Saturday, May 29, 2010

عن مقومات الريادة المصرية الضائعة

كَثُر الكلام فى الفترة الأخيرة عن دور مصر الإقليمى، المفترض أنه فى حالة تدن حادة. ويستند من يتبنى وجهة النظر تلك إلى عدة عوامل وأحداث، منها تصرفات دول حوض النيل فى سياق مسألة توزيع المياه، وأيضا بالصراع الكروى الذى دار مع الجزائر، وما حدث للمواطن المصرى الذى سحل فى لبنان، والتحديات التى تفرضها علينا دولة صغيرة مثل قطر...إلخ.

يعتقد الكثيرون أننا نتعامل هنا مع مشكلة سياسية، لكننى أعتقد أن المشكلة أساساً فكرية وثقافية، وتتعلق بطريقة جذرية بأساسيات مقومات القوة والريادة فى العصر الحديث. فبينما يترحم الكثير من المعلقين على دور مصر خلال الحقبة الناصرية، لا يتساءلون فى الوقت نفسه عن الحيثيات التى مكنت عبدالناصر، قبل كارثة ٦٧، من لعب هذا الدور.

فلا شك أن عبدالناصر، بشخصيته الجذابة، كان له رصيد رهيب فى بعض الأوساط العربية والأفريقية فى مرحلة ما، ورجع ذلك جزئيا لأنه ساعد حركات التحرر الوطنى ورفع شعار الوحدة العربية، لكن تجربة الوحدة الوحيدة العملية قد فشلت، وكانت هناك أيضا عداءات سياسية لا تحصى مع دول عديدة فى المحيط العربى والأفريقى، التى سماها «الرجعية».. ومن يتشكك فى ذلك عليه مثلا مراجعة خطابه فى مناسبة عيد العمال سنة ١٩٦٧،

حيث تكلم لمدة ساعات عن الرجعية العربية، الممثلة فى الأردن بالذات، وبطريقة لم تخل من الصلف الصريح (مثلا عند الكلام عن «الملك حسين وأمه»)، وذلك قبيل شهر واحد تقريباً من الكارثة التى سماها «نكسة» فيما بعد. ولم يشر إلى عدوه الأساسى المفترض (إسرائيل) إلا فى فترات عابرة.

أى أنه، من الناحية السياسية، كانت «ريادة» مصر الناصرية منقوصة فى أحسن الأحوال، فماذا إذن كانت مقومات تلك الريادة؟

لا أعتقد أنه يمكن الهروب من النتيجة التالية: أنها قد أُسست على بقايا الميراث الفكرى والثقافى والحضارى الذى تراكم عبر العقود التى سبقت حكم الضباط الأحرار، حيث كانت أولى بدايات الصناعة والاقتصاد الحديث،

وأولى الجامعات الوطنية فى المنطقة وفى القارة، والبحث العلمى والنهضة الأدبية والحراك الثقافى، وصناعة السينما وفن المسرح، والصحافة الحرة، والمناخ السياسى المنفتح، وانتخابات ونظام برلمانى... هذه هى المقومات التى جلبت الكثير من المهاجرين- من العالم العربى (بالذات من الشام)، وأيضا من أوروبا- الذين تفاعلوا مع النهضة التى شهدتها البلاد حينذاك.

ماذا فعلت حركة يوليو ٥٢ بهذا الميراث؟

لقد بدأت بحل النظام السياسى التعددى الوليد، ثم كبلت حرية الرأى والتعبير والصحافة، ثم عملت على تطفيش وطرد الجاليات التى كانت تساهم بشكل جذرى فى مجالات الإدارة والفن والاقتصاد، ثم بعد ذلك النخب المحلية الثقافية والعلمية، وعملت على تحجيم دور من تبقى منها. وتزامنت مع كل ذلك عملية منظمة لعزل مصر عن العالم الحديث، التى وصفها لويس عوض كالآتى:

قد «حطم عبدالناصر أكثر جسورنا العلمية والثقافية مع العالم الخارجى، وأقام أسواراً عازلة بيننا وبين العقل والوجدان العالميين... حتى كدنا أن نفقد أدوات التفاهم مع الغير». فى ظل هذا المناخ من العزلة والكبت الخانق المخيف تقهقر دور مصر وانحدر فعليا، لأن المقومات الإبداعية التى تصنع الحضارة والريادة والتلاقى بين الأمم قد أخذت فى التلاشى.. مع ذلك، ظل الوهم بوجود دور ريادى لمصر- لأن النظام المصرى كان «يصرف» من الرصيد الثقافى والاقتصادى الذى تركته له الحقبة التى قام على أنقاضها.

وظل الكثير من الأفارقة والعرب معجبين بهذا النظام، لأنهم تصوروا أنه سيبنى فوق ذلك التراث صرحا عظيماً، لأن إعلامه الموجه الزاعق كان يؤكد ذلك فى كل مناسبة: فالظاهرة الناصرية كانت مهمومة بالمنظر والمظهر الإعلامى قبل أى شىء.. وغنت فيروز «جاى لمصر، جاى للحرية»، رغم انعدام تلك الحرية داخل المجتمع المصرى، لأنها كانت تعبر بذلك عن حرية القائد الملهم فى صراعه الإعلامى مع العالم، القائد الذى «انتكس» فى ٦٧، ورغم ذلك بقى بريقه المصطنع كالحلم الضائع.

وفى النهاية، فالفوضى شبه المطلقة هى التى نتجت عن «حرية الحاكم» فى ثورته العبثية على الواقع، فعشوائية القرار الفردى المبنى على حيثيات غير مدروسة، التى لا يمكن نقدها أو مناقشتها فى ظل مناخ كتوم ومكتوم، تؤدى حتميا لذلك..

هكذا استبدل المجتمع المصرى الفوضى البناءة- أى عملية تنافس الأفكار المؤسسة للإبداع، والمبادرة الذاتية فى مجال الأعمال، وكلها من مقومات المناخ الخلاق والحراك الفكرى والاقتصادى والسياسى- بالفوضى الهدامة، بفوضى الرأى الواحد، والرعب الذى يفرضه، والذى يجعل الإنسان يتشبث بالنمطية فى التفكير، والاحتماء بإجماع الجماعة والتظاهر بالقيم المقبولة والتدين الظاهرى لحماية نفسه فى سياق الصراع اليومى المفروض عليه.

أعتقد أن الذى يريد البحث عن دور مصر الضائع يجب عليه التفتيش أولا عن أسباب الخمول الفكرى، واختفاء القدرة على الابتكار، وغياب الجسارة والاستقلالية الفردية عن مجتمعنا.. وأعتقد أيضا أن أى بحث دقيق وصادق سيرجع أسس المشكلة إلى تلك الحقبة نفسها التى يعتقد الكثيرون أنها عبرت عن أزهى عصور «الريادة» المصرية.

Almasry Alyoum

د. عمرو الزنط


No comments: