استمعت للصادق المهدى زعيم حزب الأمة ورئيس الوزراء السودانى السابق مرتين فى يوم واحد.
ففى صباح الخميس الماضى كان المهدى ضيفاً على المجلس المصرى للعلاقات الخارجية – الذى أتشرف بعضويته – وأدار السفير المحنك عبد الرءوف الريدى حواراً بديعاً بين الزعيم السودانى وبين أعضاء المجلس.
وفى المساء تحدث المهدى إلى كوكبة من المثقفين المصريين فى ندوة "شعبية" استضافها "مقهى ريش" العريق وأدارها الزميل الباحث والكاتب المحترم نبيل عبدالفتاح.
وبين الأجواء شبه الرسمية فى النادى الديبلوماسى الذى احتضن الحوار الأول والأجواء "الأهلية" فى "مقهى ريش" قدم الصادق المهدى تحليلاً مفصلاً ومعمقاً للأوضاع فى السودان الشقيق فى أعقاب "الانتخابات" الأخيرة التى أسفرت عن إعلان فوز الرئيس عمر البشير فى السباق الرئاسى الذى قاطعته معظم القوى السياسية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. أما الحزبان اللذان لم يشاركا فى المقاطعة فقد اعلنا عدم اعترافهما بالنتيجة "المزورة" حسب رأيهما.
وعلى عكس كافة بلاد العالم التى تعتبر فيها الانتخابات أحد أهم الآليات لتعبير الشعوب عن إرادتها بحرية وتحديد خياراتها لبضعة سنوات قادمة من خلال تداول سلمى وسلس للسلطة، تنفرد بلادنا العربية بأن الانتخابات – إذا جرت فيها أصلا – تتحول إلى مناسبة إضافية للنكد القومى وتعميق الخلافات الداخلية وتعريض السلم الأهلى والسلام الاجتماعى للخطر.
أى أن الانتخابات بدلاً من أن تكون جزءاً من "الحل"، تصبح – لدينا – جزءاً من "المشكلة"، وبدلاً من أن تكون "عرسا ديموقراطيا" – كما يحدث فى مشارق الأرض ومغاربها - تتحول لدينا إلى "مأتم" للحريات!!
وأسباب ذلك كثيرة، من بينها عدم وجود توافق وطنى على "قواعد اللعبة" أصلاً، الأمر الذى يفتح أوسع الأبواب لتزوير إرادة الناخبين والعبث بصناديق الاقتراع.
والانتخابات التى جرت فى السودان مؤخراً نموذج صارخ لذلك، وفى رأى الصادق المهدى أنها ستعمق مشاكل السودان وأنها ستزيد الانقسام فى الجسم السودانى.
فهذه الانتخابات لم تحسم قضية السلطة لأن قوى المعارضة – بكل أطيافها – ترفض نتائجها ولا تعترف بها.
كما أن تداعياتها بالنسبة للعلاقة بين الشمال والجنوب ستكون كارثية لأنها لا تمهد الأرض لانفصال الجنوب عن الشمال فقط، بل ستعمل أيضاً على أن تكون الدولة الجنوبية المنفصلة "معادية" لدولة الشمال وذلك نظراً لأن المؤتمر الوطنى الحاكم فى الشمال والحركة الشعبية المتحكمة فى الجنوب بينهما ما صنع الحداد.
ونفس الشئ سيحدث فى دارفور حيث لا تعترف كل الفصائل النشطة بنتائج هذه الانتخابات، لأنها ببساطة لم تشارك فيها.
ويتوقع الصادق المهدى كذلك أن تكون لهذه الانتخابات تداعيات سلبية على الحريات.
فضلاً عن أن السودان سيكون "بطة عرجاء" فى التحركات الإقليمية والدولية، فى كافة القضايا السياسية والاقتصادية، وحتى فى قضية النزاع مع دول المنبع حول مياه نهر النيل، لأن رئيس السودان "المنتخب" مطلوب للعدالة وللمثول أمام المحكمة الجنائية الدولية. وسيؤدى ذلك إلى شل حركة بلاده على الصعيد العالمى والإقليمى.
وليس غريبا بعد ذلك أن أصبح السودان "ملطشة" لكل من هب ودب، فهذا البلد الذى لم يكن به قبيل استقلاله عام 1953 سوى خمسة آلاف جندى بريطانى أصبح فيه الآن – فى ظل حكم البشير – أكثر من 30 ألف جندى أجنبى رغم أعلام "الاستقلال" التى ترفرف فى سماء الخرطوم، ووحدة التراب الوطنى تتفسخ والسودان ينقسم بينما حزب البشير يزهو بتطبيقه للشريعة حتى لو كان ثمن ذلك تقطيع أوصال الوطن وتقسيمه.
هذا الانفصال الوشيك المتوقع فى غضون شهور قليلة سيؤدى إلى كوارث، ليس إلا واحداً منها انتقال الثروة البترولية إلى سلطة دولة الجنوب وحرمان الشمال منها، علماً بأن هذه الثروة البترولية كانت أحد أهم أدوات تثبيت حكم البشير الذى تصرف كما لو كان السودان "كويت أفريقية". فماذا عساه يفعل بعد أن يحرم من الدجاجة التى تبيض ذهبا خاصة وأن 61% من الموازنة العامة للدولة تذهب إلى القوات المسلحة والشرطة وأجهزة الأمن؟!
***
هذه التكهنات الكئيبة للمستقبل القريب للسودان الشقيق تهمنا فى مصر من أكثر من زاوية.
الزاوية الأولى: أن ما يحدث فى السودان تنعكس آثاره على مصر سلبا أو ايجابا بحكم التاريخ والجغرافيا. وبالتالى فإن استمرار السودان موحداً أمر مختلف فى نتائجه تماما عن تقسيم السودان من حيث تداعياته الاستراتيجية على مصر.
الزاوية الثانية: أن "الدور" المصرى كان عاملاً مهما فى المعادلات السودانية من قبل. لكن هذا الدور "غاب" تماما فى السنوات الأخيرة التى شهدت تغيرات دراماتيكية فى السودان، لعل أهمها اتفاق 2005 دون حضور مصرى.
ولاشك أن غياب الدور المصرى فى السودان يخلق "فراغاً". ولأن الطبيعة تكره الفراغ فإن قوى أخرى تزحف لسد هذا الفراغ، وهذا من شأنه أن يزيد من تعقيد مشاكل مصر الاستراتيجية مستقبلا.
الزاوية الثالثة: أن مصر الرسمية دأبت فى العقود السابقة على التعامل مع الشأن السودان من خلال بوابة الحكم فقط – أياً كانت طبيعة هذا النظام الحاكم – ودون الاهتمام بالقوى السودانية الحية والمتعددة والمتنوعة – وقصرت تعاملها على الجوانب السياسية – بل وربما الأمنية فقط – دون الاكتراث بالجوانب الأخرى وخاصة الجوانب الثقافية والشعبية. واستمرار هذه السياسة ضيقة الأفق وقصيرة النظر يمثل تهديداً للمصالح المصرية.
الزاوية الرابعة: أنه رغم الاختلاف الكبير بين ظروف مصر وظروف السودان فان الانتخابات السودانية الأخيرة تدق لمصر نواقيس التنبيه، خاصة وأن مصر تتأهب لدخول انتخابات ربما تكون الأهم فى تاريخها الحديث.
ودروس الانتخابات السودانية كثيرة.
فإجراء الانتخابات مسألة مهمة بلاشك. لكن العملية الانتخابية يمكن أن تتحول من نعمة إلى نقمة إذا ما أسئ استخدامها.
فليس المهم فقط إجراء الانتخابات، وإنما الأهم أن تحظى نتائج هذه الانتخابات باحترام كل الأطراف، بل واحترام "الخاسرين" قبل "الرابحين". ولا يحدث هذا من فراغ، بل يأتى نتيجة توافق وطنى على "قواعد اللعبة" أولاً وقبل كل شئ. وأول هذا القواعد ألا يكون الخصم حكماً وألا يكون هناك تماهيا بين الدولة وبين أى طرف من أطراف العملية الانتخابية. وأن يكون هناك تكافؤ فى الفرص بين الجميع. وأن يكون هناك قبولاً بمبدأ تداول السلطة.
أما أن يركب أحد الأطراف رأسه، وأن يتحصن بوجوده فى الحكم لتسير "اللعبة" على هواه، أو تفصيل إجراءات العملية الانتخابية على مقاسه، فإن ذلك سيضمن له الفوز سلفاً لكنه لا يحل المشكلة، وإنما يفاقم الأزمة ويصب مزيداً من الزيت على النار، لأن "شرعية" نتائج هذه الانتخابات تظل مطعوناً فيها من اللحظة الأولى.
والعامل المشترك بين ما يحدث فى مصر الآن وما حدث فى السودان بالأمس القريب – رغم أوجه الاختلاف العديدة – هو أن السجال مازال دائراً حول قواعد اللعبة أصلاً.
ولا ينبغى التهوين من شأن مثل هذا السجال، أو التعامل معه بصورة بيروقراطية، أو بمنطق "الاستقواء" الداخلى أو الخارجى، وإنما بمنطق الحوار الوطنى النزيه الذى تحركه الرغبة المخلصة لتعزيز السلم الأهلى والسلام الاجتماعى.. كمقدمة ضرورية لا غنى عنها لاستعادة الدور المصرى، فى وقت تتعاظم فيه التحديات الاقليمية والدولية.. والتى ليست مياه النيل إلا واحدة منها.
فهل نستمع لصوت العقل ونكف عن اجترار الشعارات الخشبية التى لا تستهدف أكثر من التبرير واستيفاء الشكل مهما كان المضمون عفناً ورائحته تزكم الأنوف؟!
This blog is dedicated to Egypt .... home I adore and to all sincere Egyptians who are looking forwards to live in free democratic secular nation كل زوار الموقع مدعوون الى نشر آراءهم و تعليقاتهم
Wednesday, June 09, 2010
يحدث فى العالم العربى فقط: الانتخابات تغتال الديموقراطية
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment