Wednesday, June 09, 2010

صرخة احتجاج من قلب الصعيد الجوانى

دون لف أو دوران .. يجب علينا – نحن الصحفيين والاعلاميين المصريين – أن نعترف بأننا شركاء فى جريمة إهمال صعيد مصر، الذى يعانى – تاريخيا – من الظلم الاقتصادى الاجتماعى، وجئنا نحن فقمنا بزيادة الطين بلة وأضفنا إليه التهميش الاعلامى.
وهو ما عبرت عنه خلود محمد فى صحيفة "الصعايدة" الالكترونية بقولها أنه "يبدو أن اهتمام الصحف القومية والمستقلة بأخبار الصعيد لا يتعدى حوادث الثأر وبعض أخبار العلاقات العامة وما يرد من دواوين السادة المحافظين وليس كما يطمح أهله بمناقشة مشكلاته وعمق تفاصيل همومه. وكأن شارع الصحافة لا توجد به منافذ لا تؤدى ولا ترتبط بالصعيد إلا من خلال الجرائم وبعض الأخبار الساذجة عن خطط المشروعات التى تدور فى أذهان السادة المحافظين وأنشطة بعض الجمعيات الأهلية وغيرها".
هذه الرؤية "الانطباعية" لمراسلة "الصعايدة" تؤكدها دراسة تحليلية مقارنة للصحف القومية والحزبية والخاصة عن "حدود التعدد فى المصادر وآليات تشكيل أجندة الأخبار الداخلية فى الصحف المصرية" قام بها الدكتور محمد سعد أحمد إبراهيم الأستاذ بقسم الأعلام ووكيل كلية الآداب بجامعة المنيا، قدمها فى الملتقى الاعلامى الأكاديمي "الصعيد على أجندة الاعلام المصرى" الذى نظمته جامعة المنيا يوم الخميس الماضى برعاية الدكتور أحمد ضياء الدين محافظ المنيا والدكتور ماهر جابر محمد رئيس الجامعة، وتم توجيه الدعوة للمشاركة فى أعمال هذا الملتقى لعدد من القيادات الاعلامية كان لى شرف التواجد بصحبتهم.
وقد خلصت دراسة الدكتور محمد سعد إبراهيم، مقرر الملتقى، إلى أن هناك "اختلالا فى توازن التوزيع الجغرافى فى حركة المصادر ونطاق التغطية الاخبارية فى الصحف المصرية - على اختلاف أشكال ملكيتها – حيث تستحوذ القاهرة وحدها على ما يقرب من نصف إجمالى حجم الأخبار المنشورة، وهو ما يمكن تفسيره بخصوصية الموقع السياسى والاجتماعى والثقافى للعاصمة كمقر للحكم والسلطات الثلاث، ومحورا للنشاط السياسى والاقتصادى والثقافى".
كما تعكس نتائج الدراسة "الاختلال فى تدفق المعلومات على المستوى القومى، ومن ثم تناقص حجم المعلومات المتاحة عن واقع قطاعات عريضة من المجتمع" يحظى "الصعايدة" بنصيب الأسد منه.
وكأنه لا يكفى أن يكون للصعيد نصيب 794 من قائمة القرى الألف الأكثر فقرا فى مصر، فنأتى نحن الاعلاميين والصحفيين ونمنحهم أيضاً مركز الصدارة فى التعتيم الاعلامى والتجاهل الصحفى!
***
وليست هذه النتائج بالاكتشافات الجديدة، وإنما هى حقائق معروفة منذ سنوات وعقود. لكن التعبير عنها كان يتم فى الأغلب الأعم من خلال شكاوى فردية.
الجديد أن الصرخة هذه المرة جاءت من خلال واحدة من أهم المؤسسات الأكاديمية فى الصعيد، ألا وهى جامعة المنيا، ومن خلال دراسة تحليلية تم مواجهة قيادات إعلامية "قاهرية" بها وفتح حوار حر حولها مع مئات من الطلبة والطالبات وعشرات من أعضاء هيئة التدريس.
***
وقد كان هذا الحوار تجربة مهمة جدا بالنسبة لى شخصياً، حيث لاحظت ارتفاع درجة وعى الأجيال الشابة المتهمة دائماً بالسطحية والعزوف عن الاهتمام بالشأن العام.
وجاءت المناقشات الحية لتقدم لنا وجها آخر لهؤلاء الشبان المظلومين ظلم الحسن والحسين.
***
هذا التهميش لصعيد مصر لا يمثل جريمة إعلامية لـ "الصعايدة" فقط، وإنما يمثل أيضاً إهانة لعقل مصر بأسرها، كما يمثل أحد أوجه الخلل التى يعانى منها الاعلام والخطاب الاعلامى المصرى فى الوقت الراهن.
