Sunday, April 12, 2009

الروائى صنع الله إبراهيم لـ«المصرى اليوم»: الفساد فى مصر على كل المستويات


من يصدق أن ذلك الأديب الذى تنساب كلماته على الورق، فتسطر بديع الحكى، ما بين قصة قصيرة، أو رواية طويلة، لا يحبذ فن الحوار، ولا يستخدم فى يومه سوى قليل الكلمات، لتكون معيناً له فى التعبير عن ذاته، ليأتى حكيه على الورق من دون الحياة.
تسأله فيجيبك بكلمات مقتضبة، تدفعك لحثه على المزيد منها، فلا تملك سوى تكرار السؤال بعد تحويره، أو الانتقال إلى جزء آخر من الحوار، إلا أن هدوءه المختبئ خلف جدران صمته، ومرارة بعض الذكريات، وإحباط بعضها الآخر، يجبرك فى النهاية على تجاوز التساؤلات، لترضى بما يمنحك إياه من إجابات، متمتعاً بالتعرف على تجربة بشرية تصلح أن تكون دراما أدبية أو سينمائية شديدة التأثير.
هكذا هو الأديب صنع الله إبراهيم، الذى يحيا البساطة ويعيشها بكل تفاصيلها وملامحها، فتتبدى فى ملبسه ومسكنه وأسلوب تعامله مع الآخرين، تتكدس الكتب فى بيته تزاحمه هو وزوجه عشهما الصغير،
ورغم سنوات عمره التى تجاوز السبعين بثلاثة أعوام، لايزال صوته شاباً فتياً يمتزج فيه الأمل فى غد أفضل، بلحظات انكسار غرق فيه ماضيه، ما بين طفولة مملة وصبا حائر، وشباب جاب فيه الحياة بحثاً عن ذات ، كما يقول، غير عابئ بسنوات تمضى، أو شخوص ترحل، أو أحلام تتوه بين اعتداد زائد بالنفس، وتجاهل المحيطين لطبيعة موهبته.
لا يفكر سوى فى القيمة التى ستذكر الناس بأمه بعد الرحيل، وإعلان المواقف التى تمنحه احترام الذات والقدرة على التعايش معها، أياً كانت رؤية الآخرين له، أو تفسيرهم لما يقوم به، أو تقييمهم لما يقدمه من أدب.
فى منزله كان اللقاء، وفى الموعد كان يفتح الباب بابتسامة ودودة تلمح من ورائها التوجس ممن أرادوا اقتحام عزلته الاختيارية، الكتب فى كل مكان، بعد أن اختنقت المكتبة بها، ورفضت الانصياع له باحتواء المزيد،
ضوء الشمس يغمر المكان من كل النوافذ المفتوحة فى آن واحد، وكأنه يستأنس بها، من وحشة ظلام يسكنه، أحاول تخفيف توتره، فأقول إن الحديث معه يسعى لتسجيل شهادته على عصر نحياه، وآخر مضى من عمره بعد أن جاوز السبعين، فيرد ضاحكاً: «ولماذا التذكير بحقيقة مرة؟» ثم يصمت منتظراً بدء الحوار، والانتهاء منه.
أسأل عن الميلاد ومكانه، وقد شابهما غموض، فتغيب الابتسامة عن وجهه، الذى يكتسى بجدية ممزوجة بحدة، ليبدأ الحديث مع «المصرى اليوم».
فى ١٩٣٧ كان الميلاد فى مستشفى الجلاء للولادة، كان الأب فى الخمسين من العمر، رجل على المعاش، له سابق عهد بزواج، وسابق عهد بأبناء آخرين، أما الأم، فهى زوجة ثانية أنجبت «صنع الله» بكرها، وليكون اسمه الذى لم يختره، أكبر معبر عنه، فهو مثل باقى البشر، صنيعة الله، تجسدت فيه ملامح البشرية بتناقضاتها وعفويتها، بمرحها وآلامها، حتى بصفائها وتعكرها، كل هذا فى آن واحد.
يتذكر طفولته قائلاً: «كان أبى رغم فارق السن بيننا، كل شىء، الصديق والأب والمعلم، كان قارئاً ممتازاً، وحكاءً بدرجة منحتنى القدرة على رؤية عوالم لم أعشها، كان يتعامل معى كما لو كان جدى لا أبى، أما أمى فقد فارقتها سريعاً، وأنا فى سن الخامسة، حينما أصيبت بمرض عصبى، استلزم مفارقتها لنا لنعيش أنا وأبى وشقيقتى، التى تصغرنى بخمس سنوات، بمفردنا منذ ذلك الوقت، وحتى الآن أتذكر لحظة انفجار غضبها نتيجة ذلك المرض وخروجها بصحبة جدتى من البيت ومعهما متعلقاتها. وأعتقد أن جزءاً كبيراً من عزلتى وانطوائى راجع لتلك اللحظة، وهو ما ازداد بمرور الأيام وترك ملامحه على نظرتى للمرأة والحياة، ولو أردت توصيفاً لطفولتى، فالملل عنوان لها، فلم يكن لى أصدقاء أو صحبة بسبب كثرة تنقلنا من حى لآخر، بسبب الظروف الاقتصادية.
من يقرأ مجموعة صنع الله إبراهيم القصصية الأولى، التى صدرت فى ١٩٦٦ بعنوان «تلك الرائحة»، يجد مشاهد لعلاقته بوالدته التى لم يستطع التنعم بحبها كثيراً، المرة الأولى فى قصة «أرسين لوبين» التى يسرد فيها قصة ذهاب طفل مع أبيه للمحكمة لرؤية والدته، التى لم تشعر به نتيجة مرضها، فلا تقل له سوى كلمة «إزيك»، ثم تشرد فلا يجد الصغير سوى الانصراف، والعودة لوالده.
أما المشهد الثانى ففى القصة التى حملت عنوان المجموعة، حينما يذهب البطل إلى بيت جدته لوالدته عقب خروجه من اعتقال سياسى، فيسأل عن تاريخ وفاة والدته، فيعرف أنها كانت منذ شهر قبل مجيئه، وعلى الرغم من رفض صنع الله إبراهيم، فكرة أن يكتب مذكراته فيما يقدمه للقراء من أعمال، إلا أن أعماله تشى بجزء من سيرته الذاتية التى تتضح فيها معالم وجود طاغٍ لصورة الأب، الذى يمثل لديه الكثير من المعانى فى مقدمتها «الحماية والأمان»، وهو ما تظهره قصة أغانى المساء، حيث الأب هو الحامى ، الموجود دوماً لإبعاد الأخطار عن ابنه وابنته، حتى ولو كان بالاختباء من غارة حربية تحت السرير، أو فى «الكنيف» - دورة المياه القديمة.
يكتب كاتبنا، راوياً على لسان أبطاله: «قال أبى تعالوا هنا أحسن، جذب بطانية من فوق السرير ثم انحنى على ركبتيه وزحف إلى أسفل السرير، وبسط البطانية على البلاط ثم دعانا لأن نلحق به، وسرعان ما كنا أنا وأختى تحت السرير بجواره، وكان يجلس على ركبتيه، محنياً إلى الأمام، حتى لا يصطدم بسقف السرير، وكمشنا إلى جواره وهو يحتضننا بذراعيه، وكنا نضحك أنا وأختى، أما هو فلم نكن نرى وجهه فى الظلام، وسمعناه يقول: «دلوقت لو وقعت علينا قنبلة حنقع على اللى فى المخبأ ومش حيحصلنا حاجة، أما هم ح يبقوا عجينة».
وينتقل صنع الله فى حواره معنا لمرحلة جديدة من مسيرته، فيقول: «تميز شبابى بالنشاط السياسى السرى الذى مارسته منذ التحاقى بكلية الحقوق بجامعة القاهرة فى العام ١٩٥٢، كنا شباباً ثائراً يتحدث عن الثورة والديمقراطية وضرورة عودة الجيش لثكناته، وجدت ذاتى فى أحد التنظيمات السرية الماركسية، بالطبع دون علم أبى الذى كان يرفض نشاطى السياسى، خوفاً على مستقبلى، لكننا كنا مندفعين بلا إرادة منا فى هذا العالم.
وفى رأيى أن الثورة مرت بمراحل تختلف كل منها عن الأخرى، الأولى من ١٩٥٢ حتى ١٩٥٦، وكان فيها ثوار من الجيش يجهلون الحكم والسياسة والمعطيات من حولهم، وباتوا يحكمون، وأرادوا الانفراد بالحكم فى تلك المرحلة التف المهتمون بالعمل السياسى حول مفهوم الديمقراطية، والحرية عبر صور عديدة منها التنظيمات السياسية على اختلاف تياراتها، وفى ١٩٦٥ بدأت مرحلة جديدة فى عمر الثورة شهدت تأميم قناة السويس، ونقل الثورة إلى حالة أخرى تميزت بوجود استراتيجية للمستقبل، وحملت العديد من الأفكار التى تروق للكثير من المثقفين، وممارسى العمل السياسى، كالعدالة الاجتماعية، والتنمية، والاعتماد على الذات من أجل رفعة المجتمع، لكنها حملت المزيد من السيطرة والانفراد بالحكم، ومنحنى الانتماء لليسارية، الكثير من العمق فى الرؤية، والقدرة على استيعاب الناس والمجتمع، وتفهم ما يمرون به من تجارب واستيعابها.
بالرغم مما يوجه للماركسية والفكر اليسارى من انتقادات، تتهمهما بترسيخ مبادئ الديكتاتورية، والتفرد بالحكم وسلطان الرأى الواحد، إلا أن صنع الله إبراهيم يرفض تلك الآراء، مبرراً ذلك بالقول: «هناك فارق شاسع بين المنهج الذى يقدم للناس طريقة للتفكير، القائم على الحقائق العلمية، والتطبيق الذى ارتبط بالعديد من الظروف الإقليمية والعالمية، بشكل أثر على ارتباط الماركسية بالديكتاتورية فى المجتمعات التى طبقتها».
أخذه العمل السياسى من دراسته، ليحترف العمل الثورى وبات ملكاً له على مدار ٢٤ ساعة، وبخاصة بعد وفاة والده عام ١٩٥٥، فيفشل فى الحصول على شهادة الحقوق، ويبدأ البحث عن عمل يقتات منه، فعمل بالترجمة تارة، وصحفياً بالقطعة تارة أخرى، كان يرى نفسه فى الصحافة، إلا أنه لم يكن ممن يطلبون الفرص الدائمة، كان يشعر أن فى الطلب امتهاناً لكرامته، وأن على من يريده للعمل معه، أن يطلبه دون سعى منه.
وهو ما يقول عنه: «فى تلك الفترة كان عبدالمنعم الصاوى، رئيس تحرير (المصرى)، فقررت أن أخطط لماكيت مجلة جديدة تقع فى ٢٤ صفحة، بنفس مقاس صحف التابلويد، وذهبت له وعرضتها عليه، وأنا أتخيل أن ينهض من مكانه منبهراً بما قدمت، لكنه لم يهتم».
وتأتى فترة سجنه خمس سنوات فى ١٩٥٩، حينما تم اعتقاله بتهمة الانضمام لأحد التنظيمات اليسارية السرية، لتضاف تجربة السجن الذى دام حتى عام ١٩٦٤، إلى تجاربه المريرة، وتحفر فى ذاكرته المزيد من الأسى، الذى يحكى عنه قائلاً: «فى فجر أحد أيام ١٩٥٩، وجدت طرقات شديدة على باب منزلى، قبضوا علىّ واقتادونى للسجن، الذى رأيت فيه عالماً مختلفاً يمتزج فيه الفن بالسياسة بالثقافة، معتقلين من كل لون، عبدالعظيم أنيس، شهدى عطية، محمود أمين العالم، وغيرهم الكثير،
فى البداية كانت الصورة مثيرة بالنسبة لى، لكن بعد ذلك بدأت المأساة حينما بدأ التعذيب بلا استثناء لأى منا، لم يكن الإيلام جسدياً فحسب، ولكن نفسياً أيضاً، وهو ما جعلنى أخرج من تلك التجربة رافضاً كل أشكال الامتهان للإنسان، أياً كان السبب، ولكنى لم أفقد إيمانى بثورة يوليو ولا بعبدالناصر الذى كنا نؤمن بوطنيته رغم اختلافنا مع مفهومه للديمقراطية.
فعبدالناصر كان يؤمن بالديمقراطية الاجتماعية التى لا تتعارض مع وجوده فى الحكم للأبد، ونحن لم يكن لدينا اعتراض على ذلك، بل على وجودنا فى السجون، جاء عبدالناصر فى زمن، كان فيه أكثر من «بابا» لدول العالم، كان هناك غاندى ونهرو فى الهند، وتشى جيفارا فى كوبا، وغيرهم الكثيرون، شخصيات تتجسد فيها أحلام شعوبها، وكان عبدالناصر هذا الشخص فى مصر جسد ما يعرف بفكرة «عبادة الفرد»، وهى فكرة لا تصلح لهذا الزمان الذى نعيشه انتهت عبادة الأفراد، باتت الحرية المطلقة بلا قيود هى الهدف، بات الناس يرددون عبارات معارضة التوريث والتأكيد على تداول السلطة ومحاربة الفساد ورفض الحكم المطلق، آلاف المرات كل يوم وليلة».
حتى العام ١٩٥٩، لم يكن هناك مجال لاحتراف الكتابة، قصة قصيرة فى الصبا، وقصيدة فى المراهقة، هذا فقط وحسب، إلا أن تجربة السجن منحته الفرصة لتداعى الصور والمشاهد من مناحٍ عدة فى حياته، ليشرع فى الكتابة، ويقرر المشاركة فى مسابقة فى الأدب، ينظمها المعتقلون من المثقفين، ويفوز بالمركز الثانى، بينما يفوز بالمركز الأول، نجار كان بين المعتقلين السياسيين، فى ذلك اليوم قرر صنع الله إبرهيم، عدم المشاركة فى أى مسابقة!!
يعلق على ذلك بقوله: لا أعلم سبباً حقيقياً ومحدداً، قد يكون رفضى مقارنتى بغيرى، وقد يكون لطبيعتى الخجلة الرافضة لطلب أى شىء أو السعى خلف أى شىء، لكنها صارت طبيعة لم أحد عنها حتى يومنا هذا، فأى جائزة لا تعد دليل تفوق فلان على فلان، وبالتالى فالفوز بالجائزة لا يعنى الأفضلية، فالحياة غنية بالمواهب، وأنا غير مهتم بتحديد مكانتى بين المبدعين، يكفى أن تتلقى الناس أعمالى وتقرأها.
وتأتى لحظة الإفراج عنه عام ١٩٦٤ بعفو رئاسى، ليخرج ويشاهد الحياة مرة أخرى، ويبذل محاولات للاندماج فيها من جديد، برؤية أخرى، وهو ما يقول عنه: «بعد خروجى من السجن كان يشغلنى البحث عن عمل، والبحث عن امرأة، عملت كبائع كتب فى مكتبة، فى الوقت نفسه تم تشكيل لجنة رسمية لمساعدة المعتقلين السياسيين على الالتحاق بعمل، فتم توزيعى على مصنع أبوزعبل، فرفضت الذهاب، حتى كان عام ١٩٦٦ حينما وفروا لى عملاً بوكالة أنباء الشرق الأوسط، كان عملى يتطلب مراجعة ما ينشر فى الصحف اليومية ومقارنته بما تبثه الوكالة كل يوم..
عمل بسيط لكننى ظللت به حتى ١٩٦٨، فى الوقت نفسه الذى رفضت فيه ممارسة العمل السياسى تحت لواء الاتحاد الاشتراكى، كنت أراه تنظيماً زائفاً، يعبر عن اعتقاد عبدالناصر وقتها، أنه ومن خلال هذا التنظيم سيجعل كل المصريين تحت يده»،
ينظر لى ويستدرك حديثه: «لا تعتبرى رأيى أنه ضد عبدالناصر، لأننا كنا نثق به كزعيم، ولكن كنا نرفض ممارسات حكمه البوليسية، كم من ناس اختفت فى الوكالة لمجرد الشك فى ولائها للنظام، وكم من رموز اعتقلت بلا سبب وهو ما جعل الجميع فى حالة ترقب وخوف».
لم يشهد العام ١٩٦٦ التحاق صنع الله إبراهيم بالعمل وحسب، لكنه شهد أيضاً طبعه مجموعته القصصية الأولى «تلك الرائحة»، وكانت تدور حول معتقل سياسى خرج لتوه من السجن، لم يقبض على طبعها أى نقود، بل دفع لصاحب المطبعة ٢٠ جنيهاً لينفذها له، ثم كانت الطامة حينما صدر قرار بمصادرتها من الرقابة، التى اعترضت على بعض ما جاء بها من تعبيرات جنسية، وبعدما حملها الدكتور عبدالقادر حاتم للرئيس عبدالناصر، ليعرض عليه ما وصل له اليساريون من انحطاط فى اللغة والفكر.
