معادلة شديدة التعقيد تلك التي تقف سيناء وأهلها في جانب منها، بينما تقف الدولة في الجانب الآخر، بعد أن تكفلت عدة أحداث غير مسئولة في تصاعد الصدام بينهما إلي درجة غير مسبوقة، ثار فيها البدو علي الحكومة والأمن وحتي علي الشرعية، وقطعوا الطريق الدولي بالقرب من مقر قوات حفظ السلام بمنطقة «الجورة»، قبل أن يلجئوا للاعتصام علي حدود إسرائيل احتجاجا علي رصاصات الشرطة التي بدأت تتجه إليهم بمناسبة ودون مناسبة.
وشهدت المدينة الحدودية الأشهر والأخطر صدامات عدة خلال الأعوام الماضية تصاعدت حدتها حتي وصلت إلي حد الخطر، بعد أن قفزت من مجرد خلافات بسيطة يمكن حلها علي طريقة «قعدة العرب»، إلي مواجهات مسلحة بين البدو والشرطة - والدولة بشكل غير مباشر-بعد أن اختارت وزارة الداخلية الحل الأمني الأسهل، وحشدت قواتها مدعومة بالمدرعات وقاذفات الصواريخ لضبط من وصفتهم بنفسها بـ«المطلوبين أمنيا»، وكأنها بصدد معركة حربية مع جيش نظامي.
الأزمة الأخيرة التي انتهت بالمعارك التي شهدتها قرية «وادي العمرو» بوسط سيناء ليست نتاج اليوم أو الأمس القريب، لكنها نتيجة طبيعية لسلسلة من الاحتقانات التي خلفتها صدامات سابقة مع الشرطة، تصاعدت بشكل غير مسبوق خلال السنوات العشر الأخيرة، مع تغير السياسة الأمنية لوزارة الداخلية في التعامل مع البدو في عهد وزير الداخلية الحالي اللواء حبيب العادلي، الذي شهد عصره أكبر وأعنف أزمات البدو مع الشرطة؛ نتيجة للسياسة الأمنية التي يتبعها مع أبناء القبائل، والتي تشبه المثل الشعبي الشهير «اضرب المربوط يخاف السايب»، دون اعتبار لطبيعة سيناء الخاصة، ولعادات وتقاليد أهلها التي لن تقبل انتهاكات الشرطة، التي تتسبب في تصاعد الأمور بشكل غير مسبوق في كل مرة.
وبدلا من أن يدرك وزير الداخلية أن علاقته ببدو سيناء في طريقها لطريق مسدود، ويبدأ في إصلاح ما أفسده رجاله بالمحافظة الأهم والأخطر والأغلي علي مصر، تحرك الوزير في الاتجاه المضاد، وصعد من ردود أفعال جهازه الأمني ضد أبناء المنطقة التي باتت علي حافة الانفجار.
بالطبع ليست «الداخلية» وحدها السبب في الفجوة التي حدثت بين البدو ومصر، لكن السياسات الأمنية التي انتهجتها الوزارة في عهد وزيرها الحالي كانت السبب في «شرخ» علاقة البدو بالدولة علي مدار سنوات توليه الوزارة، ويعلن أبناء سيناء أن العادلي هو المسئول عن اعتقال 5 آلاف شاب من شباب المحافظة دفعة واحدة في الفترة التي تبعت تفجيرات طابا، وهي الفترة التي شهدت سيناء خلالها أعنف حملة أمنية في تاريخها، بين اعتقالات وانتهاك لحرمة البيوت، واعتقال للنساء والأطفال.
وبدلا من أن يدرك وزير الداخلية فداحة الخطأ الذي وقع فيها رجاله ويلزمهم بمراعاة التقاليد البدوية التي تجعل من البيوت والنساء «تابو» مقدس لا يجوز المساس به، كرر العادلي خطأه، وترك لرجاله المجال مفتوحا ليفعلوا ما بدا لهم بأبناء سيناء الذين فاض بهم الكيل، فحملوا السلاح للمرة الأولي في وجه قوات الشرطة بوسط سيناء في معركة تناقلتها وكالات الأنباء العالمية، مبرزة صورة الوضع الأمني، وانسحاب مدرعات الداخلية من منطقة القتال.
العجيب أن وزير الداخلية اجتمع بشيوخ القبائل وأعضاء مجلسي الشعب والشوري عن المحافظة في نفس الوقت، في محاولة لاستعادة السيطرة علي الأمور، وأكد الوزير خلال اللقاء - الذي تم في مقر وزارة الداخلية بالمناسبة - علي أن سيناء في خطط الحكومة، وأن الدولة تستعد لمشروعات تنموية ضخمة فيها، دون أن يكلف نفسه عناء النزول لأهالي المحافظة الغاضبين، وهو ما استفز أبناء القبائل بالمنطقة التي شهدت المصادمات الأخيرة، ودفعهم لتنظيم مؤتمر حاشد، سبقته مسيرة سلمية طاف فيها المئات منهم بقري وتجمعات وسط سيناء، منددين بسياسات التصعيد الأمني، والانتهاكات التي تقوم بها الشرطة ضدهم.
والراصد لتاريخ أزمات سيناء مع الدولة يجد تاريخا مفصليا وفارقا في علاقة البدو بالدولة، هو تاريخ تفجيرات «طابا» في 2004، حيث قابلت الداخلية هذا الحادث بعنف غير مسبوق ضد البدو، ووضعت جميع أبناء سيناء في خانة «الجاني» وتعاملت علي هذا الأساس، مستخدمة كل ما تملك من أدوات وأسلحة.
الحديث عن أزمة سيناء والوطن ليس بسيطا، ولا يمكن التعبير عنه في سطور أو صحفات، لكن وثيقة في غاية الأهمية ذيلها كاتبوها بتوقيعاتهم وبصمات أصابعهم، في شهادة منهم للتاريخ بما عانوه من وطن لم يكنوا له إلا كل الحب، لا الإرهاب كما رآهم وزير الداخلية.
أصحاب الوثيقة الكارثية عنونوها بـاسم «وثيقة إبراء ذمة»، وسجلوا فيها شهادتهم للتاريخ علي ما حاق بهم وبأبنائهم من ممارسات أمنية علي خلفية اتهامات لم تتأكد صحتها بضلوعهم في تفجيرات طابا التي هزت شبه جزيرة سيناء في أكتوبر 2004، وكشفوا من خلالها فقدانهم الثقة في الجميع، دولة وشرطة وشيوخ قبائل عينتهم الأجهزة الأمنية واستخدمتهم لجمع أبناء القبائل وحبسهم علي ذمة القضية.
الوثيقة تعكس بوضوح حالة اليأس التي وصل إليها أهالي المعتقلين علي ذمة تفجيرات طابا، إلي الدرجة التي تدفعهم للانسلاخ عن الواقع، وتسجيل شهادتهم للتاريخ، بعد أن سدت الدولة آذانها عنهم، وأغلقت في وجوههم كل الطرق، فلم يجدوا أمامهم إلاْ تسجيل موقفهم للأجيال القادمة في رسالة شديدة اليأس والألم تقرأون نصها في السطور القادمة، دون إضافة.
نص الوثيقة:
«نحن أهالي المتهمين في قضية طابا والمحكوم عليهم في تفجيرات سيناء نعلن أننا حاولنا كل ما نستطيع لإنقاذ أبنائنا من براثن اعتقالات ظالمة ومحاكمات ملفقة أكد لنا المحامون أنها لم تلق الإجراءات العادلة التي تكفل لأبنائنا ضمان عدالة الأحكام التي وقعت عليهم، ومنها أحكام بالإعدام والمؤبد، أو ضمانات لعدالة التحقيقات التي يمكن أن تؤدي لأحكام مشابهة لمتهمين آخرين في القضية، وكلها في إطار الطوارئ التي تمنع استئناف أي أحكام جائرة، أو تمنع تعذيب أو أي انتهاكات لحقوق أبنائنا.
كما نعلن أننا لم نجد من مشايخ ورجال عائلاتنا والنواب البرلمانيين السند لنا من أي نوع، بل وجدنا منهم من تبرأ منا تقربا للأمن.
هذه هي أحوالنا، وهذا ما لاقيناه من ظلم وجور منع العدل عن أبنائنا، ومنعهم من محاكمة عادلة، وفوق ذلك لم نجد من يعوض أسرنا وأطفالنا عمن يعولنا، بدلا ممن اعتقل وحكم عليه، رغم أن عيشتنا أصبحت معدمة تماما.
نقدم أحوالنا هذه لأهل سيناء، بل للشعب المصري كله، كملجأ أخير لنا، محذرين إياهم من أن يلقوا نفس المصير».
- الدستور
No comments:
Post a Comment