كان لقاءً عادياً يتكرر من حين إلى آخر.. ولكننى ذهبت إليه هذه المرة وبين ضلوعى سؤال واحد، أراه - ويراه الكثيرون - سؤال وطن يبحث عن طريق.. قلت لنفسى إن المرحلة المقبلة هى الأخطر فى تاريخنا الحديث، ليس لأننا نخطو وننتظر الثمار، ولكن لأن الطريق يكسوه الضباب، والأقدام لا تخطو، وإن هى خطت لا تعرف اتجاهاً.. وفى ذلك مأزق ينذر بمجهول لا نعرف مداه.
إذن.. فهو المستقبل الذى يملكنا، بينما ينبغى أن نمتلكه.. ولأننى أعرف قدرته الهائلة على التحليل والتفكير، بادرته بما دار فى ذهنى.. قلت له إن تشخيص اللحظة الراهنة شغلنا أكثر مما ينبغى.. هكذا أرى.. وأن النقد بات أسهل من الاستشراف، والهدم أرخص من البناء، وكلمة «لا» تصنع أبطالاً ولكنها لا تنير سبيلاً.. وأنت تمتلك مفاتيح الرؤية ورموز المعادلات..
فدعنا نضع تصوراتك ومقترحاتك لمستقبل تراه أفضل، ويظل الأمر محصوراً فى مساحة الاجتهاد، ومفجراً لنقاش موضوعى نحن أحوج له من أى وقت مضى!
استمع إلىّ بإنصات، ثم قال: لا مانع.. فقد سُئلت كثيراً فى حوارات «الجزيرة» عن الشأن الداخلى المصرى.. لكنى آثرت أن تدار المناقشة والحوار فى الداخل.. غير أننا يجب أن نتفق أولاً على المساحات التى نطؤها، حتى لا تأخذنا أمواج الحديث إلى شواطئ هامشية لا تفيد.
حين تتحاور مع الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل، لابد أن تعلن حالة الاستنفار الذهنى.. فالرجل يعنى كل كلمة يقولها.. لا يستطرد فيما يمكن فهمه بكلمات قليلة، ولا يترك منطقة غائمة دون أن يبدد غموضها ويهيئها للناظرين..
هكذا دار حوارنا الذى استغرق خمس ساعات على جلستين متتاليتين.. وراق له، ولى، أن ينقسم إلى ثلاثة أجزاء: الأول هو ما تطالعونه اليوم، ويتضمن كلمة مطولة كتبها بقلمه توطئة لهذا الحوار..
والثانى يركز على مستقبل مصر، وما يراه - من وجهة نظره - لبناء دولة قوية وإنسان أقوى.. والثالث يكشف فيه أسرار ما كان وما جرى فى تقرير «جولدستون»، الذى أثار جدلاً واسعاً على المستويين الإقليمى والدولى.
وقبل أن نقرأ.. ربما يكون مناسباً أن أقول إن هذا الحوار المطول إنما يمثل اجتهاداً للإجابة عن أسئلة المستقبل.. وفى الاجتهاد دائماً فرصة لبدء حوار إيجابى ونقاش موضوعى.. وفى الحوار والنقاش حق أصيل لى ولك، لأن الشعوب ترتقى حين تتحاور.. وتندثر عندما تتعارك..!
■ أعرف، وأنت تعرف، أن أى حوار مفتوح يأخذ المشاركين مرات كثيرة إلى أبعد مما يريدون، وأوسع مما هو مناسب، بقصد التركيز والفهم.
ويمكن أن تسمح بأن نحاول معاً أولاً وقبل كل شىء تحديد إطار ما تريد أن تتحدث فيه، وأنا أيضاً أريد أن أتحدث فيه، ولكى أكون صريحاً معك فإن أمور الشأن الداخلى موضوعات سُئلت عنها فى حوارات على قناة الجزيرة، لكنى آثرت هناك أن أختصر وأنقل هذه المناقشة إلى هنا - فى الداخل وليس من بعيد.
وإذا حاولنا معاً وضع إطار، أظننا يمكن أن نتفق على مجموعة نقط نستطيع أن نعدها بالعدد، وبعدها نستطيع الاستطراد فى الحوار والمناقشة، ونقدر بعدها أن نشرد إلى أى اتجاه، وندخل فى تفاصيل أى رواية.
نتفق أولاً على إطار ثم نمضى فى الكلام مرسلاً إلى حيث يأخذنا.
أولاً: اسمح لى بداية أن أقول لك إننا بلد فى أزمة معقدة متشابكة، اقتصادية - اجتماعية - سياسية - ثقافية ، وفى بعض المرات إنسانية.
عندنا مشاكل مخيفة فى قصور التنمية، وفى تخلفها، خصوصاً فى مجال الصحة والتعليم - فى العدالة الاجتماعية - فى التفاوتات الطبقية، إلى درجة مرعبة، ولم يحدث من قبل فى مصر أن بلغ مثل هذا التفاوت بين سكان القصور وسكان القبور.
لدينا أزمة عدل، وأزمة قانون، وأزمة إدارة، وأزمة ثقة. حيثما التفتّ هناك أزمة - هناك استعصاء - هناك عجز.
وثانياً: ليس هناك شك فى أن القوة الكامنة فى الشعب المصرى، والقدرة على البناء فيه - نحن شعب من البنائين - حققت ظهوراً لبعض الفئات وهو ما نشهده فى حركة العمران، لكنى وأظنك معى تخشى من أى نمو غير مخطط يهزم أغراضه فى النهاية، لأن النهوض حركة اجتماعية عامة، وليست فئات تبنى حياتها فى جزر معزولة.
وأنا أول من يسلم أننا بلد محدود فى موارده الاقتصادية، لكننا بلد غير محدود فى طاقاته الإنسانية، إذا استقام توظيفها.
وثالثاً: فإننا اعتمدنا فى علاجنا لمشاكلنا الداخلية على سياسات تكاد تذكرنا بنهايات الدول والعصور، فهى سياسات تعتمد على التخويف والإلهاء.
بمعنى أن الأمن موجود فى كل قضية، وسابق لأى فعل، وهذه مسألة ثقيلة ومهينة أيضاً، بمعنى أن عنصر الإلهاء يدخل مع عنصر الأمن ويسير معه جنباً إلى جنب، وأمامك قوة عناصر الأمن المركزى التى تصدم النظر فى كل ميدان فى القاهرة وغيرها من المدن، وهناك شاشات ومهرجانات لا تكف عن الصخب طوال الوقت، صارخة ملونة بذيئة فى كثير من الأحيان.
