بعيداً عن المشاركة فى المناحات التى يبدو أنها أمست لعبة مفضلة فى مصر، فإننى أراهن على تيار فكرى وسياسى يتنامى باطراد، خاصة فى أوساط النخبة، وهى التى تقود أى تغيير حقيقى فى تاريخ الأمم والشعوب..
هذا التيار يمكن أن نصطلح على تسميته بـ«الليبرالية الجديدة».
وصفة «الجديدة» تأتى تمييزاً للمرحلة الراهنة عن الجذور التى زرعها آباء النهضة منذ ١٩١٩، والتى لم تكد تؤتى ثمارها حتى انقض عليها عسكر يوليو ليجهضوها فى زمن الثورات والانقلابات، التى ولَّى عهدها غير مأسوف عليها.
وبالطبع ليس الفرق التاريخى هو وجه الاختلاف الوحيد بين ليبرالية مطلع القرن العشرين، وتلك التى تتبلور فى الألفية الثانية، فهناك تطورات دولية وإقليمية انعكست على فكر وخبرات الجيل الجديد، ولعل أبرز تلك السمات أن الليبراليين الجدد يؤسسون مواقفهم على حسابات براجماتية، بمعنى الانحياز لمصالح الناس، وهى اللغة التى تفهمها الدول والشعوب.
العالم تغير، ويتغير صوب هذه الجهة أو تلك، كل هذا لا يهم، فليس بوسع العقلاء أن ينكروا ما طرأ على العالم من تحولات، باستثناء المغيبين، والمستفيدين من بقاء الناس على هذا النحو من التفكير المعادى للحياة المنتشر فى مصر الآن، والذى يفكر بالآخرة أكثر مما يهتم بشؤون دنياه، ولأن ذلك ضد طبائع الأمور، فإنه يتورط فى ممارسات النفاق، فلا نلمس أى مردود إيجابى على أخلاق الناس، رغم تفشى المظاهر التى توحى بالتدين
.الليبراليون بالطبع ليسوا ضد الدين، لكنهم لا يرونه سبباً للتمييز بين الناس فهو شأن شخصى، لأنه إذا كان من غير اللائق أن نسأل المرء عن علاقته بشريك حياته، فهل يستساغ السؤال عن صلته بخالقه؟
ويؤمن الليبراليون الجدد بأنهم يقدمون خدمة لمجتمعهم أكثر من هؤلاء الذين يسعون لتوريطه فى صدامات مع العالم، فلسنا وحدنا فى هذا الكون، إنما نحن مجرد أمة بين الأمم، وعلينا أن نقدم نماذج مشرفة للعالم، بدلاً من الانبهار برطانة أى ناعق يدعو الناس للانتحار والاكتئاب الجماعى.كان يمكن أن يرتبك المرء أمام السؤال عن وزن هذا التيار فى مصر ومحيطها الإقليمى، لولا حالة التواصل والمكاشفة غير المسبوقة التى وفرها الإنترنت، لتجعل التعتيم على المنطق ومحاولات اختطاف الشعوب مجرد لعبة سمجة لا تلقى رواجاً إلا بين المهووسين، الذين لم يعد يتسع العالم للمزيد منهم
.لم ينحصر الأمر فى الإنترنت، بل امتد لقطاعات واسعة من الشباب الذين أفلتوا من مستنقع الشعوذة الدينية و»اللغو القومجى» الذى يشوّه وعى الملايين بذاتهم، ويجعلهم يخجلون من «مصريتهم»، ليتمسحوا فى نظريات خرافية عن الوطن العربى الواحد.
من هنا يقطع الليبراليون الجدد بضرورة تعميق إحساس المصرى بهويته فى مواجهة المد السلفى البدوى من جهة، والخطاب العروبى العنصرى من جهة أخرى، فالمفكر والفنان والأديب والعامل، الذى تبلور وعيه فى مصر الليبرالية، كان موضع احترام العرب وغيرهم، واستقدموه بكرامة للاستفادة منه، بينما لم يفلح التمسح فى هوية الآخرين فى ذلك
.لا يرى الليبراليون العولمة خطراً داهماً كما يروّج قصار النظر والمستفيدون من بقاء الأوضاع المتردية، فالعولمة واقع كونى لا يفيد إنكاره، كما أنها تمهد للحداثة الفكرية والسياسية والاقتصادية، وبالتالى لا يتحرج الليبراليون من توظيف الضغوط الدولية للتصدى للاستبداد وتطبيق الديمقراطية، خاصة فى ظل عجز النخب والأحزاب الهشّة عن دحر العسكريتاريا المستبدة، والنظم العشائرية البدائية.
وسبق أن استعانت أوروبا بأمريكا لهزيمة النازية والفاشية، وهو ما عبر عنه (الكندى) حين قال إن «علينا أن نأخذ الحقيقة من أىٍ كان، سواء كان مشاركاً لنا فى الملّة أو لا»
.وللحديث بقية.
بقلم: نبيل شرف الدين
نقلا عن المصري اليوم
نقلا عن المصري اليوم
No comments:
Post a Comment