بعد غربة امتدت ١٥ عاما قضاها المفكر والأستاذ الجامعى نصر حامد أبوزيد خارج مصر، عاد ليقضى آخر أيامه فى وطنه، ويلفظ أنفاسه الأخيرة صباح يوم الاثنين الماضى بعد أن أصيب بمرض غريب أفقده الذاكرة، وعجز الأطباء عن تشخيصه.
وقد عرفت خبر وفاته من صديق سورى اتصل بى صباح يوم الاثنين الماضى ليقول إن صديقه وأستاذه نصر حامد أبوزيد قد توفى، وإنه سيأتى إلى القاهرة فجر الثلاثاء خصيصا للتعزية فى وفاته فى قريته وحضور العزاء فى مسجد عمر مكرم.
والمفارقة أن صديقى هذا هو أيضا يعيش فى الغربة، فهو نجل الرئيس السورى السابق نور الأتاسى (حكم سوريا من ١٩٦٦: ١٩٧٠) وسجنه الرئيس الراحل حافظ الأسد بعد انقلابه العسكرى فى ١٩٧٠، وأبقاه فى السجن ٢٢ عاما حتى وفاته عام ١٩٩٢.
وقد عرفت على الأتاسى فى باريس منذ التسعينيات حين كنا ندرس هناك، إلى أن عدت أنا لمصر وذهب هو لبيروت ليعيش فيها، ويكتب فى صحيفة النهار اللبنانية بالإضافة إلى عمله كباحث، ولم يحل عدم وجودنا فى بلد واحد دون استمرار التواصل بيننا والتلاقى من حين لآخر فى أرض الله الواسعة.
ودهشت من تلك العلاقة العميقة التى ربطت الراحل باثنين من أصدقائى السوريين المقيمين خارج سوريا أحدهما نجل رئيس سابق (لا علاقة له برؤسائنا الحاليين)، والثانى هو حفيد مفكر إسلامى واجه الاستبداد وهو سلام عبدالرحمن الكواكبى، وكلاهما كان إحساسه بالغربة عميقا وبنصر حامد أبوزيد أكثر عمقا، وكانا دائما يتحدثان عنه بإيجابية شديدة، بل إن سلام المقيم فى باريس بدأ فى التدريس مؤخرا فى نفس جامعة عالمنا الراحل فى هولندا، وعايش الرجل عن قرب، وكان حديثه عنه عظيما ومؤثرا فى نفس الوقت، بصورة جعلت شخصا مثلى يحبه ويحترمه دون أن يقابله ولو مرة واحدة.
ورحلة أبوزيد هى نموذج مشرف للنجاح، وتوضح الفارق بين «مصرين» إحداهما سمحت لأبن أسرة ريفية بسيطة من قرية قحافة بمحافظة الغربية أن يرتقى فى السلم الاجتماعى من دبلوم المدارس الثانوية الصناعية (قسم اللاسلكى) عام ١٩٦٠، إلى طالب ثم خريج ثم حاصل على الدكتوراه من كلية الآداب جامعة القاهرة قسم اللغة العربية فى عام ١٩٧٩، ثم أستاذا زائرا بجامعة أوساكا باليابان بين عامى ١٩٨٥ و١٩٨٩.
ولم يهنأ الراحل طويلا بمصر المستنيرة العاقلة التى تعلم وارتقى فى سلمها الاجتماعى والعلمى بمجهوده وكفاءته دون عوائق طبقية أو مادية تذكر، وسمحت لأمثاله من خلال قيم شجعت على العلم والجهد والعرق الفقراء ومتوسطى الحال بالارتقاء والتطور، قبل أن ينهار التعليم ويختفى معه قيمة الجهد والعرق، وتهجم علينا «مصر الجديدة» الجاهلة والكارهة للعقل والمتصالحة مع تخلفها.
وحين قدم الرجل أبحاثه للحصول على درجة أستاذ اتهمه بعض زملائه فى لجنة «علمية» شكلتها جامعة القاهرة «بالكفر» بناء على ما فهموه من أبحاثه وكتبه المقدمة للحصول على الدرجة، ووقع ما لم يمكن تخيله فى أى بلد فى العالم فى العصر الحديث، وهو رفع دعوى تفريق بينه وبين زوجته، وصدر الحكم بالتفريق فى مشهد تقبلته الدولة بتبلد نادر، ونقلنا بامتياز إلى غياهب القرون الوسطى، واضطر معه الرجل إلى مغادرة وطنه إلى هولندا منذ ١٩٩٥.
ولمن لا يعرف فإن لنصر حامد أبوزيد كتباً عديدة منها الاتجاه العقلى فى التفسير، دراسة فى قضية المجاز فى القرآن عند المعتزلة، ودراسة فى تأويل القرآن عند محيى الدين بن عربى، وهما رسالتاه للماجستير والدكتوراه، ومفهوم النص.. دراسة فى علوم القرآن، والإمام الشافعى وتأسيس الأيديولوجية الوسطية، ونقد الخطاب الدينى، وقراءة فى خطاب المرأة، والتفكير فى زمن التكفير.
ورغم أنى لا أدعى أنى قرأت كل أعمال الراحل القديمة، إنما معظم ما كتبه منذ أن أجبر على الرحيل إلى جامعة هولندا عام ١٩٩٥، واختلفت مع بعض ما وصل إليه من استنتاجات، ولكن لم أتخيل أن قضية الاتفاق والاختلاف أو حتى ما يسميه البعض «بالانحراف» الفكرى والدينى هو أمر يستدعى التكفير والتفريق بين الزوج والزوجة، وهى جريمة حقيقية لن تغفر لنا جميعا.
والحقيقة أن كارثة ما جرى لنصر حامد أبوزيد لا تكمن فى رفض الجامعة لآرائه، إنما فى أن من يتعامل معها من المفترض أنهم أساتذة جامعة تعاملوا معها على أنها آراء كافرة، وتحولوا من علماء إلى شىء أسوأ من كهنوت القرون الوسطى، وهو أمر لم يكن يتصور أشد الظلاميين إمكانية حدوثه فى جامعة القاهرة.
وجاء الحكم الأصعب وهو التفريق بين الرجل وزوجته، فإذا افترضنا أن نصر حامد أبوزيد غير مؤمن، (وهو اتهام غير صحيح ولا يحتاج فيه الرجل لشهادة من أحد لأنه صار بين أيادى الله)، واختارت زوجته بمحض إرادتها أن تعيش معه، فهل هناك أى سلطة فى الكون من حقها أن تتنطع بهذا الشكل المهين على حياة الرجل وتفرض على شريكة حياته أن تتركه؟.
المذهل أن كل من انبروا بكل هذا الحماس لمحاربة الرجل واستدعاء «كوكتيل» نادر من الإرث التكفيرى والظلامى أزعجهم فقط اجتهاده العلمى، فى حين لم يفرق معهم تخلف مصر الاقتصادى وفسادها وسوء أوضاعها السياسية وفقر شعبها وتراجع جامعاتها وأداء مؤسساتها، واعتبروا كل هذا ليس ضد الإسلام، إنما فقط بعض الأبحاث التى سلاحها القلم والورقة هى التى ستهدد هذا الدين العظيم الذى عاش لقرون وآمن به مئات الملايين من البشر، و بنى واحد من أهم الحضارات الكبرى فى تاريخ الإنسانية قبل أن يجثم من كفروا أبوزيد على عقول المسلمين.
إن تواطؤ الدولة مع ما حدث، ومسؤوليتها عن شيوع هذه الثقافة الظلامية داخل المجتمع، وسيادة نمط من التدين المغشوش ينبرى فيه الناس للدفاع عن كل ما هو شكلى وترك كل ما هو جوهرى، أدى فى النهاية إلى استقالة العقل المصرى أو إقالته، وسطوة «كباتننا الرياضيين» وخبرائنا الممثلين، ونجومنا من الدعاة الجدد والقدامى على عقول الناس، وأصبحنا على ما نحن فيه لا نسر عدواً ولا حبيباً.
ستظل رحلة غربة أبوزيد دليل إدانة لنا جميعا، وتؤكد عمق مأساتنا وغيبوبتنا، وما لم نستعد دولة العقل والقانون، فإننا سنفقد ليس فقط ما تبقى مما بيناه فى قرنين، إنما أيضا أى قدرة على صناعة أى مستقبل.
د. عمرو الشوبكى -Almasry Alyoum
No comments:
Post a Comment