ورابعاً: هناك التغطية على مشاكلنا الحقيقية، لأننا نمارس عملية تمويه بأشكال من العلاقات العامة بدائية.
مثلاً نريد أن نظهر الحرص على الناس فى خطر أنفلونزا الطيور أو الخنازير أو أى أنفلونزا أخرى، ونروح نبالغ فى إظهار الحرص على الناس إلى درجة إصابتهم بالرعب - إلى درجة الوصول إلى إجراءات من نوع إعدام كل الخنازير فى مصر بطريقة متوحشة - ثم إرباك كل فصول التعليم والدراسة فى مصر، إلى درجة أن منظمة الصحة العالمية أرسلت تسألنا باستغراب واستنكار «ماذا تفعلون؟!».
بين دول العالم كلها لم يفعل أحد ما فعلناه، لكننا نريد أن نظهر أننا حريصون على الناس، بينما يموت بيننا من الجوع أو أثناء الهجرة من اليأس أضعاف أضعاف من يمكن أن تصيبهم أنفلونزا الخنازير.
وخامساً: فى سياستنا العربية نحن أسأنا إدارة علاقاتنا، وأعطينا إحساساً - صحيحاً أو غير صحيح - بأننا نريد أن نستفيد إعلامياً فى الغالب على حساب الآخرين، ونريد أن نفرض أنفسنا كوسطاء بينهم وبين العالم، وهم لا يحتاجون إلى وساطة، ثم إننا نتصرف أمام أكبر وأخطر القضايا وكأن لدينا تفويضاً - لا أعرف ممن - بأن نتصرف وفق حكمة عندنا لا يعرف سرها غيرنا!!
وهذا كلام لا يفعله أحد، والنتيجة أن معظم العالم العربى ابتعد، ولك أن تعد البلاد العربية بلداً بلداً، وسوف تجد أن الذين تباعدوا كثيرون، وأن هناك أقلية تريد أن تكفى نفسها وجع الدماغ، أو تريد أن تتوارى وراءنا، وتترك لنا الصدارة، فمادام التصدر يعجبنا فهم يستطيعون تركه لنا، وأما عن الحصاد فنحن خارج الحساب إلا من كلمات تغطى الخلل بإطراءات ومدائح يعرفون أنها ترضينا وتسرنا، وهذا حال لا هو مرضٍ ولا هو سار.
وسادساً: نحن فى سياساتنا مع العالم الخارجى لم نعد ندير سياسات مهتمة بقضاياه، وإنما كله فعل فى الظاهر، وكله نشاط على السطح، وهدفه بالدرجة الأولى - وكل الناس يعرفون - أنه موجه إلى نوع آخر من العلاقات العامة تغطى الخلل فى الداخل والتراجع فى الإقليم بحكايات وحواديت وصور ليس وراءها تأثير حقيقى.
قل لى يا أستاذ «مجدى» أين نحن من آسيا.. أين نحن من الصين ومن الهند ومن إندونيسيا؟
أين نحن من أفريقيا.. أين نحن من دول الجوار المحيط بنا؟! أين نحن من أوروبا بالفعل وليس بالخيال، كما أظهرت انتخابات اليونسكو الأخيرة، وكذلك جلسة التصويت على تقرير «جولدستون» فى مجلس حقوق الإنسان؟!! بل أين نحن من الولايات المتحدة - بالمفهوم الحقيقى لعلاقات متكافئة؟!
أين نحن من إسرائيل - بالمفهوم الحقيقى لعلاقات مقبولة؟!
سابعاً: فى مجمل هذا كله إن السياسة المصرية الراهنة أضعف جداً مما تريده وتستحقه مصر غداً، فنحن سياسياً أمام طرق مسدودة، وبصراحة شديدة فنحن أمام ظروف غير قابلة للاستمرار، وبالتالى أوضاع غير قابلة للدوام!!
■ إننا لانزال حيارى فى أهم ما تحملنا به من مسؤوليات، ففى قضية السلام مثلاً أمامنا الخرافة التى أوحت إلينا أن «أوباما هو الحل» لم تعد قائمة ولا نافعة.
لكننا نريد أن نوهم أنفسنا أو نوهم الناس، بينما إسرائيل تقول لنا بأعلى صوت إن ما سمى بعملية السلام انتهت، وأن ما نراه أمامنا على الأرض فى إسرائيل هو نفسه الحل النهائى ولا زيادة عليه.
لكننا مصممون على الوهم، ليس هذا فقط، ولكننا نخذل أصدقاءنا.
كل العالم الذى كان مهتماً لم يعد مهتماً.
كل الهيئات والمؤسسات التى أعطتنا حقاً، ابتداءً من محكمة العدل فى قضية «الجدار العازل»، ومجموعة «جولدستون» فى مأساة غزة، تجاهلناها كلها لمجرد أننا نعتمد الأوهام التى نحبها.
«ليبرمان» وزير خارجية إسرائيل يقول هذا الأسبوع بغلاظة ما كنا نحس به من التصرفات، وأن إسرائيل لديها ما تأخذه، لكن ليس لديها ما تعطيه.
ثم إن الولايات المتحدة التى كان فيها الأمل من وقت «نيكسون» و«كيسنجر»، ووقت «أوباما» و«ميتشل» - ليس لديها الوقت لنا، عندها من مشاكلها ما يكفيها وزيادة بعد أن جرى طرح ما لا يقل عن ثلاثين مبادرة مختلفة، أى مبادرة كل سنة - مبادرات مبادرات حتى فرغ المخزون كله، ونحن مصممون على الوهم أو الإيهام!!
ليست المبادرات هى التى فرغت فقط، ولكن جوائز «نوبل» أيضاً.
جائزة لـ«كيسنجر» - جائزة لـ«السادات» - جائزة لـ«بيجن» - جائزة لـ«عرفات» - جائزة لـ«رابين» - جائزة لـ«بيريز» - وكلها عن مبادرات، وأخيراً جائزة لـ«أوباما» دون مبادرات!!
المبادرات تتلاحق والجوائز تجىء، والسلام بعيد أكثر مما كان فى أى وقت مضى!!
■ أى أن المستقبل فى أبسط الأحوال - وحتى لا أصدمك وأقول - خطر ومجهول - ولكى لا أصدمك وأقول إنه مرعب، فإذا تركنا أوضاعه كما هى فنحن فى الطريق إلى فوضى وإلى انفجار وإلى خروج كامل من العصر، نغوص بعده فى مستنقع لا نعرف كيف نخرج منه.
تذكر القول الشائع فى السياسة بأنه إذا لم يستطع الناس حل أزماتهم بإراداتهم، فإن هذه الأزمات سوف تحل نفسها بنفسها.
وإذا لم نستطع أن نحل أزماتنا بطريقة منظمة، فسوف تحل الأزمات نفسها بطريقة غير منظمة.
إذا لم تقم أنت بفك اللغم من تحتك، فإن هذا اللغم لن ينتظر إذنك حتى ينفجر.
■ أعرف وتعرف أن هناك ترتيبات يتصور بعضهم أنها قادرة على المستقبل، وترى ويرى معك كل الناس أنها قاصرة قبل أن تبدأ، وخذ ما يلى:
أولاً: الرئيس «مبارك» - وأنا رجل يحترم الحدود ويحترم المقامات - له فى الحكم الآن ما يصل إلى ثلاثين سنة، وهو يحكم باسم النظام الذى قام فى ٢٣ يوليو، وفى الحقيقة فإنه لم يكن نظاماً واحداً، وإنما ثلاثة نظم مع ثلاثة رجال، كل منهم له تصورات مختلفة متباعدة بعد السماء عن الأرض، وأنا واحد من الذين يعرفون أن ثورة يوليو توقفت سنة ١٩٦٧، وأنه بعد يونيو ١٩٦٧ فإن «جمال عبدالناصر» ظل فى الواقع يقود الوطنية المصرية الموصولة بالقومية العربية وليس بالضبط ثورة يوليو حتى وصلنا إلى يوم ٦ أكتوبر ١٩٧٣، وكان «أنور السادات» معتمداً على شرعية يوليو السابقة، وشرعية الوطنية المصرية بعدها، هو الرجل الذى أصدر قرار القتال، لكن لسوء الحظ فإن النهايات فى أكتوبر لم تكن على مستوى البدايات، فقد كان السلاح عظيماً فى أدائه، وكانت السياسة أداء آخر قادت إليه أوهام لا داعى للحديث عنها الآن.
لكن فى النتيجة قامت أوضاع.
لا هى ثورة يوليو، ولا هى إرادة الوطنية المصرية، ولا هى مستوى أداء السلاح، كل هذه العناصر غابت أو غُيبت بقصد أو بجهل، والنتيجة أحوال ضاعت فيها السياسة، واختلطت الطرق، وتاه الناس.
وبدا يوماً بعد يوم أن المستقبل ضبابى.
كان آخر نبض سياسى فى مصر هو انتفاضة الطبقة المتوسطة فى ١٨ و١٩ يناير ١٩٧٧، التى سماها الرئيس «السادات» «انتفاضة الحرامية»، وكانت هى التى قادته بعد ذلك إلى الطريق الكارثى نحو زيارة القدس!!
وبعد القدس حكاية الانفتاح، وبعد الانفتاح قصص يطول شرحها.
ودخلنا إلى التيه فى كل اتجاه وأى اتجاه.
وقد وصلنا الآن إلى نهاية الطريق - وعند هذه النهاية فإننا نبحث عن مستقبل.
هناك تصور للمستقبل يلقى إلى الناس من جانب ما يسمى بـ«الحزب الوطنى»، وهو كيان نظامى، وأنا لا أقول تنظيمى، لأنه ليس تعبيراً شعبياً أو طبقياً أو فكرياً، وإنما ببساطة مسألة سلطة لها أدواتها، ومصالح لها مطالبها، وكلاهما بعيد عن أى نوع من أنواع الشرعية الدستورية أو القانونية بالمعنى الحقيقى لما هو دستورى وقانونى.
والغريب أن هذا الحزب هو تناسخ غير متسق للاتحاد القومى القديم - ثم الاتحاد الاشتراكى القديم - ثم حزب مصر الذى لم يعش طويلاً، غيّر اسمه إلى الحزب الوطنى القديم أيضاً!
ثم إن هذا التناسخ السياسى حدث بالتوازى مع شىء من نفس النوع للأشخاص، وهكذا توازى ما يجرى سياسياً مع ما يجرى طبقياً.
وتصور المستقبل كما ينزل إلينا من الحزب الوطنى غريب فى بابه:
هناك جماعة تسمى نفسها «الحرس القديم»، وتبشرنا بأن المستقبل مأمون مع رئاسة أخرى خامسة للرئيس «مبارك» - الذى سوف يرشح نفسه من جديد سنة ٢٠١١.
وهناك جماعة تسمى نفسها «الحرس الجديد»، وتبشرنا بأن الرئاسة القادمة ليست له - بعد عمر طويل - وإنما فى وريث قادم إلى السلطة بدرجة القرب وبأحقية الإرث، أو بممارسة الديمقراطية وصناديق الاقتراع، كما نعرفها فى التجربة العربية!
وتلك كلها ليست بالضبط ملامح مستقبل واعد، ولا بشارات أمل يمكن الاطمئنان إليه.
والمشكلة الكبرى أن الدستور المعمول به يساعد ويمهد لأشياء من هذا النوع، وعلى نحو حديدى تمثله المادة ٧٦، الطارئة على دستور جرى تعديله وتبديله وترقيعه عدة مرات، حتى أصبح مهلهلا.
ويغطى ولكنه لا يستر - هناك فارق بين الغطاء والستر.
وإذا كانت هذه الأوضاع لا تضمن مستقبلا - إذن فما هو العمل؟! خصوصا إذا كنا نريد انتقالاً منظماً من إحباط إلى أمل.
بمعنى أننا لا نريد أحوال فوضى، ولا أحوال انقلاب، وإنما نريد انتقالا يستطيع الرئيس «مبارك» نفسه أن يقدم به خدمة جليلة للأمة تذكرها له إلى الأبد وتشكره عليها على طول العصور.
بوضوح:
١- هناك انتقال ضرورى للسلطة لخلق أوضاع تواجه عالما مختلفا.
٢- كل ما هو مرسوم للانتقال الآن لا يؤدى إلا: إما إلى فوضى أو انفجار، لا أحد يستطيع تقدير مداه.
٣- لقد حدثت فى مصر وحتى غيرها من البلاد العربية لكى نكون منصفين أحوال تفريغ من الحياة السياسية وتجريفها.
فطول البقاء فى السلطة مع القهر الشديد، سواء بدعاوى الأمن أو دعاوى الاستقرار، عطل تواصل الأجيال فى كل نواحى الحياة فى مصر.
ونتيجة هذه العملية - التفريغ والتجريف - أنه لم يعد ممكنا أن يحدث انتقال سهل من رجل إلى رجل فى طلب استمرار طبيعى.
لا يحتاج البلد إلى انتقال فقط، ولكن إلى فترة انتقالية.
وهناك عدد من الرجال تطرح أسماؤهم بدائل فى البحث عن أمل، لكن المشكلة الكبرى أنه ليس فى مقدور واحد منهم بمفرده أن يملأ الفجوة الهائلة بين الواقع والمطلوب.
هناك أسماء مطروحة ومعنى طرحها أن هناك ثقة فيهم، وأنهم رجال وقع عليهم اختيار الناس بالحس الطبيعى المرهف لشعب أرهقته أوضاعه الراهنة.
هناك اسم السيد «عمرو موسى»، وهناك الدكتور «محمد البرادعى»، وهناك الدكتور «أحمد زويل»، وهناك اللواء «عمر سليمان»، وهناك الدكتور «مجدى يعقوب»، والمستشار طارق البشرى، وهناك غيرهم رجال تلوح أسماؤهم فى الأفق، وعلى سبيل المثال منهم الدكتور «حازم الببلاوى»، والدكتور «محمد غنيم»، والدكتور «يحيى الجمل»، وهناك آخرون غير هؤلاء، خصوصا ممن يمكن أن يمثلوا التيار الدينى، وهو رافد مهم فى الحياة السياسية المصرية، وممن يمكن أن يمثلوا المرأة، وهى نصف المجتمع بالتعبير الدارج.
وتصورى أنه من هؤلاء جميعا ومن غيرهم يمكن تشكيل ما يمكن أن نسميه مجلس أمناء الدولة والدستور، بالكثير عشر أو خمس عشرة شخصية، مع ملاحظة أن هناك خارج مصر فيضاً بشرياً من الكفاءات، تركها اضطرارا وإحباطاً، وهذا مخزون هائل من الكفاءات على استعداد للاستجابة إذا أحس بأمل.
والحقيقة أننا فى حاجة إلى بناء دولة - وليس مجرد حكومة أو سلطة.
ونحن فى حاجة إلى دستور يكون عقدا اجتماعياً قادرا على أن يصون كل ما هو أصيل فى هذا البلد، ويفتح الطريق إلى كل ما هو مطلوب لمستقبله.
وفى ظنى أن يكون هذا المجلس فى حضور القوات المسلحة وهيبتها، متمثلة فى المشير «محمد حسين طنطاوى»، ثم أن يكون دوره انتقاليا لثلاث سنوات، يقوم فيها بعدة مهام ضرورية لإعادة قاطرة الوطن إلى قضبانها السليمة بعد قضبان تؤدى إلى لا مكان، كما هو الحال الآن.
ومجلس أمناء الدولة والدستور، كما أقترحه، يكون هدفه فتح طريق مغلق.
رجال كل منهم له قيمته المعترف بها، وله دوره المشهود، وأهم من ذلك أنه حتى على نحو غير مرتب وغير مخطط حظى بدرجة من ثقة الناس عن بعد، مما جعلهم يفكرون فيه ويرشحون ويطالبون به حلا، هيئة تقود عملية انتقال سياسى له أساس تفرضه إرادة شرعية متعالية على كل الأهواء - شرعية عقد اجتماعى حقيقى، كما قلت وأكرر - ويمكن فى فترة الانتقال أن تظل هناك وزارة تقوم بمهام التنفيذ، وأنا شخصيا أقبل أن يرأسها رجل مثل «محمد رشيد»، وأن يكون نائبه رجلاً مثل «يوسف بطرس غالى»، ففى ذلك ضمانة حتى لا يتعطل التنفيذ فى انتظار إعادة البناء السياسى، وفى ذلك أيضا درجة من الاستمرار تكفل التغيير دون أن تؤدى إلى انقطاع خلال فترة انتقالية لا تطول عن ثلاث سنوات.
فى نهاية ما نريد الإقرار به قبل أن نسترسل فى الحوار إلى حيث يأخذنا، فعلينا أن نفهم أن كل ما نقوله أو نعرضه سوف يكون مآله الإعراض والرفض.
أولاً: لأن هناك من يعتقد أنه ليس فى الإمكان أبدع مما كان.
وثانيا: لأن هناك من سوف يبدون الاستهوال أن نبدأ من جديد بفترة انتقالية لإعادة البناء، لكننى واحد من الذين يعتقدون أنه مهما تأخرنا، فإننا سوف نعود يوما ما بلدا جديدا، ببساطة لأن التركيبة السياسية كما هى حاليا تحملت أكثر مما تستطيع.
ثالثا: هناك من سوف يقول إن مجلس أمناء الدولة والدستور من كل هؤلاء الرجال أعجز من أن ينهض بالمسؤولية، وذلك فى ظنى غير دقيق، فهؤلاء جميعا رجال ذوو تجربة محترمة فى كل المجالات، ثم هم رجال تعلقت بهم آمال جماهير عريضة، حتى دون أن يطرحوا أنفسهم، ثم إن تقديرهم للمسؤولية سوف يخلق بينهم روابط مهمة شبه مقدسة، مرجوة من شعب يأمل فيهم لمهمة محددة تفتح طريقا إلى جيل أكثر شبابا وأكثر جرأة على المستقبل.
وفى كل الأحوال فهذا مجرد تصور مطروح للنقاش، وبالتأكيد فقد نتوصل إلى ما هو أكفأ منه.
رابعا: هناك من سوف يقول إن ذلك مخالف للدستور، وهذه سمعتها من قبل، عندما اقترحت قبل سنوات فكرة إنشاء مجلس للرئاسة، يعمل بجوار الرئيس، حتى يتعرف الناس على وجوه مختلفة.
لكن الدستور الذى اتسع لمادة بحجم «المادة ٧٦»، وهو حجم قصة لنجيب محفوظ - لا تسمح بنوده بأى اقتراح من هذا النوع - كذلك يقال لنا
خامسا: سوف تجد من يقول إن ذلك كلام حاقدين موتورين ينبغى أن يطوح به إلى بعيد، ولا يناقشه أحد، أو يطرح بديلا له للانتقال من إحباط مستبد إلى همة تقدر، وسوف تقرأ وتسمع كثيرا لا علاقة له بالموضوع، لكنه لسوء الحظ أسلوب عنيف وعقيم فى ممارسة العمل السياسى، وهو جزء من أزمته الراهنة!!
