Wednesday, November 18, 2009

الإخوان المسلمون على مفترق الطرق (٦ - ٩).. قضايا طارئة.. وفرص مُهدرة


الانطباع الذى يأخذه بعض المراقبين للإخوان هو أنها «تجمدت» فهى لا تفعل شيئاً، بل ولا ترد على اعتقالات الحكومة المتوالية، ومحاكمة قياداتها أمام محاكم أمن دولة، «وشنعت» عليها إحدى الصحف أنها إثر كل اعتقال تدير خدها الأيسر ليتلقى اللطمة التالية، ولكن هذا الانطباع الذى قد يكون حقيقيًا إلى حد ما إنما حدث بفعل العوامل التى تحكمت فى مسيرة الإخوان،
فهناك عوامل انعطفت بالإخوان عن مسارهم، وانساقوا لها لأنه لم يكن هناك تصرف آخر، وهناك فرص تجمدوا أمامها فأضاعوها، والفرص مثل السحاب أو مثل القطار.. إذا لم تركبــه انطلق دونك، وهناك فرص أساءوها، فبدلاً من أن ترفعهم فإنها أسقطتهم، وأمضت الدعوة معظم عمرها الطويل ما بين قضايا طارئة.. وفرص مُهدرة.. فعندما بلغ التكوين الإخوانى غايته (قرابة سنة ١٩٤٠) وحان وقت العمل حدث أمر جعل الإخوان يرجئون كل نشاط ليعنوا بهذا الأمر المستجد وهو ظهور التسلل الإسرائيلى إلى فلسطين فى حماية الانتداب البريطانى وزيادة عدد المهاجرين بعشرات الألوف.
هذا حدث استغلق على الجميع، لأنه كان أكبر منهم، ولأنه فرض نفسه على الجميع، بما فى ذلك الصهيونيون الذين كانوا السبب فيه، وقد انساق الجميع وخضعوا لتعقيداته، فدخلت مصر الحرب دون أن تكون مؤهلة لهذا، ودون سبب حقيقى، وانحازت الدول العربية واشتركت فى المعركة وأرسلت جيوشها، وجعلت من الملك عبدالله قائدًا عامًا للقوات العربية، وكان الذى يحكم الملك عبدالله هو قائده الإنجليزى الجنرال جلوب، ورأى الإخوان أن يرجئوا نشاطهم وانهمكوا فى تدريب المتطوعين.
هل كانت الرؤية السياسية لهم جميعًا سليمة؟ هذا أمر لا يمكن القطع به لأن الموقف كان أكبر منهم جميعًا، وانبهمت أمامهم المعالم فانساقوا جميعًا وراءه.. كلٌ بطريقته الخاصة، ويصعب علينا أن نحكم عليهم، فقد كان الحدث أقوى وأكبر منهم جميعًا.
قد لا أنظر إلى قضية فلسطين نظرة الإخوان، ولكن من منطلق الأمن القومى يكون على مصر أن تعنى بالتسلل الإسرائيلى وزيادة عدد المهاجرين وانتشار المستوطنات، لأنه لا حدود بين مصر وفلسطين، وقد جاءت معظم الغزوات ضد مصر من ناحيتها، ولا يسعد أى رجل دولة مصرى أن يكون على حدوده دولة مثل إسرائيل تريد التوسع وتستهدف إقامة دولة أقوى من الدول العربية.
من هنا فأنا أعتقد أن سياسة الإخوان تجاه فلسطين كانت أهدى سبيلاً من الموقف السلبى الذى وقفته الحزبية الهزيلة التى حكمت مصر، ومن الباشا الذى قال أنا رئيس وزراء مصر.. وليس فلسطين، وعندما قامت الدولة الإسرائيلية بصفة رسمية، وأعلنت الدول العربية الحرب ودخلت الجيوش، أرسل الإخوان المتطوعين الذين أثبتوا بسالة وكان الجيش يستعين بهم فى المهام الصعبة.
وانتهى حكم السعديين الأشقياء سنة (١٩٤٩ - ١٩٥٠)، وفاز الوفد فى انتخابات سنة ١٩٥١، وألغى الأحكام العرفية وسقط معها الأمر العسكرى بحل الإخوان، وأعلن الوفد سقوط معاهدة ١٩٣٦، بدأت حركة العمل الفدائى ضد المعسكرات البريطانية فى الإسماعيلية وفايد، وأرسل الإخوان الفدائيين الذين أظهروا بطولة تشهد بها أسماء عمر شاهين والمنيسى وغيرهما من الذين استشهدوا وأطلقوا أسماءهم على الشوارع.
ولم تكد تهدأ شيئاً ما قضية فلسطين وقضية القنال حتى قام عبدالناصر بانقلابه العسكرى، فهذه سلسلة من العوامل التى شغلت الإخوان عن المضى فى مسيرتهم الخاصة لأكثر من عشر سنوات.
ولم يكن عبدالناصر غريبًا على الإخوان فقد بايع مع الخلية الأولى من الضباط الأحرار (كما اعترف بذلك خالد محيى الدين لأنه كان أحدهم) وروى قصة هذه البيعة فى كتابه «الآن أتكلم»، كما اشترك فى تدريب الفدائيين، وحقق معه إبراهيم عبدالهادى رئيس الوزراء، وكان هو وعبدالمنعم عبدالرؤوف فرسى رهان فى ضباط الإخوان، وقبل أن يقوم بالحركة عبدالناصر بالفعل طلب الدعم الأمنى الداخلى من الإخوان، فسافر أحد الإخوان إلى الإسكندرية للقاء المستشار الهضيبى المرشد الثانى، لإخطاره والظفر بتأييده بعد أن أكدوا أنهم مع الإخوان.
وتوترت العلاقات بعد ذلك ما بين عبدالناصر والإخوان المسلمين.
وفى سنة ١٩٥٤ ارتكبوا خطأً لا يغتفر، خطأ يمكن أن يُعد خيانة قومية، ذلك أنهم خذلوا ضباط الفرسان ومحمد نجيب، ونقابة الصحفيين والمحامين، وكل رجال السياسة الذين طالبوا بعودة الجيش إلى معسكراته، وبدء عهد جديد، وهادنوا عبدالناصر الذى استطاع بفضل مهادنة الإخوان أن يتغلب على أعدائه ثم يندار عليهم، وبدلاً من أن يشكرهم فإنه أذاقهم الويلات، وزج بهم فى المعتقلات، واستخدم التعذيب الخسيس، ولو فعلوا العكس، لكانوا أكبر قوة فى المجتمع، ولجنبوا مصر هزيمة ١٩٦٧ المهينة، ولكنهم أضاعوا فرصة الفرص كما قال الأستاذ محمود عبدالحليم مؤرخ الإخوان.
لقد كانت تلك صفحة من أشد صفحات مصر سوادًا، وأدت إلى تعقيم الإخوان طوال الفترة الناصرية، كما أدت إلى سقوط الناصرية بهزيمة ٦ يونيو سنة ١٩٦٧، ثم بموت عبدالناصر سنة ١٩٧١.
إن الدروس الثمينة.. والباهظة التى حدثت طوال الحقبة الناصرية كان يجب أن تدفع الإخوان للتفكير فى تعديل جذرى فى تكوينهم وفى مسيرتهم.
لقد قيل لى إن الإمام الشهيد، وقد روّعه ما أصاب الإخوان على يد إبراهيم عبدالهادى وما انتهت إليه الدعوة، فكر فى العودة إلى الطابع التربوى للدعوة، ولما كنا (إخوة الشهيد) جميعًا فى المعتقل فى الفترة التى سبقت وأعقبت استشهاده فقد تحريت الأمر من بقية أفراد الأسرة وعلمت أنه فكر فعلاً فى تعديل «الأسلوب».
ولكن يبدو أن مثل هذا التفكير لم يرق للقيادات الإخوانية، وأنا أفهم هذا، إن مشهد زوجات الإخوان المفجوعات، المروعات، واللائى جئن يطلبن ما يقيم الأود بعد أن توقفت رواتب أزواجهن، وأطفالهن اللائى أشبهن اليتامى، والدور المغلقة أثرت أثرًا عميقاً فى نفس المرشد، فى الوقت الذى كنا فى معتقل الطور قد كيَّـفنا أمورنا وعشنا عيشة طبيعية، ولم يتملكنا الروع الذى تملك الإمام الشهيد، ولهذا لم يفكر الإخوان بعد خروجهم من المعتقل فى التغيير، وكانت كل اتصالاتهم مع السادات ومبارك على أساس «صفقات» و«مساومات» فى حالات معينة بذاتها، ولم تصل إلى تفكير الإخوان فى تعديل جذرى، مع أن هذا كان ممكناً أن ينجح فى عهد السادات والأستاذ التلمسانى، فقد كان كل منهما منفتحًا، وكان سيقى السادات مخاطر تعرض لها،
كما كان سيكفل للإخوان وجودًا شرعيًا وعملاً مقدسًا فى الخدمة العامة تقوم به، ولكن كانت هناك شكوك من الطرفين، وفى النهاية تجمد هذا الموقف الحرج، فلم يكن الإخوان على استعداد للتخلى عن فكرهم الأصولى، كما لم يكن السادات مستعدًا لمنحهم حرية حقيقية، وقد كانت التداعيات القديمة والسحب متكاثفة فلم تسمح برؤية نافذة.
والحق إنى لا أفهم موقف الإخوان، فلم يكن تحدى الحاكم موقفاً مقررًا لهم، ووصل توقيهم عداوة مع الحاكم بما قد يصل إلى «الفتنة» أن قال المستشار الهضيبى، المرشد الثانى، إنه مستعد لتسليم مفتاح المركز العام لعبدالناصر.
ولم يكن من أهدافهم الوصول إلى الحكم، فلو كان هذا هدفهم لأسسوا حزبًا فى الأربعينيات ولدخلوا مجال الانتخابات بكل ثقلهم، ولكنهم لم يفعلوا. وجاء فى مقال أحد الناقدين للإخوان د. محمود خليل «المصرى اليوم» (١١/١٠/٢٠٠٩) ص ١٢ تحت عنوان «الإخوان والحكومة المذعورة»:
«ويبدو أن شعار (لسنا طلاب حكم) هو الشعار الحقيقى الوحيد الذى يرفعه الإخوان المسلمون، رغم أن الحكومة لا تصدقه،
فالإخوان بالفعل لا يريدون حكم هذا البلد، وإنما يريدون فقط أن يكونوا أوصياء على الحكم
فقد كان هذا دأبهم قبل الثورة، وكان كذلك شأنهم بعد قيام الثورة، الأمر الذى رفضه كل الحكام المتسلطين على كراسيهم، فبدأوا يدخلون فى صراع حاد معهم كان الضحية الأولى فيه هو الإخوان الذين لم ترحمهم كل الحكومات التى جاءت بعد الثورة».
وكلمة «الوصاية» هى التى ابتدعها جمال عبدالناصر عندما أراد الإخوان أن يكون هناك نوع من الشورى، فلا يستبد مجلس قيادة الثورة المكون من ١٢ ضابطاً، ليس لهم أى خبرة سياسية، بالأمر، فلم ير فى هذا إلا وصاية على «الثورة» التى هو صاحبها الوحيد.
بقلم جمال البنا ١٨/ ١١/ ٢٠٠٩
gamal_albanna@islamiccall.org

No comments: