يوم الأحد ٢٥ أبريل ٢٠١٠ سألنى المذيع فى القناة البريطانية العربية (بى.بى.سى) عن الحدود المسموح بها لنقد الأديان والشخصيات الدينية الكبرى مثل بابا الفاتيكان.. كانت جريدة بريطانية قد نقدت البابا بطريقة ساخرة مما اضطر الحكومة البريطانية للاعتذار إليه، هكذا تفجر الجدل فى الإعلام حول حدود النقد. قلت فى البرنامج على الهواء إن الذى يضع حدود النقد هو الكاتب نفسه أو الكاتبة نفسها، ليس من حق أى سلطة خارجية أن تفرض حدود الفكر والنقد فى مجال الدين أو أى مجال آخر، ليس هناك مقدسات أمام العقل الإنسانى، ولا يعلو شخص على النقد. كان معى فى البرنامج «مطران» واسع الأفق وافقنى الرأى، لكنه قال إن هناك سلطة خارجية، هى الذوق العام، أو المشاعر العامة للشعب، تحدد حرية الكاتب أو الكاتبة، فى النقد خاصة فى مجال الأديان، وقال إن المفروض ألا يخدش الكاتب أو الكاتبة الذوق العام ويحترم مشاعر الجماهير.
قلت بالطبع هناك فرق بين النقد الموضوعى العلمى والشتيمة أو القذف، لكنى أرى أن دور الرواد المفكرين والرائدات هو تغيير العقول والمشاعر العامة للجماهير، والارتفاع بالذوق العام وتغييره إلى الأرقى والأعدل، وليس الخضوع له أو نفاقه للحصول على الأصوات فى الانتخابات أو مصالح أخرى..
لولا حرية النقد (فى العصور الوسطى مثلا) ما تمت النهضة العلمية فى أوروبا، لولا انهزام الفكر الدينى الكنيسى أمام نقد العلماء ما ظهر هذا التليفزيون الذى نتكلم فيه الآن، ولا الطائرة ولا الكمبيوتر ولا التكنولوجيا الحديثة التى لا غنى عنها.
وافق المطران على هذا الكلام المنطقى لكنه تمسك بالدفاع عن قداسة بعض المقدسات، وأنه لا تعارض بين الإيمان بالدين والعلم، لكنه رأى أن حرية النقد لا حدود لها فى مجال الطب مثلا، والطب «علم بشرى» لكن الدين «علم إلهى».
عدت إلى البيت بعد البرنامج، سألتنى منى: لماذا قطع الحوار دون حل المشكلة؟ قلت: انتهى وقت البرنامج، ثم ما المشكلة التى لم تحل؟
قالت منى: هل ترين تشابهاً بين كهنة القرون الوسطى وبعض رجال الأديان فى هذا القرن الواحد والعشرين؟
قالت نوال: نحن نعيش مرحلة الردة فى العالم كله شرقا وغربا، إنها ردة سياسية اقتصادية تواكبها ردة فكرية وثقافية، بسبب تصاعد اليمين الرأسمالى العسكرى الدينى، هذا الجدل الحامى فى أوروبا حول قدسية بابا الفاتيكان، واعتذار الحكومة البريطانية له، هذا الجدل غير النهائى عن النقاب أو الحجاب أو بناء الكنائس أو الجوامع أو المآذن أو المنارات، هذه الحروب اللانهائية الاستعمارية التى تتم تحت اسم الله لنهب البلاد، هذه الفتن الطائفية والدينية التى تشتعل لأتفه سبب أو لا سبب لضرب وحدة الشعوب.. لقد أصبح الدين سيفا مصلتاً على الرقاب، تحول الدين من قيم عادلة إلى طقوس ولغو كلام، كما كان فى الأزمنة القديمة، انتهى بنا الأمر اليوم إلى أديان يمكن أن نسميها «لغوية» تتطاير فى الفضائيات.
منى: أصبح الناس يلجأون لفتاوى رجال الدين لمعرفة كيف يتصرفون فى حياتهم اليومية، وفى علاقاتهم الحميمة داخل الأسرة والسرير، بل داخل دورة المياه، كثير من الناس يتحيرون يبحثون عن حلول لمشاكلهم الصحية من خلال الدين وليس الطب؟
نوال: أتلقى كثيراً من الرسائل من رجال ونساء وشباب يبحثون عن الطريق الصحيح مائة فى المائة، والحقيقة أنه ليس هناك طريق صحيح مائة فى المائة، الإنسان العاقل قادر على حسن التصرف دون أن يتأكد مائة فى المائة أنه يفعل الصحيح، يجب أن يترك الإنسان مكانا للخطأ أو الشك فيما يعتقد أنه الصحيح، لكن يجب أن يكون سريع البديهة قادرا على التصرف السريع رغم الشك أو عدم اليقين، ومن هنا تأتى أهمية تربية الطفل منذ البداية على الثقة فى عقله وبديهته وحدسه، وقدرته على التنبؤ بما سيحدث، التعليم الجيد ينمى القدرة الفكرية الإبداعية، كيف يحسن الإنسان التخمين وترجيح فكرة على فكرة، أو تصرف على تصرف آخر، التعليم الجيد يشجع الشباب على حسن التصرف والإبداع والتنبؤ دون أن يكون لديهم اليقين الكامل فى صواب ما يعتقدون أو ما يفعلون.
منى: لكن إن نزعنا من الناس الثقة أو اليقين الكامل فيما يخص العقيدة أو الإيمان الدينى أفلا يؤدى ذلك إلى اضطرابهم أو بلبلتهم؟
نوال: ربما يحدث لبعض الناس بعض الاضطراب أو بعض البلبلة لكنها ضرورية لنمو العقل وتطوره، يلعب التعليم الجيد فى الطفولة دورا فى حماية الإنسان من الاضطراب حين يشك فى عقيدة أبيه أو أمه، أو الحزب السياسى الذى تربى فيه منذ الصغر، التعليم الحر الذى يفتح عقل الطفل والطفلة على عقائد متعددة ونظريات مختلفة فى الدين والعلم، هذا التعليم المبكر هو الذى يحمى الناس من الصدمة التى تصيبهم حين يساورهم الشك فى صلب ما يعتقدون.
منى: أنا أشك إذن أنا موجود؟
نوال: القدرة على الشك مع حسن التصرف تدريب ذهنى لا بد أن يبدأ فى الطفولة حتى آخر العمر، إنه يساعدنا على التواضع الفكرى، ندرك بفضله خطأ الكثير من أفكارنا التى تصورنا من قبل أنها صحيحة مائة فى المائة.
منى: إذا لم يكن اليقين الكامل إيجابيا لتطور العقل فكيف ترين مستقبل العقائد اليقينية السياسية والدينية، أعنى الأيديولوجيات الفكرية والسياسية الراهنة القائمة على الولاء الكامل أو الطاعة العمياء أو الإيمان المطلق؟
نوال: يمكن التنبؤ أن المستقبل الإنسانى سيصل إلى مراحل أعلى من العدالة والحرية والإنسانية عن طريق الشك والتغيير والإبداع، وليس عن طريق التعصب واليقين المطلق، هذا لا يمنع بعض الانتكاسات أو الردة، كما نعيشها اليوم، لكنها مرحلة مؤقتة تتبعها نهضة، ثم ردة، ثم نهضة، وهكذا تسير الحياة نحو التقدم والازدهار وليس الـتأخر والموت، الحياة طبيعتها الاستمرار والتغير والتقدم، رغم إرادة أهل السياسة والعقائد الثابتة.
منى: أنت متفائلة وعندك أمل كبير فى المستقبل؟
نوال: الأمل قوة دافعة نحو الحياة المبدعة، دون الأمل نموت وتموت الحياة.
نوال السعداوى
المصرى اليوم
No comments:
Post a Comment