ولنا الآن أن نترك أنفسنا للحوار يأخذنا إلى حيث نشاء!!
إذن.. فهو المستقبل الذى يملكنا، بينما ينبغى أن نمتلكه.. ولأننى أعرف قدرته الهائلة على التحليل والتفكير، بادرته بما دار فى ذهنى.. قلت له إن تشخيص اللحظة الراهنة شغلنا أكثر مما ينبغى.. هكذا أرى.. وأن النقد بات أسهل من الاستشراف، والهدم أرخص من البناء، وكلمة «لا» تصنع أبطالاً ولكنها لا تنير سبيلاً.. وأنت تمتلك مفاتيح الرؤية ورموز المعادلات..
فدعنا نضع تصوراتك ومقترحاتك لمستقبل تراه أفضل، ويظل الأمر محصوراً فى مساحة الاجتهاد، ومفجراً لنقاش موضوعى نحن أحوج له من أى وقت مضى!
استمع إلىّ بإنصات، ثم قال: لا مانع.. فقد سُئلت كثيراً فى حوارات «الجزيرة» عن الشأن الداخلى المصرى.. لكنى آثرت أن تدار المناقشة والحوار فى الداخل.. غير أننا يجب أن نتفق أولاً على المساحات التى نطؤها، حتى لا تأخذنا أمواج الحديث إلى شواطئ هامشية لا تفيد.
حين تتحاور مع الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل، لابد أن تعلن حالة الاستنفار الذهنى.. فالرجل يعنى كل كلمة يقولها.. لا يستطرد فيما يمكن فهمه بكلمات قليلة، ولا يترك منطقة غائمة دون أن يبدد غموضها ويهيئها للناظرين..
هكذا دار حوارنا الذى استغرق خمس ساعات على جلستين متتاليتين.. وراق له، ولى، أن ينقسم إلى ثلاثة أجزاء: الأول هو ما تطالعونه اليوم، ويتضمن كلمة مطولة كتبها بقلمه توطئة لهذا الحوار..
والثانى يركز على مستقبل مصر، وما يراه - من وجهة نظره - لبناء دولة قوية وإنسان أقوى.. والثالث يكشف فيه أسرار ما كان وما جرى فى تقرير «جولدستون»، الذى أثار جدلاً واسعاً على المستويين الإقليمى والدولى.
وقبل أن نقرأ.. ربما يكون مناسباً أن أقول إن هذا الحوار المطول إنما يمثل اجتهاداً للإجابة عن أسئلة المستقبل.. وفى الاجتهاد دائماً فرصة لبدء حوار إيجابى ونقاش موضوعى.. وفى الحوار والنقاش حق أصيل لى ولك، لأن الشعوب ترتقى حين تتحاور.. وتندثر عندما تتعارك..!
■ أعرف، وأنت تعرف، أن أى حوار مفتوح يأخذ المشاركين مرات كثيرة إلى أبعد مما يريدون، وأوسع مما هو مناسب، بقصد التركيز والفهم.
ويمكن أن تسمح بأن نحاول معاً أولاً وقبل كل شىء تحديد إطار ما تريد أن تتحدث فيه، وأنا أيضاً أريد أن أتحدث فيه، ولكى أكون صريحاً معك فإن أمور الشأن الداخلى موضوعات سُئلت عنها فى حوارات على قناة الجزيرة، لكنى آثرت هناك أن أختصر وأنقل هذه المناقشة إلى هنا - فى الداخل وليس من بعيد.
وإذا حاولنا معاً وضع إطار، أظننا يمكن أن نتفق على مجموعة نقط نستطيع أن نعدها بالعدد، وبعدها نستطيع الاستطراد فى الحوار والمناقشة، ونقدر بعدها أن نشرد إلى أى اتجاه، وندخل فى تفاصيل أى رواية.
نتفق أولاً على إطار ثم نمضى فى الكلام مرسلاً إلى حيث يأخذنا.
أولاً: اسمح لى بداية أن أقول لك إننا بلد فى أزمة معقدة متشابكة، اقتصادية - اجتماعية - سياسية - ثقافية ، وفى بعض المرات إنسانية.
عندنا مشاكل مخيفة فى قصور التنمية، وفى تخلفها، خصوصاً فى مجال الصحة والتعليم - فى العدالة الاجتماعية - فى التفاوتات الطبقية، إلى درجة مرعبة، ولم يحدث من قبل فى مصر أن بلغ مثل هذا التفاوت بين سكان القصور وسكان القبور.
لدينا أزمة عدل، وأزمة قانون، وأزمة إدارة، وأزمة ثقة. حيثما التفتّ هناك أزمة - هناك استعصاء - هناك عجز.
وثانياً: ليس هناك شك فى أن القوة الكامنة فى الشعب المصرى، والقدرة على البناء فيه - نحن شعب من البنائين - حققت ظهوراً لبعض الفئات وهو ما نشهده فى حركة العمران، لكنى وأظنك معى تخشى من أى نمو غير مخطط يهزم أغراضه فى النهاية، لأن النهوض حركة اجتماعية عامة، وليست فئات تبنى حياتها فى جزر معزولة.
وأنا أول من يسلم أننا بلد محدود فى موارده الاقتصادية، لكننا بلد غير محدود فى طاقاته الإنسانية، إذا استقام توظيفها.
وثالثاً: فإننا اعتمدنا فى علاجنا لمشاكلنا الداخلية على سياسات تكاد تذكرنا بنهايات الدول والعصور، فهى سياسات تعتمد على التخويف والإلهاء.
بمعنى أن الأمن موجود فى كل قضية، وسابق لأى فعل، وهذه مسألة ثقيلة ومهينة أيضاً، بمعنى أن عنصر الإلهاء يدخل مع عنصر الأمن ويسير معه جنباً إلى جنب، وأمامك قوة عناصر الأمن المركزى التى تصدم النظر فى كل ميدان فى القاهرة وغيرها من المدن، وهناك شاشات ومهرجانات لا تكف عن الصخب طوال الوقت، صارخة ملونة بذيئة فى كثير من الأحيان.
ورابعاً: هناك التغطية على مشاكلنا الحقيقية، لأننا نمارس عملية تمويه بأشكال من العلاقات العامة بدائية.
