فى «عز ظُهر» السبت ٢١ أغسطس الماضى، اختفت لوحة «زهرة الخشخاش» من داخل متحف محمد محمود خليل فى قلب القاهرة، وترك اللص، أو اللصوص، إطار اللوحة التى يقدر الخبراء ثمنها بنحو ٥٥ مليون دولار، فارغا، لتبدأ بعد ذلك التحقيقات واتهامات بالإهمال وعدم تقدير المسؤولية بين وزير الثقافة المسؤول عن المتحف، ومساعديه حيث يقبع أحدهم الآن فى الحبس على ذمة القضية.
هذه السرقة، التى يمكن اعتبارها واحدة من أسهل سرقات اللوحات الفنية فى التاريخ نتيجة غياب جميع عناصر التأمين تقريبا، فتحت باب الجدل حول مدى اهتمام مصر بالأعمال الفنية وسُبل تأمينها، ولكن الأهم من ذلك كله أن السرقة تطرح سؤالاً يبحث عن إجابة: أين ذهبت لوحة «زهرة الخشخاش» بعد خروجها من متحف محمود خليل؟
المعروف أن الأعمال الفنية المشهورة التى تتم سرقتها لا تذهب مطلقا إلى السوق المفتوحة، بمعنى آخر أن اللوحة التى تبلغ قيمتها التقديرية ٥٥ مليون دولار لن تظهر فى صالة مزادات، وبالتالى لن يتمكن السارق من الحصول على أموال مباشرة من سرقته، ولذا تبقى الأسئلة معلقة حول الغرض من سرقة مثل هذه، ومن يتكبد هذا العناء، وما هى سيناريوهات تهريب اللوحة، وما هو بدقة «العالم السفلى» للأعمال الفنية، وهو عالم شاسع ومترامى الأطراف؟
أثناء إعداد هذا التقرير، وفى محاولة جمع المعلومات اللازمة، توصلنا إلى خبير عالمى فى هذا المجال، شخص يوصف بـ«التاجر التائب» كما أطلقت عليه مجلة «فورين بوليسى» الأمريكية المرموقة عندما حاورته حول هذه القضايا، يطلق التاجر التائب على نفسه اسما مستعارا وهو «توربو بول»، وهو يحرر عدة مدونات تختص بالقطع الفنية المسروقة، وآخر شائعات العالم السفلى للمسروقات، وأحدث أخبار سوق الفن، التى ينشرها بهدف مساعدة جهات تنفيذ القانون على استعادة المسروقات، خاصة بعد أن عمل وسيطا فى عدد من القضايا الشبيهة، وأشهر مدوناته تحمل اسم Art Hostage.
كتب «توربو بول» على مدونته متابعات لحادث سرقة «زهرة الخشخاش» مصحوبة بالعديد من تعليقاته الشخصية حول السرقة وتصوراته حول كيفية حدوثها، ولأنه مصدر خبير قمنا بالاتصال به عبر البريد الإلكترونى ،للحصول على بعض الأفكار الخارجية عن سرقات القطع الفنية عموما، وحادث سرقة «زهرة الخشخاش» على وجه الخصوص، وكانت الإجابات صادمة، يمكنها تغيير الصورة المتداولة حول لصوص الفن.
أكد «بول» –وهو اسم مستعار كما سبق التأكيد- أن سرقة قطع فنية معروفة ومشهورة تحدث غالبا بغرض آخر لا علاقة له بالحصول على أموال مباشرة، ولكن الغرض يكون فى أغلب الأحيان هو وضع هذه اللوحة كضمانة لدى العصابات المنظمة فى صفقات المخدرات والأسلحة، وفى أحيان أخرى فإن سرقة هذه اللوحات تكون بغرض مساومة سارقها لتخفيض بعض الأحكام الجنائية الأخرى، أو الإفلات من عقوبات جنائية أخرى!
تلك الرؤية التى طرحها «بول» فى حوارنا معه، تحدث عنها بطريقة أكثر استفاضة فى حواره مع مجلة «فورين بوليسى» الأمريكية المتخصصة فى الشؤون السياسية، فى عدد ٢٠ فبراير ٢٠٠٨، حيث رصد بعض الآليات التى تحكم العالم السفلى لمسروقات الأعمال الفنية، قائلا: «ربما يمنح اللصوص القطع المسروقة لمن يمكن أن نطلق عليه (المستثمر الرأسمالى الإجرامى)، مثلا يمكن أن يبيع اللص المسروقات بمليون دولار، ويحتفظ بها المشترى لفترة ما ثم يستبدلها مثلا بجائزة مرصودة لاستعادة الأعمال وليكن ٥ ملايين دولار، أو يمكن بيع اللوحات مقابل شحنة من شحنات المخدرات، وهكذا».
ويحكى «بول» للمجلة الأمريكية تجربته الشخصية فى هذه السوق قائلا: «كانت هناك لوحة مسروقة قيمتها تقدر بنحو ٥ ملايين دولار، دفعت فيها ٢٠ ألف دولار، وبعتها خلال يومين بمبلغ ١٠٠ ألف دولار، وهو ما يعنى ربح ٨٠ ألف دولار فى يومين، لم يعننى على الإطلاق فكرة أنها تساوى ٥ ملايين، والحقيقة أن اللوحات المشهورة يمكن وصفها بأنها مثيرة (للصداع)، وأنا أفضل التعامل مع قطع أقل شهرة».
ولكن، ماذا بالتحديد عن «زهرة الخشخاش»؟، يطرح «بول» فى حواره معنا بعض التصورات التى تبدو بعيدة تماما عن التصديق للوهلة الأولى، منها مثلا أن إيران تعتبر مركزا رئيسيا فى الوقت الحالى للعمليات السفلية، مؤكدا: «الحقيقة أن هناك سوقا سوداء مزدهرة للقطع الفنية المسروقة، والحيوانات المهددة بالانقراض، والمخدرات والسلاح، فى إيران، أو على الأقل فإن الشخص أو المنظمة التى تدير هذه السوق تتواجد داخل إيران»، وهكذا فهو يرصد تصوره لسيناريو خروج اللوحة من مصر فى اتجاهها نحو مركز السوق السوداء: «إذا كان اللصوص أعضاء منظمة إجرامية، فالمتوقع هو حركتهم من القاهرة إلى غزة، فبيروت، ثم سوريا، ومنها إلى إيران لتبقى هناك كضمانة فى صفقات أخرى».
ولكن حتى إذا كانت اللوحة قد سُرقت على يد لصوص هواة، فإن «بول» يؤكد أنها ستصبح فى يد منظمات أقوى بعد فترة قصيرة للغاية كما يحدث دائما، «الوضع الأمثل للصوص الصغار هو إعادة اللوحة فى سرية والرحيل عن المشهد بأكمله، ولكن إذا استمروا فى العملية، فما سيحدث هو أنه بمجرد نقل اللوحة إلى آخرين فى «العالم السفلى» فسوف تنتقل حيازة اللوحة إلى منظمات الجريمة القوية أو حتى منظمات إرهابية لتعمل أيضا كضمانة فى صفقات المخدرات والسلاح».
خبراء الجريمة يرصدون أيضا أحد أسباب ازدهار سرقة اللوحات الفنية، وهو المطالبة بالفدية لإعادة الأعمال المسروقة، كما يؤكد «جان بيير جوانى» الخبير فى قسم العناصر الفنية المسروقة بالإنتربول لموقع BBC: «أنا أعمل فى هذا المجال منذ ٢٥ عاما وغالبا ما كنا نتلقى طلبات لدفع الأموال فى مقابل استعادة اللوحات»، وبالنسبة لتلك الأعمال التى لا تقدر بثمن، فإن المتاحف وشركات التأمين تكون على استعداد لدفع الكثير من أجل استعادة المفقودات، حتى إذا ذهب اللصوص بلا عقاب، وتختلف الفدية بين عرض جائزة مالية لمن يدلى بمعلومات عن القطعة المسروقة، أو قيام اللصوص بطلب مبلغ للفدية، وبخصوص الجوائز فقد عرض متحف «بوسطن» الذى سُرقت منه أعمال تقدر قيمتها بنحو ٢٥٠ مليون دولار مكافأة ٥ ملايين دولار، وذكر تقرير لموقع CNN أن جهة غير معروفة عرضت جائزة قيمتها ٩٠ ألف دولار لمن يدلى بمعلومات حول سرقة لوحتين من متحف زيورخ عام ٢٠٠٨.
بشكل أو بآخر، اتبع رجل الأعمال «نجيب ساويرس» نفس المنطق وعرض مكافأة مليون جنيه لمن يدلى بمعلومات تؤدى للعثور على «زهرة الخشخاش»، قيمة هذه الجائزة «التطوعية» ضئيلة للغاية ولا تشجع اللصوص على أى مخاطرة، وكما يرصد لنا «تربو بول» المطلع على أحوال «العالم السفلى»: «ترتبط المكافأة التى تعرض لاستعادة اللوحات بالظروف فى كل حالة، ولكن بشكل عام إذا عُرضت مكافأة قيمتها تتراوح بين ١٠-٢٠% من قيمة اللوحة الأصلية، أو بعبارة أخرى، رقم يتراوح بين ٥.٥ – ١١ مليون دولار فى حالة «زهرة الخشخاش»، فربما يغري ذلك حائزى اللوحة بإعادتها»، فى الوقت نفسه يسخر «بول» على مدونته من قيمة المكافأة المصرية المرصودة، ويرى أنها لن تساعد مطلقا فى استعادة اللوحة.
وتأكيد لهذا الأسلوب، نشرت مجلة «نيوزويك» فى شهر مايو الماضى تحقيقا ضخما حول سرقات القطع الفنية، أكد فيه المحرر أن أهداف غالبية السرقات الفنية ليست هى بيع القطع على الإطلاق، ولكن الهدف هو طلب الفدية، لدرجة أن بعض المتاحف تؤمن على مقتنياتها ضد هذا الاحتمال، وفى مثل هذه الحالات فإن تفاصيل التبادل نادرا ما تجد طريقها إلى وسائل الإعلام، وغالبا ما يتداخل فى العمل عدة مستويات من الوسطاء، واللصوص الذين يرتبطون فى بعض الأحيان بالجريمة المنظمة- يكونون على درجة عالية من الصبر والانتظار. وترصد المجلة شهادة خبير فى أمن المتاحف الذى يذكر أن أمريكا الشمالية شهدت عدة حالات فى السنوات الأخيرة كان هدف السرقة هو «إخراج بعض المحكومين من السجون».
أشهر القصص المتداولة عالميا حول عمليات التبادل الغامضة، هى ما حدث مع لوحة ليوناردو دافنشى «العذراء والمغزل» Madonna with a Yarnwinder ففى ٢٧ أغسطس عام ٢٠٠٣، انتزع اللصوص اللوحة التى تقدر قيمتها بنحو ٤٥ مليون دولار من فوق جدران قلعة درملانرج فى سكتلندا، الأمر الذى دعا الناقد الفنى «بريان سويل» للقول إن اسم ليوناردو دافنشى المنقوش على إطار اللوحة كاف لإغراء «أى لص أحمق»، ولكنه مع ذلك يؤكد أنه لا توجد سوق لمثل هذه الأعمال، فأى شخص سيذهب إلى محل بيع الأنتيكات أو صالة المزادات ومعه هذه اللوحة سيتم القبض عليه فى موقعه، كما أن أى جامع تحف خاصة عاقل سيفكر كثيرا قبل أن يقدم على هذه المخاطرة»، بعض نقاد الفن التشكيلى، يعتقدون أن سرقة مثل هذه اللوحات الشهيرة هى فى الحقيقة «سرقات فاشلة»، «أوسيان وارد» الناقد بمجلة آرت ريفيو يقول: «ربما يرى البعض لوحة تحمل اسم ليوناردو، ويعتقدون أن بإمكانهم سرقتها، دون أن يعرفوا أنهم لن يتمكنوا من بيعها أبدا»، وغالبا ما يتورط اللصوص مع مثل هذه القطع لأن جميع من يتعامل فى سوق الفن يعلم أنها لوحة مسروقة.
وعن هذه اللوحة يكتب «بول» التاجر التائب فى مدونته: «سُرقت اللوحة فى اسكتلندا، ولكنها ذهبت فى رحلة عبر أيرلندا وصولا إلى إيران، وتم الاحتفاظ بها هناك كضمان لصفقات سلاح أو مخدرات. وعندما انطلقت جهود لاستعادة لوحة دافنشى، عادت هذه اللوحة من إيران إلى أيرلندا وليفربول ثم إلى جلاسكو باسكتلندا حيث تمت استعادتها من داخل مكتب محام فى أكتوبر ٢٠٠٧». اللوحة تم استعادتها من داخل مكتب محام فى جلاسكو بأسكتلندا بعد مطاردة شاركت فيها أربع هيئات أمنية مختلفة، انتهت بمداهمة المكتب الذى اجتمع فيه خمسة أشخاص لإبرام اتفاق لنقل ملكيتها!
والمثير فى مثل هذه القضايا، أن عمليات استعادة الأعمال المسروقة تبقى أكثر غموضا من عمليات السرقة نفسها، فعندما تمت سرقة لوحة الرسام إدوارد مونك «الصرخة» من متحف النرويج الوطنى عام ١٩٩٤، تلقى المسؤولون عدة طلبات للفدية، ولكن الشرطة لم تتمكن من التأكد من أى منها، وبعد ذلك -وبغرابة شديدة- ظهرت اللوحة فى غرفة فندق بجوار المتحف بعدها بثلاثة أشهر. وفى حادث آخر بباريس عام ١٩٨٥، انتزعت عصابة مسلحة سبع لوحات شهيرة منها واحدة لمونيه، ولم تتم استعادتها جميعا إلا فى عام ١٩٩٠، بما فى ذلك الحصول على بعض اللوحات من اليابان، وبقيت الظروف التى أعيدت بها اللوحات غير معلنة على الإطلاق.
إحدى الوسائل الأخرى للتعامل مع اللوحات الفنية المسروقة تعرف باسم «غسيل اللوحات» خاصة إذا كانت اللوحة أقل شهرة، حيث يحتفظ اللصوص بالغنيمة لفترة ما وعندما يتوقف العالم عن البحث عن هذه اللوحات، تبدأ عملية من عمليات «غسيل اللوحات»، حيث يبيع اللص تلك القطعة المسروقة بسعر منخفض للحصول على مكسب سريع دون أن يلفت الانتباه، وإذا تم تبادل هذه القطعة بعد ذلك بين الأيدى عدة مرات فى صفقات خارج الأضواء فربما ينتهى بها الأمر فى مزاد علنى دون أى تحذيرات حول مصدرها خاصة أن حائزها الحالى حصل عليها بطريقة شرعية، وإذا لم تقم دار المزادات بالمزيد من الأبحاث، فربما تمر اللوحة من بين الشقوق.
وأشهر قصص غسل اللوحات ما نقلته وكالة «أسوشيتدبرس» الإخبارية منذ ثلاثة أعوام، حول شراء المخرج الشهير «ستيفن سبيلبرج» لوحة للفنان «نورمان روكويل» بمبلغ ٢٠٠ ألف دولار، ليكتشف بعدها أن اللوحة مسروقة من متحف فى ميسورى عام ١٩٧٣ وأن قيمتها الحقيقية تتجاوز ٧٠٠ ألف دولار، أبلغ المخرج السلطات على الفور لتبدأ المباحث الفيدرالية تحقيقاتها حول هذه الواقعة وتكتشف أن القطعة الفنية تم بيعها مرتين على الأقل «شرعيا» قبل أن تصل إلى سبيلبرج فى عملية «غسيل لوحات» تقليدية.
عملية «غسيل اللوحات» هى عملية معقدة حيث يفضل التجار غالبا عدم كشف أسماء عملائهم، بينما يفضل جامعو التحف التعامل بسرية كاملة، وفوق ذلك كله فإن الأعمال الفنية المسروقة تغادر بلادها بعد فترة قصيرة من السرقة، ولا تظهر غالبا إلا بعدها بسنوات طويلة وعندما تظهر تكون غالبا فى يد شخص حصل عليها بطريقة شرعية، ويعانى المحققون كثيرا فى التحقيقات العكسية للبحث وسط سلسلة الحائزين. إلى جانب أن المجرمين يستفيدون غالبا من اختلاف القوانين فى المناطق المختلفة، حيث إن لكل دولة قانوناً لسقوط القضايا بالتقادم، فى هولندا مثلا يصبح اللص هو حائز القطعة رسميا بعد مرور ٢١ عاما على السرقة، وفى إيطاليا تصبح القطعة ملك صاحبها إذا قام بشرائها فى مزاد علنى.
وسيلة أخرى على قدر كبير من الغرابة ترصدها المباحث الفيدرالية الأمريكية FBI فى أسلوب يستخدم مع اللوحات المسروقة، حيث تقول وكالة تنفيذ القانون إن أسهل وسيلة يتخلص بها اللصوص من اللوحات المسروقة هى بيع اللوحات الأصلية باعتبارها لوحات مقلدة على مستوى عال، وبهذه الطريقة يتمكن اللصوص من البيع فى السوق المفتوحة، بطبيعة الحال يكون ما يحصلون عليه من أموال أقل كثيرا من السعر الأصلى، ولكن عندما تساوى اللوحة الأصلية ١٠ أو ٢٠ مليون دولار، يمكن أن يحصل اللصوص على ربح معقول عند بيع اللوحة باعتبارها مقلدة، وتعتقد FBI أن الكثير من القطع الفنية المسروقة والمفقودة حتى الآن تستقر بين مجموعات جامعى التحف الذين اشتروها بطريقة شرعية وهم يعتقدون أنها عمل مقلد.
بطبيعة الحال، يمكن استخدام الأسلوب العكسى، أى إعادة لوحة مقلدة بشكل متقن باعتبارها اللوحة الأصلية، وهو الأمر الذى كان مثار جدل كبير مع لوحة «زهرة الخشخاش» المنكوبة، التى سرقت من نفس المتحف للمرة الأولى عام ١٩٧٨ ثم أعيدت بعدها بقليل إلى المتحف بطريقة أكثر غموضاً، وهو ما جعل البعض يردد أن الغرض من السرقة كان نسخ اللوحة وأن الموجودة فى المتحف هى النسخة المقلدة، بينما اللوحة الأصلية هربت إلى الخارج. وأثيرت حول «زهرة الخشخاش» ضجة كبيرة عام ١٩٨٨ حين أعلن الكاتب الراحل يوسف إدريس فى صحيفة «الأهرام» شبه الرسمية أن اللوحة الموجودة بالمتحف نسخة مزيفة وأن الأصلية بيعت فى إحدى أكبر صالات المزادات بلندن بمبلغ ٤٣ مليون دولار.
فى بعض الأحيان النادرة، يكون اللص نفسه من عشاق الفن، ويرغب فى الاحتفاظ باللوحات المسروقة، مثل «ستيفانى بريتويسر» كان عمره ٣٢ عاماً عندما قام بسرقة المئات من الأعمال الفنية، التى قدرت قيمتها مجتمعة بنحو بليون جنيه إسترلينى، وذلك من معارض فى فرنسا وألمانيا وسويسرا، وكان هدفه أن يعلق هذه الأعمال على الحوائط فى منزله، ولكن والدته التى كانت تعيش معه بالمنزل خشيت من توصل الشرطة إليه فقامت بتدمير هذه الأعمال جميعها.
وربما يعتقد الكثيرون أن سرقة الأعمال الفنية هى مجرد حوادث متفرقة لا يجمعها رابط واحد، ولكن الأرقام تقول عكس ذلك تماماً، فطبقا لوكالة التحقيقات الفيدرالية FBI، فإن سرقة الأعمال الفنية، بما فى ذلك «الاحتيال، النهب، ونقل المسروقات عبر الدول» يصل إلى ٦ بلايين دولار فى العام، وهو الرقم الذى يعنى أن سرقة الأعمال الفنية تجارة ضخمة ومتشعبة.
بينما تؤكد جمعية أبحاث فى الجرائم ضد الفن ARCA، أن سرقات الأعمال الفنية هى ثالث أكبر الأعمال الإجرامية ربحا بعد تجارة المخدرات وتجارة الأسلحة، وفى حين ربما يعتقد الناس أن مثل هؤلاء اللصوص منعزلون ومجانين فنون، فإن الحقيقة تقول إن الغالبية العظمى من الأعمال الفنية المسروقة تسيطر عليها عصابات الجريمة المنظمة لاستخدامها فى أغراض الفدية، والمفاوضات أو لتمويل أنشطة جرائم أخرى مثل الإرهاب، وتحتل إيطاليا المركز الأول عالميا فى السرقات الفنية، حيث يسرق فيها ما يقرب من ٢٥ ألف قطعة فنية سنوياً، بينما تحتل روسيا المركز الثانى بفارق كبير بحوالى ٢٠٠٠ سرقة فى العام.
بينما تؤكد أجهزة الأمن الإنجليزية، أن هناك سرقات فنية تتراوح قيمتها بين ٤٥٠ و٧٧٠ مليون دولار كل عام، وأن معظم هذه السرقات ينفذها «لصوص عاديون»، ولكن حجم سوق الفن العالمية يغرى العصابات المنظمة، كما أن العناصر المسروقة يمكن نقلها حول العالم «بأقل قدر من المخاطرة»، ويقول أحد خبراء الأمن الإنجليز، «نحن نعلم أن الجريمة المنظمة تعمل على سرقة القطع الفنية والأنتيكات لتمويل جرائمهم الأخرى»، وإذا لم تأت القطع الفنية المسروقة بالمال فإن هذه العصابات تشتهر باستخدام اللوحات الفنية فى الاتفاقات المتعلقة بالأسلحة والمخدرات.
وتبدو فرصة استعادة الأعمال الفنية المسروقة ضئيلة للغاية، حيث ترصد «بونى مانجس جاردنيير» مدير برنامج السرقات الفنية بالمباحث الفيدرالية FBI لموقع CNN الوضع قائلة: «تقل نسبة استعادة هذه الأعمال عن ٥% من الحالات»، والأسوأ من ذلك أنها تقر بحقيقة يعرفها خبراء الأمن، وهى أن لصوص الفن نادراً ما يقعون تحت طائلة القانون مؤكدة: «تظهر القطع المسروقة بعد سنوات، وأحيانا عقود بعد السرقة، ولأن الأعمال الفنية لا تتطلب توثيقا ضخما قبل انتقالها من مالك إلى آخر، فإن الكثير من العناصر المسروقة تدخل بسهولة تيار التجارة الشرعى، ويكون من المستحيل تقريبا تتبع سلسلة الملاك حتى الوصول إلى اللص الأصلى فى معظم الأحيان، وحتى إذا تم تحديد اللص الأصلى فهناك دائما إمكانية لسقوط التهمة بالتقادم ضده».
وبينما يسهل مطاردة الأعمال الشهيرة، فإن المئات من الأعمال المسروقة الأقل شهرة يمكن أن تجد طريقها للسوق، والحل الوحيد لمنع ذلك هو توثيق جميع القطع التى تتم سرقتها لتقليل فرصة مرورها إلى السوق، وهناك العديد من الجهات التى تعمل على هذا التوثيق، ولكن أشهرها فى عالم القطع الفنية «سجل الأعمال الفنية المسروقة» Art Loss register وهو أكبر قاعدة بيانات خاصة لتسجيل الأعمال الفنية الضائعة والمفقودة، الذى يسجل أكثر من ٣٠ ألف عمل فنى مسروق على مستوى العالم، وهو يقدم خدماته عبر الإنترنت لجامعى التحف والتجار وشركات التأمين وحتى جهات تنفيذ القانون، وهذا الأرشيف لعب دوراً محورياً فى استعادة عدد من اللوحات المهمة بما فى ذلك لوحة «بيكاسو» امرأة ترتدى الأبيض وتقرأ كتاباً والتى سُرقت عام ١٩٤٠ وتمت استعادتها فى ٢٠٠٥، كما ساهم فى استعادة لوحة بول سيزان «طبيعة صامتة: فاكهة ودورق» والتى سُرقت عام ١٩٧٨ وتمت استعادتها عام ١٩٩٩، وأيضا لوحة مانيه «طبيعة صامتة: خوخ» التى سُرقت عام ١٩٧٧ وتمت استعادتها عام ١٩٩٧.
جون رادكليف، مؤسس « سجل الأعمال الفنية المسروقة»، يتفق مع الرأي القائل أنه لا توجد عقول إجرامية تخطط لسرقة القطع الفنية للاستمتاع بها كما يحدث فى الأفلام السينمائية، لأن «الغالبية العظمى من جامعى التحف ترغب فى عرض مقتنياتها على الآخرين، ومع ذلك فإن بيع لوحات شهيرة ليس مستحيلاً بشكل دائم، ويحدث هذا بعد فترة طويلة من سرقة الأعمال الفنية، وعندما يظن اللصوص أن القضية قد هدأت وأن هناك من يمكنه المخاطرة بالدفع مقابل اللوحات».
ويحتفظ الإنتربول أيضا بقاعدة بيانات ضخمة تتعلق بالتحف والأعمال الفنية المسروقة، التى يبلغ عددها حاليا ٣٤ ألف قطعة، وفى محاولة لإحكام السيطرة على «سوق المسروقات» قرر الإنتربول، كما ذكر تقرير إخبارى لوكالة AFP، أن يتيح الوصول لهذه البيانات لأى مستخدم لشبكة الإنترنت، حيث سيكون بوسع كل مستخدم يتقدم بطلب عبر الإنترنت أن يحظى بكلمة مرور تسمح له بالوصول إلى موقع إلكترونى مراقب يعرض قوائم الأعمال الفنية المسروقة فى العالم بأسره، والمسجلة فى بيانات الإنتربول ومقره فى ليون، وسوف تتيح قاعدة البيانات الخاصة بالإنتربول مراجعة أوصاف وصور الأعمال الفنية المسروقة، وقال كارل-هاينز كيند، منسق قسم الإنتربول المسؤول عن الأعمال الفنية، أن من شأن هذه الخطوة، فضلاً عن الزيادة المتوقع تسجيلها فى البلاغات عن الممتلكات الفنية المسروقة: «أن تعوق بشكل جدى حركة التجارة غير الشرعية بالمسروقات»، إذ إن بيع أى عمل فنى مسروق سيصبح أكثر صعوبة.
ومع ذلك يبقى الأمل فى استعادة أى لوحة مسروقة نتيجة يأس اللصوص من قدرتهم على الاستفادة منها، وهناك حادث شهير فى هذا الشأن يرتبط بلوحة للرسام سيزان والتى أعادها اللصوص بعد أن احتفظوا بها لمدة ٢٠ عاما فى خزانة أحد البنوك، ولكنهم توصلوا لقناعة أخيرة بضرورة التخلص منها، ويقول «جون ريدكليف»: «إن نسبة إعادة اللصوص للأعمال الفنية المسروقة تتجاوز ٢٠%، ولكن عليك أن تنتظر ٣٠ عاما».
أما آخر الآمال فى استعادة اللوحة فهى عن طريق الحظ المطلق، فقد سرق اللصوص أعمالا تتجاوز قيمتها ١٠٠ مليون دولار من متحف «فان جوخ» فى أمستردام عام ١٩٩١، ولكنهم أصيبوا بالفزع بعد السرقة الناجحة، وتركوا الغنيمة بأكملها داخل السيارة التى أقلتهم لمحطة القطارات، وربما يكون ذلك هو الأمل الأخير لـ«زهرة الخشخاش».
إيهاب الزلاقى- Almasry Alyoum
No comments:
Post a Comment