لا أستطيع ان افهم منطق الذين يريدون ان ينشئوا تناقضا جوهريا بين الولاء للدين والولاء للوطن.
لا افهم منطقهم لسبب يبدو لي واضحا غاية الوضوح هو أن ولاء الانسان للدين لايعني الا أن يكون له الحق في أن يعتنق ما يشاء من العقائد والمذاهب وأن يجهر بعقيدته التي اختارها, ويدعو لها اذا أراد ويؤدي ما تفرضه عليه من شعائر دون أن يشعر بحرج, أو يتعرض لأي اضطهاد
.فاذا كان هذا هو معني الولاء للدين فهو لا يتعارض أدني تعارض مع الولاء للوطن بالمعني الذي نفهمه اليوم من الوطن والولاء له. بل ان الولاء للدين لايتحقق الا بالولاء للوطن.
وكيف يصح للانسان أن يمارس أي نشاط,, كيف يمكنه أن يؤمن بفكرة ويعمل بالفكرة التي آمن بها دون أن يكون مواطنا في بلد من البلاد يعيش فيه وينتمي لأهله؟
!لكن هذه القضية التي أطرحها عليكم اليوم تحتاج لشيء من التوضيح لأن معظمنا لايحس بهذا التعارض الذي يمكن أن ينشأ بين الولاء للدين والولاء للوطن.
مصر بلد اسلامي وغالبية المصريين مسلمون..
والدين بالنسبة للمصريين, أو بالنسبة لمعظمهم يكاد يتطابق مع الوطن.
فالولاء لمصر ولاء للاسلام, والولاء للاسلام ولاء لمصر
.ولاشك أن في هذا الذي ذكرته شيئا من التبسيط والتعميم.. فالتطابق ليس كاملا بين الدين والوطن.
لأن بعض المصريين ليسوا مسلمين.
ولأن بعض المسلمين المصريين يعتقدون أنهم مسلمون قبل أن يكونوا مصريين. وأن وطنهم الحقيقي هو الاسلام, أو هو أي بلد يكون دينه الاسلام وكما يستوي بالنسبة لهؤلاء أن يحملوا الجنسية المصرية أو الباكستانية, يستوي بالنسبة لهم, ذلك أن يكون ملكهم أو رئيسهم مصريا أو افغانيا أو تركيا.
وهذا ليس مجرد منطق وإنما هو رواية لواقعة حقيقية. فقد صرح بعض زعماء الجماعات الدينية بأن جنسية الحاكم لا تهمه مادام مسلما.
وتقديم الولاء للدين علي الولاء للوطن أو إثارة التناقض بينهما مسئول عن إثارة الفتنة الدينية في مصر هذه الأيام.
ولاشك في أنه مسئول عن كوارث أخري لم نلتفت إليها كما يجب. وفي مقدمتها أن يتخلي المسلمون عن وطنهم وقت الشدة فرارا بدينهم الذي يمكن أن يرغمهم الاعداء علي التخلي عنه إذا انتصروا عليهم وحكموهم.
وفي اعتقادي أن هذا الهلع الذي ينتمي للعصور الوسطي هو الذي دفع خمسة ملايين مسلم للتخلي عن الأندلس, واللجوء إلي بلاد المغرب ومعهم مفاتيح بيوتهم التي تركوها في قرطبة وأشبيلية وغرناطة.
وهو الذي دفع مئات الآلاف من الفلسطينيين للتخلي عن مدنهم وقراهم أمام العصابات الصهيونية في الوقت الذي لم تكن فيه نسبة اليهود تزيد علي خمسة عشر في المائة من سكان فلسطين!
هكذا تري أن الوطن لايعني الكثير لدعاة الدولة الدينية التي تجمع بين اهلها رابطة الدين, وتستمد حكومتها شرعيتها من الله لامن الشعب. فالحاكم يتولي منصبه ويمارس سلطته بتفويض إلهي كما يزعم!
وليس باختيار الناس له كما هي الحال في الدولة الوطنية التي تستمد شرعيتها من انعقاد كلمة الناس عليها, واتفاقهم علي أن تمثلهم وتتولي الدفاع عن أمنهم وحريتهم وأرضهم ومصالحهم.
وهذا هو العقد الاجتماعي كما سماه فلاسفة التنوير الذين قادوا أوربا الغربية في طريق الحرية, وأسقطوا حكم الطغيان, وفصلوا بين الدين والدولة فليس يحق لرجال السياسة أن يتدخلوا في الأمور الدينية, وليس يحق لرجال الدين أن يتدخلوا في السياسة.وأنا أرجو المعذرة لأني ابتعدت عن مسألة التعارض بين الولاءين واستطردت في الحديث عن الفرق بين الدولتين
.لكن هذا الحديث الذي استطردت فيه كان لابد منه لأقول إن التعارض بين الولاء للدين والولاء للوطن يمكن أن يثور ويصبح مشكلة عنيفة حتي في البلاد التي ينتمي معظم سكانها لعقيدة واحدة, طالما كان الوعي السائد يسوي بين الولاءين ولايميز بينهما
.الدين علاقة بين الانسان وربه
. والولاء للدين إذن ولاء شخصي والتزام فردي فليس يحق لمواطن أن يسأل مواطنا عن عقيدته أو يحاسبه علي أنه اختار مذهبا دون مذهب آخر.
لكن المواطنة علاقة بين المواطنين بعضهم وبعض.
والولاء للوطن إذن ليس مجرد عاطفة, ولكنه واجب نلتزم بأدائه لنحصل علي مايقابله من حقوق.
عليك أن تؤدي خدمة العلم, وأن تدفع الضرائب المقررة, وأن تحترم قوانين بلادك ليكون لك الحق في أن تعيش حرا, وأن تملك ماكسبته يداك, وأن تعتنق ماشئت من عقائد, وتعبر عما لديك من افكار, وتشارك في اختيار من ينوبون عنك ويحكمون بلادك وعلي الدولة, أن تكفل لك هذه الحقوق, وتمكنك من التمتع بها عن طريق القوانين التي تسنها والمؤسسات والأجهزة التي تنشئها.
الفصل بين الدين والدولة هو الطريق الوحيد لنفي التعارض بين الولاء للوطن والولاء للدين.
هكذا وضع المصريون يدهم علي الشعار العبقري الذي رفعوه في ثورة1919
المجيدة الدين لله. والوطن للجميع
احمد عبد المعطى حجازى
نقلا عن جريدة الأهرام
No comments:
Post a Comment