الواحد يصحي الصبح ويعمل فنجان القهوة ويمسك الجرائد ويلف لفة سريعة عليها يلاقي دماغه هي بتلف ويجيله زغللة وحول، والمخ يهنج ويحتاج إعادة تنشيط بعد فقدان الذاكرة المؤقت.
أول إمبارح أغلب عناوين الصحف تتحدث عن أنفلونزا الخنازير والطيور وشتائم في حزب الله وعملته السوداء والعلاقات المصرية الليبية ودولة الجوار الشقيقة التي يملكها ملك الملوك ورئيس الرؤساء وأمير المؤمنين ودكتور الدكاترة وأستاذ الأساتذة وربنا يستر علينا من العدوي، وأخبار عن مجلس الشعب وفضيحة النواب الباطلين وصورتين »هامتين« الأولي للست هيفاء وهبي وهي بفستان الفرح وهو سبق صحفي كان ينتظره كل المصريين، والثانية للست نائبة رئيس حكومة إسبانيا وهي تمد يدها بفخر واعتزاز وألاطة إلي فلاحة مصرية غلبانة لتلطع عليها قبلة مصرية أصيلة، وحدث هذا أثناء زيارتها لدهشور ولأن البلد دي ما لهاش صاحب، فلابد أن تحدث مثل هذه الأشياء لأن الأمن مشغول بإضرابات أبريل القادم..
بعد ذلك خبر منشور في جريدة واحدة عن الجامعات المصرية التي خرجت من »ذيل« الترتيب العالمي لأفضل 500 جامعة.. والذيل »هو« العصعص« يعني إحنا ما حصلناش حتي كرسي في العصعص العلمي للجامعات، وخبر تاني صغير عن صفوت الشريف الذي يقول إن الرئيس طلب تنظيم ندوات ومحاضرات لتعريف الجيل الجديد من المصريين بالنضال الذي خاضه الشعب من أجل تحرير سيناء!! والخبران مرتبطان ببعض إلي أبعد الحدود.. إزاي؟
.. بما أن التعليم يسير من أسفل إلي أعلي، إذن التعرف علي التعليم الابتدائي والإعدادي يعطي صورة واضحة لمركز جامعاتنا في المستقبل القادم المشرق وغالباً بعد عشر سنوات من الطرد من »الذيل« سيتم الحجر علينا لعدم كمال الأهلية، وما يحدث الآن من امتحانات للكادر ورسوب المدرسين في المعلومات العامة، ثم دراسة تغيير نظام الثانوية العامة للمرة الخمستاشر والهتافات العبيطة بالقضاء علي الدروس الخصوصية.
. كل هذه الهرتلة تدل علي غياب تام للوعي لدي الوزارات المختصة بالتعليم والتي لا يعرف وزراؤها أن التعليم الجامعي يتم في المنازل والقاعات والدروس الخصوصية أيضاً، وكله بالملازم والأسئلة المتوقعة.
والكارثة الكبري التي تسمي بالكتاب الجامعي.. والنتيجة هي السير من فشل إلي فشل أشد، ومن خيبة إلي خيبة بـ »الويبة« والعربية هي تساوي اثنين »كيلة« وهي من مكاييل الغلة.
وأبلغ دليل هو أن الرئيس نفسه اكتشف أن الأجيال الجديدة لا تعرف شيئاً عن احتلال سيناء ولا عن الهزيمة ولا عن حرب أكتوبر ولا عن مفاوضات طابا ولا عن تحريرها..
وإذا سألت شابا أو شابة عن طابا وإذا كان قد ذهب إليها في فسحة جميلة سيقول أعرفها، وإذا سألته عن موقعها لن يعرف أين تقع طابا علي خريطة مصر الجغرافية؟ وهذه ليست مبالغة لأنني سألت بعض الشباب بالفعل. وهذه أيضاً نتيجة لحال التعليم لدينا..
المدارس تحولت إلي شوارع خلفية يتم فيها التحرش والتعليق علي الأبواب والضرب بالكرباج وحفظ مفردات الشتائم النادرة ثم تطور الأمر إلي القتل بالأرجل أو بالرعب أو الخنق من فراش المدرسة لطفلة في فصل خال من أجل سرقة الحلق لأنها مدارس تفتقد الهيكل البدائي لدور العلم غاب عنها ما يسمي بـ »الإشراف« والمشرف هو من يلف ويدور في أروقة المدارس طوال اليوم زمان قوي علي أيامنا.
الفصل يصل فيه عدد التلاميذ في بعض المدارس لأكثر من مائة تلميذ، ولكي يتم تحصيل أي علم لتخرج المدرسة بأي نتيجة آخر العام، تحول التعليم إلي مجاميع ودروس خصوصية..
خلينا في المجاميع التي هي لمن ـ لا يعلم ـ نوعان.. الأول: مجاميع عادية قانونية تتم في فصول المدرسة وعدد التلاميذ فيها يتراوح من ثلاثين إلي خمسين تلميذ وسعرها عشرة جنيهات في الشهر، والمدرس الذي يعمل في المدرسة يقوم بتأليف »ملزمة« خاصة تباع للتلاميذ بخمسة جنيهات بها ملخص مفيد وأسئلة مفيدة متوقعة.. ومن خبث المدرس يطبع عليها مساحات سوداء حتي لا يتم تداولها بالتصوير ويحصل عليها تلاميذ لم يدخلوا المجموعة..
والنوع الثاني: يطلق عليه »المجموعة المتميزة« ويكون مكانها في منازل التلاميذ ويكون عددها أقل من عشرين، وكل تلميذ يدفع 25 جنيهاً ويشتري الملزمة المخصوصة بعشرة جنيه، وهذه الملزمة بها ملخص المخلص وبهريز الأسئلة التي لا يخرج عنها الامتحان أبداً أبداً أبداً.. هذا المدرس لا يستحق اللعنة والمطاردة، بل يستحق الشكر الجزيل لأنه أخذ ينصح في المناهج المشوهة التي لا تصلح للاستعمال الآدمي.. وأخذ ينظمها ويجعلها قابلة لبعض الفهم ولكثير كثير من الحفظ وهو ما يضمن النجاح آخر العام.
حدثتني فتاة صغيرة في المرحلة الإعدادية في التليفزيون في أكتوبر الماضي وسألتني: والنبي يا طنط تقولي لي أي حاجة عن حرب أكتوبر وسيناء والكلام ده عشان عندي موضوع تعبير ومش عارفة أكتب فيه حاجة.
. سألتها: تعرفي إيه عن احتلال سيناء؟ ما أعرفش.
تعرفي أين تقع سيناء؟.. ها أشوف في الخريطة أصلي خايبة في الجغرافيا..
طيب سيناء كانت محتلة كام سنة؟ قالت بسرعة ست سنين أنا سمعتها كده..
من الذي احتل سيناء؟.. صمتت، ثم ضحكت.. بينما كدت أنا أبكي..
وللعلم هذه الفتاة ذكية ومجتهدة ولكن هذا هو المستوي المعرفي للمرحلة الإعدادية ولن أتحدث عن مستوي الإملاء في اللغة العربية لأنها حالة ميئوس منها بداية من المراحل الابتدائية حتي مراحل الجامعات التي طردت من الذيل والعصعص العلمي العالمي
. والخلاصة.. لا تعليم ولا ذاكرة وطنية ولا انتماء، ولكن ربما يكون السفر إلي إسرائيل هو الإنجاز الوحيد. لو بإيدي أجمع كل وزراء التعليم منذ خمسين عاماً. الأحياء منهم، وأقدمهم للمحاكمة بتهمة الخيانة العظمي.. وأجمع كل لجان التطوير وأعضائها الذين يعملون منذ الثمانينيات وأطفحهم الفلوس اللي قبضوها وألغي كل منح الاتحاد الأوروبي للتعليم والنشر والمعرفة وإذا كان فيه منح من حتة تانية زي أمريكا ولاّ الصين ولاّ غيرها.. وأحاكم كل من كان مسئولاً عن ميزانية وزارة التعليم المتواضعة التي جعلت من مديري المدارس متسولين يطلبون من التلاميذ الجدد دكك وكراسي وشبابيك وسبورة، وفي بعض الأحيان سكر وزيت وصلصة للنشاط المدرسي..
دائرة الفشل تبدأ في الحضانة وتكتمل عند مراحل البحث العلمي..
الوزراء يتوالون علي الوزارة ليدمر كل وزير خطة الوزير السابق ويطرد معاونيه ومحاسيبه ويبدأ خطة جديدة ويأتي بمعاونيه ومحاسيبه ولا مانع من ابن أخو مرات الوزير أو جوز بنت وكيل الوزارة لأنهم علي علم ومقدرة عالية تؤهلهم لتأليف كتب وقصص تقرر في مناهج التعليم ويقبضوا بسرعة قبل الوزير ما يمشي..
الملايين تهدر في تغيير المقررات وتباع الكتب المطبوعة في العام الماضي لتجار اللب وتطبع كتب جديدة ومناهج جديدة كل عام. مجلس الشعب مشغول بتوافه الأمور كالعادة ونحن مقبلون علي كارثة أشد وطأة من أنفلونزا الطيور والخنازير والبني آدمين لأن ضحايا هؤلاء ربما يكونوا بالمئات أو حتي بالآلاف، ولكن ضحايا أنفلونزا التعليم وبائية خطيرة قاتلة سيكون ضحيتها الوطن بأكمله.. ولن تجدي معها أمصال ولا أدوية ولا حتي نقل أعضاء.
. الخبر الذي نكد علىَّ وسود الدنيا في وشي نشر في جريدة واحدة وعلي استحياء لأن المهم بالنسبة لعامة الشعب هو صورة فرح »هيفاء وهبي«..
جتنا نيلة في أيامنا الهباب.
بقلم: د. لميس جابر
نقلا عن الوفد
No comments:
Post a Comment