كيف أصبح شاب مصري عادي، أهم شخصية في مصر لعام 2010؟، وهو ليس بلاعب كرة قدم يقبض مئات الألوف. ولم يكن ابنا لمسئول كبير، يشتم الشعب الجزائري بسبب حماقة بعض المتفرجين في ملعب الكرة بأم درمان؟ وهو ليس مرشحاً ليرث رئاسة جمهورية عائلية. ليس سياسياً مثل أيمن نور، أو صحفياً مثل هيكل، أو سجيناً أشهر مثل خالد الإسلامبولي.
هو شخص عادي لا يعرفه في الأغلب، إلا شلة أصدقاء مثله. من أسرة متوسطة نصفها مهاجر إلي أمريكا، مثلما يتمني نصف الشعب المصري أن يهاجر.
شخص تطالب منظمة العفو الدولية «الأمنستي» بالتحقيق في مقتله، ويعلن المتحدث باسم الخارجية الأمريكية عن «قلق» الولايات المتحدة لمقتله ويطالب كلاهما دولة مصر بالتحقيق في أسباب قتله..إلخ.
شخص تخرج، بسببه، مظاهرات غاضبة في القاهرة والإسكندرية تطالب بالقصاص وتهدد المسئولين وتتحداهم بالرغم من قانون الطوارئ القاتل.
ويعلن الجميع أنه شهيد.
رغم أنه لم يدخل حربا ضد إسرائيل. كما أنه ليس من الفدائيين. لم يحقق بطولة ما حتي في كرة القدم، لكن صورته سرعان ما ملأت الصحف المصرية ووكالات الأنباء العالمية. الحقيقة صورتان واحدة لطيفة نظيفة أنيقة مليئة بالحيوية والاستبشار بحياة طويلة طموح.. والثانية بشعة، جاحظ العينين فيها، ممزق الفم، مقلوع الأسنان .. وميت.
وتبعتها عشرات بل مئات الصور في الفيس بوك والإنترنت. تحمل نداءات وتعلن تشكيل جماعات وجروبات ووقفات واحتجاجات.
أطلق عليه لقب «شهيد الطوارئ» لكنه - ويا للغرابة - ليس أول شهيد للطوارئ. فكم من الأشخاص «قتلوا» علي يد شرطة نظام الطوارئ.. ولم تنزعج الخارجية الأمريكية ولا «الأمنستي» من ذلك بل لم تخرج مظاهرات ووقفات ونداءات..إلخ.
لم ينشر أحدهم صورهم أو أسماءهم. وواصل الآخرون حياتهم في لهوهم ولعبهم وأتراحهم دون غضاضة أو غضب.
لكن لماذا احتشدت مصر متضامنة مع خالد سعيد وأصبح معروفاً في كل بيت مصري وخارج مصر من بيوت المصريين؟
يتنادي المغتربون من مصر بوقفات أمام البيت الأبيض وأمام السفارات المصرية في الغرب. يحملون صورتيه . الصورتان اللتان تعبران عن مصر قبل أن يشوهها نظام مبارك وأجهزته ومؤسساته وإعلامه وسجونه وطوارئه.
ثم الصورة المشوهة لخالد، صورة مصر الآن ممزقة الفم ومقلوعة الأسنان، لكنها ليست ميتة... إنها أوزير الذي أعادت إليه إيزيس الروح الضائعة. مصر التي أعادت لها صورة خالد سعيد، كرامتها وكبرياءها وغضبها، صورته المشوهة، تذكرها بما حدث لها وبما يمكن أن يحدث لها إذا استكانت تحت ضربات أجهزة شرطة مبارك.
أصبح مقتل خالد سعيد، جهاراً نهاراً أمام أعين المارة، ثم تهديدهم بالسلاح الميري، وإلقاء جثمانه علي قارعة الطريق، يشكل استفزازاً وتهديداً لكل من تسول له نفسه مجرد التساؤل عما حدث.. يشكل هذا كله القشة التي قصمت ظهر صبر المصريين.
مقتل خالد سعيد، ذكر المصريين بمهانتهم اليومية في أقسام الشرطة وفي الجامعات علي أيادي الحرس الجامعي وأمن الدولة وأجهزتها السرية والعلنية.
مهانتهم منذ الصباح وحتي المساء وهم في سعيهم الدءوب من أجل رغيف العيش، قوتهم المسروق منهم.
مقتل «خالد» ذكّر المصريين بخبزهم المغموس في عرقهم المالح وحياتهم البائسة تحت حكم أسرة مبارك وحزبه الوطني ومؤسساته جميعا.حتي تلك الدينية التي لم تصدر بياناً واحداً يستشهد بالآية الكريمة...
«كتبنا علي بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا» «المائدة :32 ».
صمتت مؤسسات الدولة لتثبت لمن كان يساوره شك في حيادها، وولائها الكلبي الأعمي لرأس النظام الفاسد.
مقتل خالد سعيد كان النقطة التي فاض بسببها النيل، كما تقول الأساطير الفرعونية. وبعد كل ما قيل، ليس هنا من مزيد لقول.
إنها النقطة الفاصلة والنهائية فيما يُسمي « ثقافة التعذيب الرسمية» في مصر» فهي نقطة الفضح وفاصلة الفضيحة الدولية، عن القتل الممنهج، الذي يتم جهارًا نهاراً من الشرطة وأجهزة الدولة. لم يحدث مثل هذا من قبل، إلا ما نراه في الأفلام الوثائقية عن شرطة دولة جنوب أفريقيا العنصرية السابقة «الأبرتايد الاستيطانية» وهي تقتل جهاراً نهارا أبناء الشعب «الأسود» من السكان الأصليين.
فهل تعتبر سلطة مبارك وأجهزتها أنها نظام قمع «أبرتايد » استيطاني؟ فإذا كان الأمر كذلك وهو غالبا «كذلك » فنحن نقول لهم : لا نبشركم بطول سلامة يا مربع.. أي أن ساعة النهاية قد قربت كثيرا لنظام عنصري يحشد قواه الأخيرة ضد شعبه، نظام ظالم ومهين.
هكذا أصبح خالد سعيد دون أن يعي، وهو في لحظات موته المؤلمة البشعة، يمثل شعبا بكامله، يصرخ من الألم ولا من مغيث!
شعب يرزح صابراً ومتحملاً منذ عشرات السنين، مظالم حكامه وعجرفة أجهزتهم وسطوتها وقسوتها وتنكيلها.
لم يدر «خالد» أن صرخاته الأخيرة وصورته المؤلمة لوجهه الوسيم الذي شوهته ضربات الموت، لم يدر أنه في هذه اللحظات القليلة أو التي بدت له كدهر، وهو يغالب الموت، أن صيحاته اليائسة الطالبة الغوث، ستصبح صيحة غضب، في كل بيت مصري من بيوت المحرومين، صرخة حزن، صرخة خوف وآهة احتجاج تزحف فوق مصر ببطء أحيانا وبسرعة أحيانا، مثلما حفر النيل مجراه واستقر بها.
سوف يحكي الناس في المستقبل القريب، أين كانوا يوم مقتل «خالد» أو قبل مقتله وبعده؟ سوف يؤرخ بمقتله، ما قبل مقتله وما بعده.
ولن يكون حال مصر بعد مقتل خالد -بالتأكيد - مثلما حالها منذ أسبوع قبل مقتله
مصر حالها الآن -بالفعل - ليس كحالها قبل مقتل خالد. ليست هي مصر التي كانت ساكنة هامدة تبدو ضعيفة منهكة مُستنفدة القوي، ضائعة الهمة.
لم تعد كذلك ولن تعود إلي «ذلك» مطلقا!
رءوف مسعد- الدستور
No comments:
Post a Comment