هلت روائح الغلاء الدوري مع الصيف كالعادة، عندما تشعر بأن الحر يخنقك والعرق يبلل روحك ذاتها، بينما أنت تسمع الأخبار الجديدة.. كيلو الدجاج يتحرك بثقة نحو 22 جنيهًا، والبنزين يرتفع نصف جنيه للتر أي عشرة جنيهات (للصفيحة).. البقال يتحدث عن وثبات قادمة للزيت والمكرونة، مع وعد قاطع بارتفاع أسعار الكهرباء. السجائر تثب وثبة عظمي، وعندما تثب السجائر فلا تتوقع أن هذا سيجعل الحرفي والميكانيكي والسائق وكل حزب (دخاننا يا أستاذ) يقلعون عن التدخين.. إنهم سيأخذون فارق السعر منك أنت.
في الوقت نفسه تقرأ أخبارًا غريبة تدل علي أن المجتمع المصري بدأ يجن أو جن فعلاً....
قراءة صفحات الحوادث تجربة مرهقة جدًا.. مثلاً هناك ذلك الخبر عن الأستاذة الجامعية التي انتحرت بسبب العنوسة، وقد ذهبت لتقيم لدي صديقة فلبينية لها، ثم وثبت من الطابق الثاني حاملة زجاجة في يدها.. لما وجدت أنها هبطت علي الأرض سالمة ولم تمت قامت بذبح عنقها بالزجاجة المهشمة..
> العنوسة موجودة دائمًا، والاكتئاب موجود دائمًا، لكن ما سر هذا الحماس العجيب والإصرار الجهنمي علي إيذاء الذات ؟
- النساء ينتحرن بسبب العنوسة لكن الرجال يتصرفون بطريقة مختلفة نوعًا.
يقول الخبر إن أسيوط شهدت حادثًا بشعًا عندما قام شاب في العقد الرابع من عمره بقطع عضوه الذكري أمام المارة في الشارع. قديمًا سمعنا وشاهدنا الراهب البوذي الذي سكب الكيروسين علي نفسه وأشعل النار أمام مقر الأمم المتحدة احتجاجًا علي حرب فيتنام، لكن هذا الحادث المصري فريد من نوعه. الشاب الفقير- وهو من سوهاج أصلاً - عاش حياة من الضنك واليأس ولم يجد أي فرصة عمل. تزوج كل أصدقائه ورزقوا بأطفال، لكنه وجد جدارًا سميكًا يفصله عن الزواج هو المال ...
من حق أي قط في زقاق أن يتناسل ويكوِّن أسرة، لكن الفتي ليس قطًا للأسف. والحل الذي لجأ له هو نوع من الانتقام العنيف من نفسه أولاً.. والخبر السيئ في الموضوع هو أن استئصال العضو التناسلي أو حتي الإخصاء في هذه السن لن يقضي علي الرغبة الجنسية.. أي أنها ستعذبه لكنه لن يستطيع إشباعها..
ننتقل الآن إلي حادث غير معتاد يعرفه الجميع ..
السائق محمود طه سويلم الذي يعمل بالمقاولون العرب، توقف بحافلة السيارة بمن فيها من موظفين وأخرج بندقية آلية. ونادي المدير المالي ومدير خزانة الشركة وأفرغ فيهما وابلاً من الرصاص، ثم بدأ يطلق النار عشوائيًا (36 طلقة) حتي فرغت الطلقات من سلاحه، من ثم قاد السيارة إلي مقر الشركة ليزعم أن مجهولاً هاجم السيارة وأطلق النار، وهي طريقة غبية للتهرب لأن الحافلة مليئة بالشهود.
عندما قرأت الخبر لأول مرة خطر لي أن ظاهرة الآموك «Amok» بلغت مصر كما بلغها الهامبورجر.. آموك «Amok» مصطلح ذو أصل هندي يدل علي الفيل الهائج الذي يدمر كل شيء. وقد قلت من قبل إن هذا الحدث يتكرر مرارًا في الولايات المتحدة، حيث اقتناء السلاح واستعماله جزء مهم من الثقافة الأمريكية، ومن رأوا فيلم مايكل مور الجميل «لعب البولنج من أجل كولومبين» يعرفون هذه النقطة جيدًا. يبدو أنه من الأحداث اليومية المعتادة هناك أن يقتحم التلميذ مدرسته ليمطر زملاءه بالرصاص، أو يدخل موظف البريد المكتب ليفتك بزملائه ومديريه، حتي إن الأمريكان ابتكروا فعلاً جديدًا يعبر عن هذا العمل «To go postal» أي يتصرف كموظفي مكاتب البريد المخابيل، أو «يجن» ببساطة. في يوم 6 مايو 1993 وقع حادثان منفصلان في مكتبي بريد متباعدين ولا علاقة لأحدهما بالآخر.
لكن التحقيقات في مصر أثبتت والحمد لله أن هذا ليس آموك، لكنه رد فعل مبالغ فيه علي الإهانة.. إن البندقية الآلية عند القاتل منذ ثلاث سنوات بعدما اشتراها من أمين شرطة، وكان ينوي أن يحمي بها نفسه بعدما انتشرت ظاهرة التنقيب عن الآثار، حتي بدأ البعض ينقبون تحت بيته ذاته في منطقة عرب غنيم بحلوان. ثم ازدادت المشكلة تعقيدًا مع الإهانات والسخرية منه. هناك دروس مستفادة كثيرة من هذه القصة؛ منها أن أمناء الشرطة مصدر ممتاز للبنادق الآلية، وأن التنقيب عن الآثار صار نشاطًا بشريًا شائعًا، وأن عليك عندما تستفز رجلاً أن تتأكد من أنه لا يملك بندقية آلية.. أو كما يقول الأمريكان: لا تعبث مع السائق الخطأ..
لكن يظل السؤال معلقًا عن مدي عنف ووحشية هذا الرد علي إهانات ... الأمر غريب.. فتاة تذبح نفسها لأنها لم تتزوج، وفتي يقطع عضوه لنفس السبب، وسائق يفرغ الرصاص في زملائه لأنهم أهانوه ..
الجواب الذي وجدته هو الضغط الذي يولد الانفجار. المجتمع المصري لم ينفجر بعد لأن هناك ثقوبًا كثيرة تخرج الغضب.. صحف المعارضة تتكلم براحتها والبرامج الفضائية.. دعك من ثقب هائل اسمه المدونات وردود الإنترنت، حيث ينفجر الناس بالشتائم كما يريدون.
من الغريب أن حرية الكلام هذه - وهذا رأيي المتواضع - بددت الكثير من الضغط القادر علي رفع غطاء الغلاية. عندما ارتفعت الأسعار بضعة قروش في 18 و19 يناير عام 1977 لم تكن هناك منافذ في الغلاية سوي الغطاء. أما اليوم فالضغوط تخرج من مئات الثقوب فلا تؤدي إلي شيء، وهذه ليست مطالبة بمنع حرية التعبير عن فكرة لكنها ملاحظة لا أكثر. تذكرت مقالاً طريفًا ساخرًا لبلال فضل يحكي فيه عن صديقه الذي يقول له منذ عام 1985 إن النهاية اقتربت.. لقد حانت الساعة ..ثم قابله بعد عشرة أعوام يطالع عناوين الصحف، فلما رأي «بلال» قال له في انتصار: ألم أقل لك ؟.. النهاية قريبة جدًا وغضبة الشعب قادمة !. هنا لم يدر بلال بنفسه من الغيظ.. فقط وجد بائع الصحف يجره بعيدًا عن صديقه وهو يهدئه: «برضه مهما كان يا أستاذ بلال فيه شتايم عيب قوي تتقال علي الأم !!».
عندما تتزايد الضغوط علي أشخاص لا يهتمون بالإنترنت وليست لديهم مدونات وليسوا صحفيين، فإن ما يفعلونه هو أن ينفجروا في أنفسهم.. يذبحون عنقهم أو يقطعون أعضاءهم أو يفرغون البندقية الآلية في زملاء العمل.. ولأسباب قد تكون عبثية أو واهية. المرض العقلي يلعب دورًا لا بأس به، لكن لماذا تزايد المرض العقلي أصلاً ؟
نحن نعرف أن مشاكلنا كثيرة، وأننا في زمن أغبر، وأن الكلام سهل. الرجل الذي يفهم في الاقتصاد والسياسة الخارجية والداخلية والأمن موجود في كل مكان وعند كل ناصية، بنفس المنطق الذي يجلس به الخبراء في الاستديو المكيف يناقشون أخطاء ميسي وحماقة دروجبا وبطء روني.. لكن ما أعرفه أيضًا هو أن علي إن لم أستطع القيام بعملي أن أتنحي وأعطي سواي الفرصة فلعل لديه حلولاً أفضل. أما منطق (أنا عاجز عن الحل، لكن الويل لك لو طلبت مني الرحيل) فهو منطق صعب الابتلاع فعلاً.
أمامي الآن علي شاشة الكمبيوتر تقرير مجلة «فورين بوليسي» عن الدول الأكثر فشلاً في العالم للعام 2010، وتتصدر الصومال القائمة، بينما مصر في المرتبة 49، وبهذا هي أكثر فشلاً من بوليفيا والفلبين وزامبيا وأنجولا، والدولة العجيبة التي كنا نسمع اسمها في كتب طب المناطق الحارة ونعتبرها جهنم الحمراء (بابو غينيا الجديدة). لكننا والحمد لله أنجح من نيبال بكثير. فقط علينا أن نتكاتف من أجل اللحاق بدولة (بابو غينيا الجديدة) المتقدمة يومًا ما
الدستور
No comments:
Post a Comment