النهر تحول إلى مغسلة ملابس وأوان.. والفلاحات على ضفتيه اسمهن «الغسالات الأتوماتيك»
لا يخدعنكم صمته.. ولا يغرنكم هدوئه.. فالصمت ليس دائماً علامة الرضا، والهدوء فى بعض الأحيان ليس دليلاً على استقرار الطباع.. ربما يأتى اليوم الذى ينفجر فيه الغضب عارماً، ويبوح اللسان بما اضطر لكتمانه آلاف السنين.. ساعتها سينطق نيل مصر، سيشكو الإهمال، وسوء المعاملة، وقد يحمل عصاه عازماً على الرحيل، ومهما يكن من أمره لن يصبح أمامنا إلا أن نحترم قراره، فقط إكراماً لأياديه البيضاء علينا منذ وجدت هذه البلاد.
على أن البلاد التى منحها النيل أمسها وحاضرها، لم تكن قادرة على أن تمنحه حقه فى أن يعبر للغد آمناً مطمئناً، على العكس تماماً، راح أبناؤها، سواء بقصد أو بدون قصد، يعتدون على النهر الذى قدسه أجدادهم وعبدوه منذ آلاف السنين، وعلى امتداد مجرى نهر النيل داخل مصر اخترنا أن ننقل لكم صوراً حية تجسد ذلك الاعتداء، كما يحدث من بعض المواطنين.. لم نشأ أن نذهب بعيداً، أعطينا ظهرنا للقاهرة ويممنا وجهنا جهة الشمال لعدة كيلومترات تعد على أصابع اليدين، وعبر رحلة نيلية قطعتها باخرة سياحية من القاهرة حتى القناطر الخيرية، ثم العودة مرة أخرى رصدنا ما يحدث، وقررنا أن ننقله لكم بالصورة والكلمة فى السطور القادمة.
لم تكد الباخرة تبتعد قليلاً عن مرسى نهرى يقع أمام مستشفى معهد ناصر، حتى أخذت مظاهر المدنية فى الاختفاء شيئاً فشيئاً.. تباعدت العاصمة بجسورها وأبراجها العالية، ولم يعد يظهر منها سوى أطياف، ومع الأطياف راحت صورة الريف تتداخل مع بقايا الحضر حتى احتلت المشهد تماماً، وعلى ضفتى النيل انبسطت الأراضى الزراعية بخضرتها الرائقة، لا ينتقص من جمالها سوى بعض المبانى التى بدت فى وسطها أشبه بالبثور الدامية على جسد بض نضير.
وسط المبانى كانت هناك سيارة ضخمة تمد خرطوماً كبيراً فى اتجاه النهر، وتسكب فيه شيئاً لا يظهر بوضوح. بضعة أمتار أخرى وتتسلل ماسورة كبيرة قادمة من وسط الزراعات تلقى بدورها مياه شديدة الاتساخ.. يتجمع عدد من الأطفال وهم يلقون بأنفسهم داخل المياه ويسبحون فى استمتاع شديد، ويتكرر الحدث فى أكثر من موضع. تبدو مياه النهر فى تلك البقاع أكتر تلوثاً من غيرها فى أماكن أخرى.. يتحول اللون من الأزرق الفاتح إلى الأخضر الداكن، يصنع تناغماً مع مساحات الأراضى الزراعية التى تمتد سواء على الضفتين أو على الجزر التى تنتشر شرقاً وغرباً حتى تظهر مشارف القناطر الخيرية.
على مسافة كافية من النقطة التى يتفرع عندها النيل إلى فرعيه المشهورين دمياط ورشيد، وعلى مقربة من القناطر التاريخية التى أنشأها محمد على مطلع القرن التاسع عشر كان هناك صف طويل من البراميل مدون عليها عبارة «شركة البترول»، مرصوصة فى وضع أفقى، ومربوطة جنباً إلى جنب فى صورة حاجز حديدى، تحيط بها مخلفات زراعية مختلطة بقمامة، قال عنها ريّس مركبنا إن وزارة الرى وضعتها لتحجب المخلفات بعيداً عن القناطر الخيرية كآلية حديثة لتطهير مجرى النهر «ويا ريتهم بيشيلوا المخلفات ويودوها بعيد» قالها المراكبى بأسى وهو يشير إلى كومة عالية للغاية من المخلفات تستقر على الضفة الغربية للنيل، واصل قائلاً «وزارة الرى بتجمع المخلفات اللى بتخرجها من النيل هنا، وكل يوم الكوم بيزيد وما حدش بيسأل فيه».
لم تكن المخلفات وحدها هى ما يجذب الانتباه، قادنا المراكبى بناء على طلبنا إلى فتحة تقود بدورها لقرية القيراطيين التى تقع على ضفة النيل الغربية، وهناك صدمنا الواقع كما هو بلا تجميل أو مواربة.. سيدة عجوز جلست على شط النيل ممسكة بين يديها بآنية معدنية راحت تدعكها بقطعة سلك، وعندما انتهت منها وقامت بشطفها فى مياه النيل مدت يدها لآنية أكبر، وضعت ضمن مجموعة أوان تنتظر دورها فى الغسيل، وخلال عملية الإحلال والتبديل، لم تجد السيدة العجوز حرجاً فى أن تتمخط فى المياه نفسها التى تغسل منها أوانى طعامها وطعام أبنائها، وفى خلفية المشهد رقد رجلاً لم يكن يقل سناً عنها فى ظل شجرة ممسكاً فى يديه سبحة راح يمس حباتها بأصابعه مساً خفيفاً.
على بعد خطوات قليلة من العجوز جلست سيدة أخرى تغسل ملابسها وملابس أسرتها فى المياه الأسنة، دعكت السيدة الملابس وشطفتها ورفعتها على جذع شجرة لتجف، وإلى جوارها كانت هناك من تغسل حصيرة بلاستيكية مستخدمة فى ذلك فرشاة صغيرة، وثالثة تغسل أوانى الطعام باستمتاع شديد، ورابعة تتجاذب أطراف الحديث مع خامسة تقرفص بدورها وهى تدعك آنيتها المعدنية، وسادسة، وسابعة، وثامنة.. ضحك المراكبى وهو يعلق قائلاً: «بعد شوية هتلاقوهم هنا زى التتار كل واحدة عايزة تقعد على البحر وتغسل فيه، احنا هنا بنسميهم الغسالات الأتوماتيك».
لا ينتهى صف «الغسالات الأتوماتيك» كما أطلق عليهن المراكبى، من وسطهن تتسلل بضعة سيدات يحملن جرادل بلاستيكية محملة بمياه شديدة القذارة.. يلقين بها فى النيل، ويعودن من حيث أتين فى براءة تامة، تجلس فتاة صغيرة فى يدها صنارة تحاول أن تصطاد بها وسط طابور السيدات.
وحتى لا نظلم الفلاحات ونحملهن خطايا جميع البشر، ظهر على مقربة منهن رجل كبير يرتدى ملابسه الداخلية فقط، كان يتوضأ من ماء النيل بحماس ظاهر، دون أن يكلف نفسه عناء النظر إلى يمينه حيث تجلس السيدات يغسلن كل ما تطوله أياديهن، ويودعن مياه النيل فضلات أكلهن، ورائحة ملابسهن، ومخلفات أخرى ما أنزل الله بها من سلطان.
ورغم أن حرارة الجو كانت مقبولة إلى حد كبير، إلا أن المياه لم تعدم من يسبحون فيها على امتداد القرى التى تحتل ضفتى النهر، سواء كانوا كباراً أم صغاراً، هذا دون الإشارة إلى مخلفات صناعية انسابت من مواسير صغيرة تكاد لا ترى وسط الزراعات، متسللة من مصانع كبيرة بمداخن عالية، بالإضافة إلى بقاياً أطعمة، وأغلفة منتجات غذائية، وزجاجات فارغة بالجملة راحت تعترض طريق الباخرة، لتعيد إلى الذهن صف براميل وزارة الرى الموضوع أمام القناطر الخيرية ليحجب المخلفات، الأمر الذى يطرح تساؤلاً عن الآليات التى تعمل بها وزارة بحجم وزارة الرى لها ميزانية، وبها موظفون، وإدارات، وهيئات، وفى النهاية تستخدم وسيلة شديدة البدائية لتحجب بها المخلفات عن القناطر الخيرية.
لا تنتهى الرحلة دون أن تفرض الابتسامة نفسها على الوجوه، فشرطة المسطحات المائية لا يزعجها فى كل ما سبق سوى كاميرا زميلنا المصور، ولا يشغلهم سوى «تصريح أمنى بالتصوير فى القناطر، بعيداً عن استراحة السيد رئيس الجمهورية». وتظل كلمة النهاية معلقة على صفحة النهر فى انتظار من يد له يد العون قبل أن يتخذ قراره ويرحل ـ ومعه كل الحق ـ غير مأسوف عليه.
سماح عبدالعاطى- Almasry Alyoum
No comments:
Post a Comment