مثلاً نريد أن نظهر الحرص على الناس فى خطر أنفلونزا الطيور أو الخنازير أو أى أنفلونزا أخرى، ونروح نبالغ فى إظهار الحرص على الناس إلى درجة إصابتهم بالرعب - إلى درجة الوصول إلى إجراءات من نوع إعدام كل الخنازير فى مصر بطريقة متوحشة - ثم إرباك كل فصول التعليم والدراسة فى مصر، إلى درجة أن منظمة الصحة العالمية أرسلت تسألنا باستغراب واستنكار «ماذا تفعلون؟!».
بين دول العالم كلها لم يفعل أحد ما فعلناه، لكننا نريد أن نظهر أننا حريصون على الناس، بينما يموت بيننا من الجوع أو أثناء الهجرة من اليأس أضعاف أضعاف من يمكن أن تصيبهم أنفلونزا الخنازير.
وخامساً: فى سياستنا العربية نحن أسأنا إدارة علاقاتنا، وأعطينا إحساساً - صحيحاً أو غير صحيح - بأننا نريد أن نستفيد إعلامياً فى الغالب على حساب الآخرين، ونريد أن نفرض أنفسنا كوسطاء بينهم وبين العالم، وهم لا يحتاجون إلى وساطة، ثم إننا نتصرف أمام أكبر وأخطر القضايا وكأن لدينا تفويضاً - لا أعرف ممن - بأن نتصرف وفق حكمة عندنا لا يعرف سرها غيرنا!!
وهذا كلام لا يفعله أحد، والنتيجة أن معظم العالم العربى ابتعد، ولك أن تعد البلاد العربية بلداً بلداً، وسوف تجد أن الذين تباعدوا كثيرون، وأن هناك أقلية تريد أن تكفى نفسها وجع الدماغ، أو تريد أن تتوارى وراءنا، وتترك لنا الصدارة، فمادام التصدر يعجبنا فهم يستطيعون تركه لنا، وأما عن الحصاد فنحن خارج الحساب إلا من كلمات تغطى الخلل بإطراءات ومدائح يعرفون أنها ترضينا وتسرنا، وهذا حال لا هو مرضٍ ولا هو سار.
وسادساً: نحن فى سياساتنا مع العالم الخارجى لم نعد ندير سياسات مهتمة بقضاياه، وإنما كله فعل فى الظاهر، وكله نشاط على السطح، وهدفه بالدرجة الأولى - وكل الناس يعرفون - أنه موجه إلى نوع آخر من العلاقات العامة تغطى الخلل فى الداخل والتراجع فى الإقليم بحكايات وحواديت وصور ليس وراءها تأثير حقيقى.
قل لى يا أستاذ «مجدى» أين نحن من آسيا.. أين نحن من الصين ومن الهند ومن إندونيسيا؟
أين نحن من أفريقيا.. أين نحن من دول الجوار المحيط بنا؟! أين نحن من أوروبا بالفعل وليس بالخيال، كما أظهرت انتخابات اليونسكو الأخيرة، وكذلك جلسة التصويت على تقرير «جولدستون» فى مجلس حقوق الإنسان؟!! بل أين نحن من الولايات المتحدة - بالمفهوم الحقيقى لعلاقات متكافئة؟!
أين نحن من إسرائيل - بالمفهوم الحقيقى لعلاقات مقبولة؟!
سابعاً: فى مجمل هذا كله إن السياسة المصرية الراهنة أضعف جداً مما تريده وتستحقه مصر غداً، فنحن سياسياً أمام طرق مسدودة، وبصراحة شديدة فنحن أمام ظروف غير قابلة للاستمرار، وبالتالى أوضاع غير قابلة للدوام!!
■ إننا لانزال حيارى فى أهم ما تحملنا به من مسؤوليات، ففى قضية السلام مثلاً أمامنا الخرافة التى أوحت إلينا أن «أوباما هو الحل» لم تعد قائمة ولا نافعة.
لكننا نريد أن نوهم أنفسنا أو نوهم الناس، بينما إسرائيل تقول لنا بأعلى صوت إن ما سمى بعملية السلام انتهت، وأن ما نراه أمامنا على الأرض فى إسرائيل هو نفسه الحل النهائى ولا زيادة عليه.
لكننا مصممون على الوهم، ليس هذا فقط، ولكننا نخذل أصدقاءنا.
كل العالم الذى كان مهتماً لم يعد مهتماً.
كل الهيئات والمؤسسات التى أعطتنا حقاً، ابتداءً من محكمة العدل فى قضية «الجدار العازل»، ومجموعة «جولدستون» فى مأساة غزة، تجاهلناها كلها لمجرد أننا نعتمد الأوهام التى نحبها.
«ليبرمان» وزير خارجية إسرائيل يقول هذا الأسبوع بغلاظة ما كنا نحس به من التصرفات، وأن إسرائيل لديها ما تأخذه، لكن ليس لديها ما تعطيه.
ثم إن الولايات المتحدة التى كان فيها الأمل من وقت «نيكسون» و«كيسنجر»، ووقت «أوباما» و«ميتشل» - ليس لديها الوقت لنا، عندها من مشاكلها ما يكفيها وزيادة بعد أن جرى طرح ما لا يقل عن ثلاثين مبادرة مختلفة، أى مبادرة كل سنة - مبادرات مبادرات حتى فرغ المخزون كله، ونحن مصممون على الوهم أو الإيهام!!
ليست المبادرات هى التى فرغت فقط، ولكن جوائز «نوبل» أيضاً.
جائزة لـ«كيسنجر» - جائزة لـ«السادات» - جائزة لـ«بيجن» - جائزة لـ«عرفات» - جائزة لـ«رابين» - جائزة لـ«بيريز» - وكلها عن مبادرات، وأخيراً جائزة لـ«أوباما» دون مبادرات!!
المبادرات تتلاحق والجوائز تجىء، والسلام بعيد أكثر مما كان فى أى وقت مضى!!
■ أى أن المستقبل فى أبسط الأحوال - وحتى لا أصدمك وأقول - خطر ومجهول - ولكى لا أصدمك وأقول إنه مرعب، فإذا تركنا أوضاعه كما هى فنحن فى الطريق إلى فوضى وإلى انفجار وإلى خروج كامل من العصر، نغوص بعده فى مستنقع لا نعرف كيف نخرج منه.
تذكر القول الشائع فى السياسة بأنه إذا لم يستطع الناس حل أزماتهم بإراداتهم، فإن هذه الأزمات سوف تحل نفسها بنفسها.
وإذا لم نستطع أن نحل أزماتنا بطريقة منظمة، فسوف تحل الأزمات نفسها بطريقة غير منظمة.
إذا لم تقم أنت بفك اللغم من تحتك، فإن هذا اللغم لن ينتظر إذنك حتى ينفجر.
■ أعرف وتعرف أن هناك ترتيبات يتصور بعضهم أنها قادرة على المستقبل، وترى ويرى معك كل الناس أنها قاصرة قبل أن تبدأ، وخذ ما يلى:
أولاً: الرئيس «مبارك» - وأنا رجل يحترم الحدود ويحترم المقامات - له فى الحكم الآن ما يصل إلى ثلاثين سنة، وهو يحكم باسم النظام الذى قام فى ٢٣ يوليو، وفى الحقيقة فإنه لم يكن نظاماً واحداً، وإنما ثلاثة نظم مع ثلاثة رجال، كل منهم له تصورات مختلفة متباعدة بعد السماء عن الأرض، وأنا واحد من الذين يعرفون أن ثورة يوليو توقفت سنة ١٩٦٧، وأنه بعد يونيو ١٩٦٧ فإن «جمال عبدالناصر» ظل فى الواقع يقود الوطنية المصرية الموصولة بالقومية العربية وليس بالضبط ثورة يوليو حتى وصلنا إلى يوم ٦ أكتوبر ١٩٧٣، وكان «أنور السادات» معتمداً على شرعية يوليو السابقة، وشرعية الوطنية المصرية بعدها، هو الرجل الذى أصدر قرار القتال، لكن لسوء الحظ فإن النهايات فى أكتوبر لم تكن على مستوى البدايات، فقد كان السلاح عظيماً فى أدائه، وكانت السياسة أداء آخر قادت إليه أوهام لا داعى للحديث عنها الآن.
لكن فى النتيجة قامت أوضاع.
لا هى ثورة يوليو، ولا هى إرادة الوطنية المصرية، ولا هى مستوى أداء السلاح، كل هذه العناصر غابت أو غُيبت بقصد أو بجهل، والنتيجة أحوال ضاعت فيها السياسة، واختلطت الطرق، وتاه الناس.
وبدا يوماً بعد يوم أن المستقبل ضبابى.
كان آخر نبض سياسى فى مصر هو انتفاضة الطبقة المتوسطة فى ١٨ و١٩ يناير ١٩٧٧، التى سماها الرئيس «السادات» «انتفاضة الحرامية»، وكانت هى التى قادته بعد ذلك إلى الطريق الكارثى نحو زيارة القدس!!
وبعد القدس حكاية الانفتاح، وبعد الانفتاح قصص يطول شرحها.
ودخلنا إلى التيه فى كل اتجاه وأى اتجاه.
وقد وصلنا الآن إلى نهاية الطريق - وعند هذه النهاية فإننا نبحث عن مستقبل.
هناك تصور للمستقبل يلقى إلى الناس من جانب ما يسمى بـ«الحزب الوطنى»، وهو كيان نظامى، وأنا لا أقول تنظيمى، لأنه ليس تعبيراً شعبياً أو طبقياً أو فكرياً، وإنما ببساطة مسألة سلطة لها أدواتها، ومصالح لها مطالبها، وكلاهما بعيد عن أى نوع من أنواع الشرعية الدستورية أو القانونية بالمعنى الحقيقى لما هو دستورى وقانونى.
والغريب أن هذا الحزب هو تناسخ غير متسق للاتحاد القومى القديم - ثم الاتحاد الاشتراكى القديم - ثم حزب مصر الذى لم يعش طويلاً، غيّر اسمه إلى الحزب الوطنى القديم أيضاً!
ثم إن هذا التناسخ السياسى حدث بالتوازى مع شىء من نفس النوع للأشخاص، وهكذا توازى ما يجرى سياسياً مع ما يجرى طبقياً.
وتصور المستقبل كما ينزل إلينا من الحزب الوطنى غريب فى بابه:
هناك جماعة تسمى نفسها «الحرس القديم»، وتبشرنا بأن المستقبل مأمون مع رئاسة أخرى خامسة للرئيس «مبارك» - الذى سوف يرشح نفسه من جديد سنة ٢٠١١.
وهناك جماعة تسمى نفسها «الحرس الجديد»، وتبشرنا بأن الرئاسة القادمة ليست له - بعد عمر طويل - وإنما فى وريث قادم إلى السلطة بدرجة القرب وبأحقية الإرث، أو بممارسة الديمقراطية وصناديق الاقتراع، كما نعرفها فى التجربة العربية!
وتلك كلها ليست بالضبط ملامح مستقبل واعد، ولا بشارات أمل يمكن الاطمئنان إليه.
والمشكلة الكبرى أن الدستور المعمول به يساعد ويمهد لأشياء من هذا النوع، وعلى نحو حديدى تمثله المادة ٧٦، الطارئة على دستور جرى تعديله وتبديله وترقيعه عدة مرات، حتى أصبح مهلهلا.
ويغطى ولكنه لا يستر - هناك فارق بين الغطاء والستر.
وإذا كانت هذه الأوضاع لا تضمن مستقبلا - إذن فما هو العمل؟! خصوصا إذا كنا نريد انتقالاً منظماً من إحباط إلى أمل.
بمعنى أننا لا نريد أحوال فوضى، ولا أحوال انقلاب، وإنما نريد انتقالا يستطيع الرئيس «مبارك» نفسه أن يقدم به خدمة جليلة للأمة تذكرها له إلى الأبد وتشكره عليها على طول العصور.
بوضوح:
١- هناك انتقال ضرورى للسلطة لخلق أوضاع تواجه عالما مختلفا.
٢- كل ما هو مرسوم للانتقال الآن لا يؤدى إلا: إما إلى فوضى أو انفجار، لا أحد يستطيع تقدير مداه.
٣- لقد حدثت فى مصر وحتى غيرها من البلاد العربية لكى نكون منصفين أحوال تفريغ من الحياة السياسية وتجريفها.
فطول البقاء فى السلطة مع القهر الشديد، سواء بدعاوى الأمن أو دعاوى الاستقرار، عطل تواصل الأجيال فى كل نواحى الحياة فى مصر.
ونتيجة هذه العملية - التفريغ والتجريف - أنه لم يعد ممكنا أن يحدث انتقال سهل من رجل إلى رجل فى طلب استمرار طبيعى.