فهو خطاب "قاهرى" إلى حد بعيد، يهتم بأحوال العاصمة على حساب الاهتمام بأحوال المصريين خارج القاهرة، قبلى وبحرى. وليس "الصعايدة" هم المهمشين الوحيدين إعلامياً، وإنما هو نفس وضع إخوتنا وأخواتنا فى سيناء وأخوتنا وأخواتنا أبناء النوبة.. رغم أن هؤلاء وأولئك قدموا تضحيات عظيمة من أجل الوطن، حيث ضحى السيناويون بدمائهم من أجل استقلال البلاد عبر كل الحروب مع العدو الإسرائيلى، وحيث ضحى النوبيون بمسقط رأسهم وموطن ذكرياتهم من أجل ترويض نهر النيل وإجراء أكبر جراحة جغرافية له وبناء أكبر بنك مائى يؤمن للمصريين احتياجاتهم من المياه بعيداً عن المخاوف من موجات الجفاف أو غوائل الفيضان.
وبدلاً من أن نكافئ هؤلاء على تضحياتهم أعطيناهم جزاء "سنمار".
نفس الشئ فعلناه مع أبناء الصعيد الذين قدموا أعظم الاسهامات فى بناء الحضارة المصرية عبر القرون، والذين كانوا ومايزالون فى مقدمة البنائين العظام ولم يحصلوا على شئ سوى التجاهل والإهمال!
***
مثل هذه السياسات المهينة لا تساعد على تعزيز الاندماج الوطنى، وإنما تعمل على تنشيط فيروس التفكك، الذى هو بمثابة "إيدز" سياسى واقتصادى واجتماعى وثقافى مدمر.
ومن غير المفترض أن يكون الاعلام الواعى جزءا من "المشكلة"، بل الأولى به أن يكون جزءا من "الحل".
وهناك بوادر مبشرة لمبادرات إعلامية تشير إلى توجهات إيجابية بهذا الصدد.
منها الملتقى الاعلامى الجاد المشار إليه الذى احتضنته جامعة المنيا.
ومنها مبادرة الزميل "الصعيدى" أبو العباس محمد الذى أطلق صحيفة "الصعايدة" الالكترونية على شبكة الانترنت بجهود ذاتية تستحق التحية والإشادة.
فضلاً عن إنشائه لجماعة "الهجرة على الجنوب" التى تستهدف الاهتمام الجدى بجنوب البلاد عبر آليات محترمة ودائمة وليست موسمية.
ومنها كذلك مبادرة الفنان التشكيلى الكبير عدلى رزق الله الذى أصر على الاحتفال بـ "سبعينيته" من خلال معرض "الصعيدى والصعيديات" الذى يقدمه بقوله "صعيدى حتى النخاع، رغم أننى قضيت فى أبنوب الحمام – مسقط رأسى – الخمس سنوات الأولى فقط، ثم هاجرت الأسرة إلى القاهرة .. صعيدى وهذا أولاً . إبن بلد تربى فى حوارى القاهرة ودروبها .. وهذا ثانيا. مثقف مصرى تقاسم مع كتاب وشعراء وفنانى جيله المعرفة والعلم وهذا ثالثا. حضارة العالم حضارتى، ساهم فيها جدى الأول بأول حضارة زراعية، استقر بفضلها الأنسان وبنى مدينته، وساهم الجميع بحضارات توالت حتى وصلنا إلى القرن الحادى والعشرين. أنتمى إلى تلك الحضارة ولا أقتصر على الموروث بشكله العتيق والمحدود، وإن كنت أتباهى به لنفسى وللآخرين".
ويستطرد عدلى رزق الله "إخترت الصعيديات لتكون هديتى إلى أهلى وناسى وإلى من أحبها قلبى ، وآثرها، مصر الحبيبة، إلى طهطا، بلدة "رفاعة الطهطاوى" أستاذ التنوير الأول، فلتكن طهطا هى أول محطة صعيدية فى الرحلة. ثم اخترت الأقصر وأسوان لكى أحتفى مع الناس البسطاء الطيبين بأعمال استلهمت حياتهم وطبيعتهم". وإلى هؤلاء "الصعايدة" أهدى عدلى رزق الله معرضه وكلماته.
ولا يمكن أن نتحدث عن مبادرة الفنان التشكيلى الكبير عدلى رزق الله دون الإشادة بدور أحمد مجاهد رئيس الثقافة الجماهيرية الذى أنار الضوء الأخضر لمبادرة عدلى رزق الله وفتح قصور الثقافة المهجورة أمام نور الابداع ولعل الفنانين والأدباء المصريين يفعلون ما فعله رزق الله من أجل إعادة الاعتبار إلى جذورنا.
***
إذن .. الصورة ليست قاتمة بالمطلق، وإنما هناك مصابيح مضيئة هنا وهناك.. لا يجب أن نتركها متفرقة ووحيدة فى وجه عواصف التخلف وجحافل الظلام.
***
حاشية لابد منها: كاتب هذه السطور ليس صعيدياً.. وبالتالى لا يمكن اتهامه بالتحيز القبلى لـ "الصعايدة".

سعد هجرس
hagrassaad@hotmail.com
الحوار المتمدن

No comments: