يوم الجمعة الماضى، فى الحادية عشرة صباحاً، كنت على موعد مع عدد من الأصدقاء، هم أساتذة بالجامعة، لديهم شأن جامعى خاص أرادوا أن أسمع تفاصيله منهم، وتقرر أن يكون لقاؤنا فى كافيتريا ويمبى بشارع يوسف عباس فى مدينة نصر، جلسنا أكثر من أربعين دقيقة دون أن يأتى أحد من العاملين ليسأل ماذا نشرب؟
وجدنا رجلاً عجوزاً يقوم برش المكان بالماء فسألناه الأمر، وكان رده أنهم لا يعملون يوم الجمعة إلا بعد الساعة الثانية ظهراً، بعد صلاة الجمعة.. قررنا الانتقال إلى مكان آخر «أفضل» ورشح أحدنا كافيتريا موجودة فى «جنينة مول»، وتكرر المشهد، هم لا يعملون إلا بعد الثانية والنصف.
وأعرف أن بعض الجهات الحكومية «الخدمية» التى تعمل يوم الجمعة، قرر بعض الموظفين بها أن يبدأوا العمل فى الرابعة عصراً.. وقد تناقشت مع عدد منهم فكان الرد.. يوم الجمعة يوم روحانى.. ولما سألتهم: ألا تتقاضون أجراً عنه؟ ردوا: هذا حقنا.
ما بين القطاع الخاص والقطاع العام فرض فريق من العاملين طقساً خاصاً، ونسبوه إلى الدين.. ويعرف الجميع أن العمل ليس محرماً يوم الجمعة، وبنص القرآن الكريم فى سورة الجمعة، يقول الله: (يا أيها الذين آمنوا إذا نودى للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون)، وذهب المفسرون إلى أن المقصود بـ«ذروا البيع»، أن نترك ما نقوم به ونتجه إلى الصلاة، وقد حددت الآية ذلك بالأذان، أى (إذا نودى للصلاة)،
والمعنى أنه من التاسعة صباحاً وحتى الأذان فى الواحدة ظهراً، وقت عمل، لا يليق أن نعطل العمل ونعطل خدمات ومصالح المواطنين فيه، ونعرف كذلك أن الإسلام حين ظهر كان المسلمون يعتبرون أن واحدة من نقاط التمايز بين الدين الجديد والدين القديم «اليهودية» أن اليهود حرموا العمل يوم السبت، وكان يطلق عليهم «السبتيون» بينما لا يحرم الإسلام العمل يوم الجمعة..
ومن ثم فإن هـؤلاء الذين يعطلون العمل يوم الجمعة هم يهدرون جانباً من جوانب تميز الإسلام، ويهدرون روحه التى تقوم على أن العمل عبادة، وقد حضنا رسول الإسلام مراراً وتكراراً على العمل وعلى إتقان العمل.
نعرف كذلك أن المؤمن ينبغى له أن يتمتع بالإيثار، أى أن يؤثر الآخرين على نفسه بعمل الخير، ويجب ألا يتسم بالأثرة، أو الأنانية أى أن يؤثر ويفضل نفسه على الآخرين، ويبدو لى أن من يعطل العمل هو أنانى، هو يريد أن يحصل على ثواب من الله تعالى، ولا يبالى بأن يأتى هذا الثواب على حساب وقت الآخرين ومصالحهم، ولا أتصور أن الله سبحانه وتعالى يمكن أن يثيب إنساناً عطل مصالح الآخرين أو سبب الأذى لهم، إنه فى هذه الحالة لن ينال رضا الله، إن لم ينله عقابه.
أحد الأصدقاء فى لقاء الجمعة عمل سنوات فى مدينة الرياض بالمملكة العربية السعودية، قال إن العمل والمحال فى الرياض تتوقف ساعة فقط يوم الجمعة لإتمام الصلاة، لكنها تعمل منذ الصباح وحتى اقتراب موعد الأذان.. يحدث هذا فى بلد فيه جماعات الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر التى تطارد الناس فى الشوارع وقت الصلاة لتدفعهم إلى المساجد دفعاً، فإذا كان هذا يحدث فى بلد الوهابية، فما هذا الذى يجرى عندنا وماذا نسميه؟
لابد من الاعتراف بأنه صارت لدينا وهابية خاصة، وهابية مصرية، تفوق الوهابية فى المملكة العربية السعودية. الوهابية فى السعودية تقوم على المذهب السلفى المعروف، وقد نشأت وفق ظروف خاصة بالمجتمع فى الجزيرة العربية، أى أنها لبت شأناً خاصاً بذلك المجتمع، وهذا ما جعل مفكراً فى قامة أحمد أمين يعتبرها حركة ودعوة إصلاحية،
أما الوهابية المصرية فقد جمعت الوهابية السلفية مع تزيُّد منا، وتنطع فى الدين، وإمعان فى التدين المظهرى والمغشوش. بعض أصحاب المحال الذين لا يعملون إلا بعد الصلاة يوم الجمعة، لا يترددون فى مضاعفة الأسعار، وربما الغش فى مستوى الخدمات والكذب على المواطن، بادعاء أنهم يقدمون له الأفضل وهم ربما يقدمون الأسوأ... وكل هذا مما يناقض روح الدين والتدين الصحيح.
وبينما نجد محاولات جادة فى المملكة العربية السعودية للتخفف من الوهابية أو شكلها التقليدى، نمعن نحن فى وهابيتنا.. مثلاً أسس الملك عبدالله فى السعودية جامعة مختلطة، يدرس فيها الطلاب والطالبات معاً، استناداً إلى أن الاختلاط ليس محرماً فى الإسلام، لكن المحرم الخلوة غير الشرعية بين اثنين، ونجد نحن فى جامعاتنا، أننا فصلنا المدرجات إلى أجنحة للطالبات وأخرى للطلاب، ولا يجوز الاقتراب ولا الاختلاط، ويرعى بعض الأساتذة من الوهابيين ذلك، الوهابية عندنا لا تزال غَشُومة وتتمتع بغباء إنسانى وحضارى.
الوهابية المصرية أشد وأخطر.. هى تسىء إلى روح الدين وتجهل مقوماته وأدبياته، وهى كذلك تهدر قيماً وسلوكاً تعارف عليها المجتمع المصرى طوال تاريخه، وهى كذلك تروج للتدين الكاذب، الذى لا يجد غضاضة فى الغش والكذب والمغالاة وإخفاء ذلك بقشرة من التدين أو ادعاء التدين..
فى الريف المصرى كان الفلاح يعمل فى أرضه، يحرث ويبذر ويزرع، وإذا نادى المؤذن للصلاة انصرف سريعاً يتوضأ ويؤدى الصلاة فى هدوء وطمأنينة ثم يعود إلى عمله من جديد.. وإذا كانت الصلاة عبادة فالعمل عبادة أيضاً، وهو يرقى إلى مستوى الفريضة، ولا يجب المفاضلة بين عبادة وعبادة أو فريضة وفريضة..
لكن تعطيل العمل خطيئة فى حق المجتمع وهى خطيئة أكبر إذا تم باسم التدين أو ادعاء التدين، ولو أن المسلمين الأوائل تركوا أعمالهم وقعدوا إلى الصلاة لما أقاموا حضارة عظيمة ولا أسسوا دولة قوية، وحين ذهب بعض المسلمين إلى رسول الله يطلبون منه أن يأذن لهم بأن يصوموا الدهر ويقيموا فى المساجد ليتفرغوا للصلاة نهاهم عن ذلك تماماً..
ويحدثنا القرآن الكريم عن أن الإنسان خُلِق لإعمار الأرض، وإقامة البنيان عليها، ولا يتحقق ذلك إلا بالعمل والجهد الشاق، بدنياً وعقلياً، وليس باقتطاع يوم من أيام الله تعالى «الجمعة» من الحياة والتاريخ لجعله مخصصاً للصلاة أو الروحانيات، كما قال أحد المتعطلين والمعطلين.
قال ابن خلدون فى مقدمته: «إن المغلوب مولع بتقليد الغالب»، ويمكننا اليوم القول مع علماء التحليل النفسى إن المسحوق يتماهى مع من سحقه ويزيد عليه، ولدينا مسحوقون أمام العولمة، فصاروا أمريكيين أكثر من المحافظين الجدد، ولدينا مسحوقون أمام الوهابية فصاروا أشد وأنكى.
الانسحاق هنا معنوى وثقافى أكثر منه مادياً، وها نحن نرى ما تقوم به الوهابية والوهابيون المصريون، ومجتمعنا- أيها السادة- به فائض من التدين وفائض من الزوايا وفائض أكثر من الغش والزيف والكذب والتضليل، فضلاً عن الفساد بمعناه الشامل، وينقصنا الكثير من العمل ومن الإنتاج ومن عودة القيم الإنسانية التى تؤمن بأن للآخرين حقوقاً يجب أن تصان، وللمجتمع قواعد يجب أن نحافظ عليها وأن المجتمع القوى الناهض أحب إلى الله من المجتمع الخامل، الذى لا يتمكن من توفير قوته اليومى.
آن الأوان أن نتصدى للوهابية المصرية، بكشف زيفها الثقافى وخوائها الفكرى، والتنبيه إلى ما تمثله من مخاطر على المجتمع المصرى بكل مكوناته وعلى الإسلام ذاته، ويقتضى الأمر الانتباه إلى أساليب الوهابيين، بما فيها من ابتزاز وسوء استغلال للمشاعر الدينية حيناً، وممارسة الإرهاب والتخويف حيناً آخر.
الوهابية والوهابيون المصريون خطر يجب اجتنابه والتخلص منه، إذا أردنا لمجتمعنا حالة من النهوض والتقدم، وإذا أردناه مجتمعاً إنسانياً ومدنياً
حلمى النمنم - Almasry Alyoum
No comments:
Post a Comment