لا يحتاج البلد إلى انتقال فقط، ولكن إلى فترة انتقالية.
وهناك عدد من الرجال تطرح أسماؤهم بدائل فى البحث عن أمل، لكن المشكلة الكبرى أنه ليس فى مقدور واحد منهم بمفرده أن يملأ الفجوة الهائلة بين الواقع والمطلوب.
هناك أسماء مطروحة ومعنى طرحها أن هناك ثقة فيهم، وأنهم رجال وقع عليهم اختيار الناس بالحس الطبيعى المرهف لشعب أرهقته أوضاعه الراهنة.
هناك اسم السيد «عمرو موسى»، وهناك الدكتور «محمد البرادعى»، وهناك الدكتور «أحمد زويل»، وهناك اللواء «عمر سليمان»، وهناك الدكتور «مجدى يعقوب»، والمستشار طارق البشرى، وهناك غيرهم رجال تلوح أسماؤهم فى الأفق، وعلى سبيل المثال منهم الدكتور «حازم الببلاوى»، والدكتور «محمد غنيم»، والدكتور «يحيى الجمل»، وهناك آخرون غير هؤلاء، خصوصا ممن يمكن أن يمثلوا التيار الدينى، وهو رافد مهم فى الحياة السياسية المصرية، وممن يمكن أن يمثلوا المرأة، وهى نصف المجتمع بالتعبير الدارج.
وتصورى أنه من هؤلاء جميعا ومن غيرهم يمكن تشكيل ما يمكن أن نسميه مجلس أمناء الدولة والدستور، بالكثير عشر أو خمس عشرة شخصية، مع ملاحظة أن هناك خارج مصر فيضاً بشرياً من الكفاءات، تركها اضطرارا وإحباطاً، وهذا مخزون هائل من الكفاءات على استعداد للاستجابة إذا أحس بأمل.
والحقيقة أننا فى حاجة إلى بناء دولة - وليس مجرد حكومة أو سلطة.
ونحن فى حاجة إلى دستور يكون عقدا اجتماعياً قادرا على أن يصون كل ما هو أصيل فى هذا البلد، ويفتح الطريق إلى كل ما هو مطلوب لمستقبله.
وفى ظنى أن يكون هذا المجلس فى حضور القوات المسلحة وهيبتها، متمثلة فى المشير «محمد حسين طنطاوى»، ثم أن يكون دوره انتقاليا لثلاث سنوات، يقوم فيها بعدة مهام ضرورية لإعادة قاطرة الوطن إلى قضبانها السليمة بعد قضبان تؤدى إلى لا مكان، كما هو الحال الآن.
ومجلس أمناء الدولة والدستور، كما أقترحه، يكون هدفه فتح طريق مغلق.
رجال كل منهم له قيمته المعترف بها، وله دوره المشهود، وأهم من ذلك أنه حتى على نحو غير مرتب وغير مخطط حظى بدرجة من ثقة الناس عن بعد، مما جعلهم يفكرون فيه ويرشحون ويطالبون به حلا، هيئة تقود عملية انتقال سياسى له أساس تفرضه إرادة شرعية متعالية على كل الأهواء - شرعية عقد اجتماعى حقيقى، كما قلت وأكرر - ويمكن فى فترة الانتقال أن تظل هناك وزارة تقوم بمهام التنفيذ، وأنا شخصيا أقبل أن يرأسها رجل مثل «محمد رشيد»، وأن يكون نائبه رجلاً مثل «يوسف بطرس غالى»، ففى ذلك ضمانة حتى لا يتعطل التنفيذ فى انتظار إعادة البناء السياسى، وفى ذلك أيضا درجة من الاستمرار تكفل التغيير دون أن تؤدى إلى انقطاع خلال فترة انتقالية لا تطول عن ثلاث سنوات.
فى نهاية ما نريد الإقرار به قبل أن نسترسل فى الحوار إلى حيث يأخذنا، فعلينا أن نفهم أن كل ما نقوله أو نعرضه سوف يكون مآله الإعراض والرفض.
أولاً: لأن هناك من يعتقد أنه ليس فى الإمكان أبدع مما كان.
وثانيا: لأن هناك من سوف يبدون الاستهوال أن نبدأ من جديد بفترة انتقالية لإعادة البناء، لكننى واحد من الذين يعتقدون أنه مهما تأخرنا، فإننا سوف نعود يوما ما بلدا جديدا، ببساطة لأن التركيبة السياسية كما هى حاليا تحملت أكثر مما تستطيع.
ثالثا: هناك من سوف يقول إن مجلس أمناء الدولة والدستور من كل هؤلاء الرجال أعجز من أن ينهض بالمسؤولية، وذلك فى ظنى غير دقيق، فهؤلاء جميعا رجال ذوو تجربة محترمة فى كل المجالات، ثم هم رجال تعلقت بهم آمال جماهير عريضة، حتى دون أن يطرحوا أنفسهم، ثم إن تقديرهم للمسؤولية سوف يخلق بينهم روابط مهمة شبه مقدسة، مرجوة من شعب يأمل فيهم لمهمة محددة تفتح طريقا إلى جيل أكثر شبابا وأكثر جرأة على المستقبل.
وفى كل الأحوال فهذا مجرد تصور مطروح للنقاش، وبالتأكيد فقد نتوصل إلى ما هو أكفأ منه.
رابعا: هناك من سوف يقول إن ذلك مخالف للدستور، وهذه سمعتها من قبل، عندما اقترحت قبل سنوات فكرة إنشاء مجلس للرئاسة، يعمل بجوار الرئيس، حتى يتعرف الناس على وجوه مختلفة.
لكن الدستور الذى اتسع لمادة بحجم «المادة ٧٦»، وهو حجم قصة لنجيب محفوظ - لا تسمح بنوده بأى اقتراح من هذا النوع - كذلك يقال لنا
خامسا: سوف تجد من يقول إن ذلك كلام حاقدين موتورين ينبغى أن يطوح به إلى بعيد، ولا يناقشه أحد، أو يطرح بديلا له للانتقال من إحباط مستبد إلى همة تقدر، وسوف تقرأ وتسمع كثيرا لا علاقة له بالموضوع، لكنه لسوء الحظ أسلوب عنيف وعقيم فى ممارسة العمل السياسى، وهو جزء من أزمته الراهنة!!
ولنا الآن أن نترك أنفسنا للحوار يأخذنا إلى حيث نشاء!!
مجدى الجلاد
Almasry Alyoum
No comments:
Post a Comment