Wednesday, June 16, 2010

حين تحكمنا دولة المواءمات

حين تسيطر دولة المواءمات فإن هذا يعنى غياب دولة القانون، وحين تصبح جلسات الصلح هى الحل، بديلاً عن تطبيق القانون نصبح أمام كارثة حقيقية لا يعى الكثيرون مداها وحجمها.

ورغم أن دولة القانون لم تكن فى كل خبراتها ديمقراطية، فإنها بنت نظماً قانونية حرصت على حل مشكلات الأفراد الاجتماعية والاقتصادية ومعاقبة المخطئين قانونيا حتى لو ارتكبوا جريمة قتل عابرة للحدود كلفتهم مئات الملايين من الجنيهات، أو مخالفة شارع أو بناء، أو من حولوا الأحياء السكنية إلى مقالب قمامة، ومحاسبة مزورى الانتخابات، ومنع الغش فى الامتحانات، وعدم اعتماد الواسطة طريقاً للحصول على أى وظيفة والرشوة لقضاء أى مصلحة.

هذه المظاهر من فوضى وغياب للقانون تصعب من مهمة أى إصلاح سياسى فى حال لو قُدر لبلد أن يحكمه فى يوم من الأيام رئيس إصلاحى، لأنه ببساطة سيتسلم دولة فاشلة Failure State ، تدهورت مؤسساتها العامة وغاب عنها القانون.

ولعل الفارق بين هذه الأيام وما عرفته مصر منذ تأسيس محمد على للدولة الوطنية الحديثة، يكمن أساسا فى هذه المساحة، فمصر لم تعرف طوال تاريخها المعاصر نظاما ديمقراطيا حقيقيا لا فى العهد الملكى رغم ليبراليته النسبية، ولا فى العهد الناصرى رغم ثوريته، ولا فى عهد السادات رغم حنكته، إنما عرفت مؤسسات دولة تعمل بكفاءة، وقانوناً يطبق فى كل المجالات إلا -ربما- المجال الديمقراطى والسياسى.

ولم تكن مصر استثناء من تجارب كثيرة شهدها العالم، فحين تحولت أوروبا الشرقية نحو الديمقراطية، وقبلها البرتغال وإسبانيا، وبعدهما تركيا، كانت هذه البلاد فيها جامعات تُخرّج علماء ومهنيين، وكانت بها مستشفيات عامة متقدمة، ومسارح وسينما وفنون رفيعة، وبالتالى كان التحول نحو الديمقراطية أمرا سهلا نسبيا، لأن النظام الديمقراطى الجديد تسلم دولة تعمل، على عكس التجارب التى كتم فيها حزب واحد على أنفاس شعب من الشعوب، مثل الحزب الثورى الدستورى فى المكسيك الذى حكم حوالى ٧٠ عاما، وخرّب مؤسسات الدولة والتعليم والصحة والقضاء والأمن، حتى عمت فيها الرشوة والفساد وانعدام الكفاءة،

مما جعل تحول المكسيك نحو الديمقراطية بفضل جناح إصلاحى داخل الحزب الحاكم لم يضعها فى مصاف الدول اللاتينية المتقدمة أو الناهضة مثل البرازيل والأرجنتين وحتى فنزويلا، وبقيت المكسيك رغم تاريخها العريق وثقلها السكانى ومساحتها الشاسعة تعانى من أزمات مزمنة بسبب وراثة النظام الديمقراطى الجديد لدولة فاشلة.

والحقيقة أن ما نشهده فى مصر مؤخرا شبيه بما جرى فى كثير من تجارب الفشل التى شهدها كثير من بلدان العالم، والتى لم ينجح النظام الديمقراطى فى حل مشكلاتها المستعصية، فثقافة المواءمات التى صارت نمطاً فى إدارة شؤون الدولة ساعدت فى بقاء الحكم الطويل فى السلطة، لأنها تقوم على تواطؤ قطاع واسع من الناس مع هذه المواءمات، التى تحرص على ألا تحسم مشكلة ولا تعرف صرامة وقطعية دولة القانون.

وهذا ربما ما شاهدناه فى موقعة المحامين والقضاة مؤخرا فى مصر، فحين يشعر أفراد الطرف الأول بأن حبس زملائهم جاء خارج أبسط قواعد المحاكمة العادلة، فإن هذا سيعنى أن رد فعلهم سيكون متجاوزا وخارج أيضا القواعد القانونية، ويصبح الحديث عن التراجع فى حكم الحبس نتيجة المواءمات التى فرضها رد فعل المحامين كارثة أخرى، لأنه يكرس لهذه الطريقة فى التعامل بين حكم المحكمة والناس، أما إذا كان الحكم عابه عوار قانونى فيجب أن يحل بتدخل قانونى حاسم يضمن عدم تكرار هذا النوع من الأحكام، وبصرف النظر عن ضغوط المحامين.

وحين يقدم المحامون كثيراً من الحجج التى ترى تعرضهم لإهانات من قبل القضاة، ويتحدثون عن كثير من الأخطاء القانونية التى تقع فيها بعض المحاكم، يصبح من المهم مناقشة جوهر الموضوع من الناحية القانونية خارج جلسات الصلح الوهمية التى تجرى الآن على قدم وساق لتسكين المشكلة لا حلها.

ويتصور كثير من المحامين أن الحل فى الحصول على حصانة أخرى، والبحث عن استثناء أعطى للقضاة لضمان أدائهم وظيفتهم وليس للمنظرة والوجاهة وإهانة عموم الناس. فالمجتمع لن يحل مشكلة بالبحث عن حصانة «ملاكى» لكل فئة بداخله، بصورة جعلت بقاءه كمواطن عيبا، فيبحث المحامون عن حصانة خاصة غير مبررة، والصحفيون، وقبلهما الضباط، ولم لا بالنسبة للأطباء والمهندسين والمدرسين، والحكومة مستعدة لتوزيع سلاطين على الجميع فى إطار سعيها لبيع الأوهام للناس حتى ينشغلوا فى البحث عن حصانات زائفة وينسوا الحصانة الحقيقية فى احترام المواطن كإنسان وليس حصانته أو سلطته.

والخطورة أن مواءمات السلطة مع كل فئة أو تيار سياسى امتدت إلى المجتمع، فقرار إلغاء المقطورة المتسبب الأول فى حوادث الطرق فى مصر، التى قُدر ضحاياها بأكثر من ١٠ آلاف قتيل، رفضه لوبى أصحاب المقطورات، واستجابت الحكومة لهم ومدت المهلة لأربع سنوات دون أن تعبأ بهذه الأرواح، ولا يرى باقى أفراد المجتمع غضاضة فى ذلك وتجد من يقول لك «هذه أرزاق ناس» وينسى أن هناك «أرواح ناس» تزهق.

وحين يتصور طلاب جامعة أسيوط (على ما أعتقد) أنهم نجحوا فى تنفيذ حكم قضائى بدفع ١٤ جنيها فقط مصاريف دراسية، متصورين أنهم انتصروا فى معركتهم ضد الحكومة فهم واهمون، لأن الحكومة (وبالمناسبة أى حكومة) لا يمكن أن تقدم علما للطلاب فى مقابل ١٤ جنيها سنويا، وهو أقل من نفقات جلسات المقاهى التى يقعد عليها حتى أبناء الطبقات الفقيرة، فتركتهم بلا تعليم وأعطتهم شهادات للزواج وليس العمل، وتركتهم أمام البطالة أو العمل فى وظائف لا علاقة لها بما درسوا، فى حين تركت أبناء الأغنياء من طلاب الجامعات الأجنبية يحصلون على تعليم جيد يؤهلهم لإيجاد فرص عمل مناسبة بعد التخرج.

ولأننا نعيش فى دولة مواءمات لا ترغب فى أن «تزعل» الطلاب وأولياء الأمور تركتهم على حالهم، متصورين أنهم يتعلمون، ولم ترغب فى ربط التعليم بتكلفة قد لا يتحملها بالضرورة الطالب الفقير، ولكن هذا يتطلب منها جهداً وكفاءة وقدرة سياسية على التأثير والإقناع بالحل الحقيقى لا المزيف، وهى أمور أراحت نفسها منها.

نعم نحن نعيش فى ظل دولة مواءمات رحّلت المشاكل وسكّنت الجروح ولم يعد ما نشاهده من صراعات واحتقانات يومية إلا دليل على هيمنتها، فمعركة الكنيسة مع الدولة، وموقعة المحامين والقضاة، وتواطؤ الكثير مع مواءمات الحكومة جعلت هذه الأوضاع تستمر لسنوات، وجعلت قوى التمسك بالوضع القائم إما لاستفادة ما (حتى لو كانت وهمية)، وإما خوفا من المجهول أكبر بكثير مما يتصور دعاة التغيير والإصلاح.

د. عمرو الشوبكى - Almasry Alyoum

amr.elshobaki@gmail.com

No comments: