مازلت أبحث عن وطن، أو بدل فاقد، أو حتى بدل تالف، أو بدل ما أفرقع.. لم يعد هذا الوطن وطنى.. إنه شقة مفروشة، وطن يشبه الزنزانة.. لا شىء فيه يشبه الوطن.. على الباب سجان، وعلى الناصية مخبر سرى.. يعتقل الشباب ويقتل الأطفال، ويتحرش بالنساء، بدعوى حماية الأمن، وبدعوى الطوارئ.. شوف كنا فى إيه، وصبحنا فى إيه!
أغرب شىء أن الذين هربوا من الوطن، إما أنهم ماتوا غرقاً فى البحر، وإما أنهم ماتوا خوفاً من ترحيلهم مرة أخرى إلى جحيم اسمه الوطن.. أما الذين رابطوا فقد ماتوا سحلاً فى أقسام الشرطة، وفى كل مرة يصدر بيان يتهم المجنى عليه، بأنه خارج على القانون، مع أننا لم نعرف من قبل أن شعباً قد انتفض من أجل شاب فاسد، ولم نعرف أن شعباً ثار من أجل شاب يتعاطى المخدرات.. لكنها الأكاذيب الرسمية!
فما الفرق بين الذين ماتوا فى العبارة، والذين ماتوا فى أقسام الشرطة؟.. هنا جريمة وهناك جريمة.. وجريمة العبارة قتل خطأ، أما جريمة الشرطة فمع سبق الإصرار والترصد.. وإذا كنا حاسبنا صاحب العبارة ممدوح إسماعيل، وحاكمناه، فإننا لم نستطع أن نحاكم مخبرين سريين، فما بالكم بأن نتهم وزير الداخلية حبيب العادلى، مع أنه سياسياً مسؤول، ومع أن وزارته هى التى أصدرت بياناً ينكر الواقعة، ويشكك فيها جملة وتفصيلاً!
انتظرت أن تصدر الداخلية بيان اعتذار ولم يحدث.. وانتظرت أن تقول إنها تجرى تحقيقاً داخلياً ولم يحدث.. وانتظرت أن تعزى أسرة الشاب ولم يحدث.. مع أن ممدوح إسماعيل اعتذر عن حادث العبارة، ودفع التعويضات، وهرب خارج البلاد.. أما فى جريمة سيدى جابر، فلا اعتذار ولا تعويضات ولا استقالة ولا إقالة.. لأن الشرطة هى الخصم والحكم!
ومن هنا لا أصدق تصريحات الدكتور أحمد نظيف لقناة العربية.. ولا أصدق أن الجانى سوف يلقى العقاب.. ولا أصدق أن رئيس الوزراء يتحدث عن محاسبة المتورط فى التعذيب، مهما كان موقعه الأمنى.. لا أصدق شيئاً، لأنه مازال يردد كلاماً عجيباًَ عن الشأن الداخلى.. وهو كلام قد أكل عليه الدهر وشرب، فلا هو يعرف أن حقوق الإنسان شأن عالمى، ولا هو يعرف أن المناهج قد تغيرت!
كيف نصدقه وهو يصر على أن قضية التعذيب شأن داخلى، وكيف نصدقه عندما قال إن القضية لا يمكن تجاوزها، فالمؤكد أن تصريحات رئيس الوزراء كانت كلاماً كبيراً فقط، لا يقطع عرقاً ولا يسيل دماً.. فالعالم سوف يضحك عندما يرى مسؤولاًً، يجلس على كرسى رئيس الوزراء، بينما مازال يرى أن قضايا التعذيب شأن داخلى، لا يصح لأحد أن يسأله عنها، ولا يصح لأحد أن يحاسبه عليها.. فليته سكت، وليته ما تكلم!
لاحظوا أن «نظيف» يتعهد بملاحقة المتورط، مهما كان منصبه الأمنى، وهو بهذا يتحدث عن متهمين فى حدود دائرة قسم شرطة.. أكبر من فيه مأمور أو رئيس مباحث.. فمن غير المتصور أن يكون خيال رئيس الوزراء قد ذهب إلى وزير الداخلية، باعتباره المسؤول السياسى، ومن غير المتصور أن يكون هناك استجواب برلمانى للوزير، ولو أن ينتقل إلى جدول الأعمال كالعادة!
لا شىء سوف يحدث.. لا إقالة ولا استقالة ولا استجواب، ولا حتى بيان اعتذار.. هذا هو الفرق بين ممدوح إسماعيل صاحب العبارة، وحبيب العادلى صاحب العزبة.. مع أن الجريمة واحدة، ومع أن جريمة التعذيب لا تسقط بالتقادم!
محمد أمين- Almasry Alyoum
No comments:
Post a Comment