كانوا يعلقون فى أعناقنا صلبان الخشب الثقيلة، ويرغموننا على لبس الزنار، وركوب البغلة بالمندار، أنت أثرية وتعرفين التاريخ، كفاية الذين رحلوا، هاجروا، كفاية سرسوب الدم الذى نزف من أرض الوطن، وانسكب هدرا فى الغربة).
● ولماذا تصر على أن الإبداع بلا حدود؟
ــ لأن الإبداع يكسر الجمود، المبدع بطبيعته طليعى، وبالتالى لا ينصاع للتقاليد الاجتماعية السائدة، فهو يحللها لإرساء قيم أجمل وأفضل، وهذه مهمة الفنان الحقيقى. وأرى أنه لا يمكن أن يحد من حرية المبدع إلا حرية النقد بشرط توافر الفهم والمعرفة والاستناد لدراسات عميقة وحسن النية لما يقرأ وليس التربص والترصد للأخطاء.
وليس من حق أى شخص قمع الإبداع، من حقه نقد ما يشاء سواء كان على أسس من المعرفة والفن أو لم يكن... وكما يقال هناك ناقدان عظيمان هما الزمن، والقراء، وهما فى النهاية يصنعان الإبداع، وأحيانا هذا الجمهور والزمن يستنقذان من التاريخ الأدبى كنوزا مهملة كما حدث مع الشاعر الإنجليزى الميتافيزيقى «دون» بعد صمت استمر قرونا عديدة، فأصبح النقاد والقراء يكتشفون مدى ثراء هذا الشاعر.
دعوة للتكفير● بسبب تأكيدك على حرية الإبداع اتهمت بأن كتابك «شعر الحداثة فى مصر» يدعو للتكفير، لأنه يتضمن عبارات فاحشة?
ــ هذه تهمة سيئة النية، وغير جديرة بالالتفات. القضية أُثيرت فى سياق معركة سياسية أخذت الدين ستارا لها، والشعر لا يقرأ بانتزاع كلمة هنا، وكلمة هناك وتشويه معناه الأصلى، فالشعر له أسلوب خاص فى التلقى ليس أسلوب «التصيد» للمفردات المنتزعة من سياقها الشعرى، والمسألة أكبر من كتاب طرح فى الأسواق.
● وهل مصادرة الإبداع مجرد ظروف طارئة أم مناخ عام نعيش فيه؟
ــ هذا مناخ عام سائد يدعو للأسف والحزن والغضب، لكن هذا ليس معناه أن يتوقف الكُتاب، وأن يكون هناك رقيب على أعمالهم، بالعكس فالفن والحرية صنوان لا يفترقان، والحرية فى الفن لعلها هى الحرية الوحيدة المتبقية لنا، ولن ينال المكفّر منها.
● ألا تجد أن هذا يقع فى منطقة الفلسفة؟
ــ إذا لم يكن الإبداع مستندا إلى رؤية فلسفية؛ فإنه يصاب أو يعتريه الهزال والجمود.
● لماذا لا توجد نظرية عربية فى النقد الأدبى؟
ــ النقد ليس له حدود جغرافية.. وهذا سؤال مغلوط، فهل يوجد فى الأساس نظرية فرنسية أو يابانية لكى نطالب بنظرية عربية، والنظرة العنصرية الضيقة لا مجال لها فى العملية الإبداعية.
● ولكنك أبدعت عدة مصطلحات نقدية مثل الحساسية الجديدة والكتابة عبر النوعية؟
ــ هذه مجرد مصطلحات نقدية، ولا تشكل نظرية.
الكتابة عبر النوعية
● متى بدأت التفكير فى هذا المصطلح، وهل هناك كتابات فى الأدب المصرى تشتمل على هذا الاتجاه؟
ــ كان ذلك قبل صدور «رامة والتنين» بسنة واحدة أى عام 1979، هناك كتابات الراحل بدر الديب والراحل الذى فارقنا مبكرا يحيى الطاهر عبدالله، ولعل بعض كتابات بشر فارس تدخل أيضا فى هذا المفهوم، ولو رجعنا إلى الأعمال الكاملة ليحيى الطاهر عبدالله التى صدرت عن دار المستقبل العربى وقرأت القصص القصار الأخيرة التى كتبها فى مرحلة أخيرة من عمره لوجدت أنها قصص بديعة تجمع بين السرد والشعر وبشكل مبكر ورائع لفتنى أنا نفسى إلى ما كنت أفعل حتى منذ أيام كتابى «حيطان عالية» عندما كنت أخرج من السرد فجأة إلى نوع من الفانتازيا الشعرية أو الحلم السريالى المخالف لكل موضوعات القصة القصيرة التى كانت تكتب فى ذلك الوقت.
● وماذا تعنى بالكتابة عبر النوعية؟
ــ إنها الكتابة التى تتمثل منجزات الأنواع المكرسة مثل الشعر والمسرح والرواية والقصة وما إلى ذلك، وكذلك هى الكتابة التى تتمثل منجزات التقنيات السينمائية أيضا، بل أكثر من ذلك منجزات الفنون غير القولية مثل النحت والتصوير والموسيقى، فى الكتابة عبر النوعية نلاحظ العناية بالجرس الصوتى وبالنسق الصوتى، كما يحدث فى الأعمال الموسيقية نفسها، ولا أعنى أن يقوم المبدع بإقحام إحدى منجزات أو تقنيات فن ما أو نوع أدبى ما بجانب الأنواع الأخرى بحيث ينشأ نوع من التجاور فقط أو النتوء أو النشاز، بل أعنى شيئا صعبا ونادرا أيضا هو تمثل واستيعاب هذه المنجزات المختلفة من الأنواع الأخرى ومن الفنون الأخرى تمثلا واستيعابا تامين ثم صهرها وإدراجها فى هذه الكتابة بحيث يتكون منها شىء لا أدرى هل أسميه نوعا جديدا؟ إنى أتردد قليلا فى أن أسميه نوعا جديدا وإن كنت لا أزال أرى أن هناك فوارق أو خصائص تحسم هذه المسألة أو المشكلة، بمعنى أنه حتى مع استيعاب وتمثل منجزات هذه الفنون الأخرى إذا كانت السردية غالبة على النص فهو ينتمى إلى القص أو الرواية، وإذا كانت الإيقاعية غالبة على النص ولو كان فيه سرد أو غيره من منجزات الفنون الأخرى فهو شعر، أما إذا غلبت الحوارية على النص فهو مسرح، وإذا غلبت المشهدية على النص فهو سينما.
● قال أحد النقاد إن «النص الخراطى تضخم فيه حضور المكان فى حين تراجع الزمن.. تقلص السرد وتضخم الوصف».. أليس ذلك بالضبط ما يحدث فى اللوحة التشكيلية؟.. فلماذا لم تسلك طريق الفن التشكيلى خاصة أنك شغوف به؟
ــ ما قاله التونسى محمد الخبو فى دراسته عن كتابى «إسكندريتى» يكفى ويبين أن كتاباتى لوحات تشكيلية. وتمنيت لو لم أكن كاتبا أن أكون رساما أو نحاتا ولعلّى على نحو ما مارست التصوير بشكل آخر فى كتاباتى الروائية والشعرية حيث اللغة أحيانا تقوم وحدها وبما تحمله من طاقة مقام اللون بكل أطيافه ودرجاته، من الزعفرانى إلى اللازوردى ومن القانى اليانع إلى الأبيض الساطع أو تقوم مقام مادة النحت الصلبة الصوان أو البازلت أو الناصعة المرمرية، وحيث يحتل المشهد البصرى أو التجسيم الذى يكاد يكون نحتيا مكانة لعلها أولى من هذه الكتابات.
سامح سامى - الشروق
No comments:
Post a Comment