لكن صنع الله كان قد نجح فى تهريب ١٠٠ نسخة من المجموعة لعدد من الصحف والمثقفين الذين تناولوها بالحديث، ومنهم الأديب الدكتور يوسف إدريس، الذى كتب لها المقدمة، مؤكداً وضوح الموهبة بها وروعة أسلوبها، ومن بين ما كتب: «كنت خلال غياب صنع الله إبراهيم فى السجن، أسأل عنه خائفاً أن يعود الشاب ولا يعود الفنان، وفعلاً عاد الشاب وقابلته وسألته إن كان قد كتب، وفى خجل من نوع خاص، أعطانى هذه الرواية القصيرة التى قرأتها بل التهمتها فى جلسة واحدة، وحين انتهيت أحسست بأنى لست فقط أمام فنان عادى لكنى أمام موهبة جديدة أيضاً».
وتمضى الحياة، ويقرر صنع الله السفر إلى بيروت عام ١٩٦٨، ومن هناك سافر للعمل فى وكالة الأنباء الألمانية ببرلين، التى قضى بها عاملاً ثلاث سنوات، ليكون قراره فى ١٩٧١ السفر لموسكو، وتغيير المسار ودراسة الإخراج السينمائى!
وأسأله متعجبة عن تفسير ذلك التغيير المفاجئ، فيجيب: «السينما لغة عالمية، ووقتها كنت أحلم بتسجيل الحياة بكاميرا أحملها وأجوب العالم، أصور الناس والوجوه، وأسجل علاقة الإنسان وطبيعته، لكنى فشلت فى دراسة السينما لأن سنى كانت كبيرة، فصمموا لى برنامجاً لمدة عامين، أحدهما فى التأليف والآخر فى الإخراج، ولكننى لم ألتزم بالدراسة، وكتبت روايتى الثانية «نجمة أغسطس»، وطبعتها فى سوريا، وفى ١٩٧٤ كان قرار عودتى لمصر لم أستطع الابتعاد أكثر من هذا».
يعود صنع الله إبراهيم ويواصل مسيرته فى عالم الأدب، فيكتب «اللجنة» التى هاجم فيها سياسة الانفتاح الاقتصادى، و«بيروت بيروت» التى صور فيها الحرب الأهلية فى لبنان، و«شرف» و«وردة» و«أمريكانلى» و«ذات»،
ويظل صنع الله على موقفه من المسابقات، لا يتقدم لها لكنه ينتظر أن تأتيه، حتى إذا جاءته رفضها كما فعل فى ٢٠٠٣ حينما تم الإعلان عن فوزه بجائزة ملتقى الرواية العربية وقيمتها ١٠٠ ألف جنيه، لم يكن رفض الجائزة هو الحدث، بل الطريقة التى رفضها بها، فقد تلقى خبر فوزه ليلة الختام، فجلس يفكر فى كيفية قبول جائزة من نظام فقد شرعيته كما قال.
ويضيف: «كان قرارى برفض الجائزة نابعاً من رفضى لما آل إليه حالنا كوطن ومواطنين، لم يكن المقصود من موقفى الاعتذار عن عدم قبول الجائزة، لكننى كنت فى أمس الحاجة للتعبير عن مشاعرى وموقفى تجاه ما يحدث، ولو كنت اعتذرت وقت إبلاغى لتمكنوا من استدراك الأمر، واستبدلونى بفائز آخر، ومرت المسألة دون أن أتمكن من إعلان رأيى، وأعتقد أننى حققت هدفى، كانت كلمتى مثل حجر تم إلقاؤه فى بحيرة راكدة، ففى العام نفسه سقط صلاح منتصر أمام جلال عارف فى انتخابات نقابة الصحفيين، كما سمعنا صوت معارضة حقيقية تتبدى ملامحها فى كتابات المثقفين، أو تحركات المناهضين لحكومة أخطأت كثيراً فى حق المصريين.
ولا أقول إننى السبب الوحيد فهذا شرف لا أدعيه»، ويواصل سرد رؤيته قائلاً: «رغم الأمل الذى يحدونى فى أن المستقبل لابد أن يأتى حاملاً الجديد، إلا أن الصورة الآن قاتمة بشكل لا يمكن تجاهله، سياسة خارجية عاجزة، فساد على كل المستويات، تدنٍ فى مستوى المعيشة لنسبة كبيرة من المصريين وبشكل لم نعهده من قبل».
أطلب منه تبريراً لعدم التفاف الناس حول أى من الحركات السياسية مثل «كفاية»، وعدم اتساع المعارضة الشعبية أبعد من حيز منطقة وسط القاهرة، فيقول: «هذا صحيح وهو ناتج عن الكثير من العوامل لعل أبرزها، سنوات طويلة من الاستبداد والاستعمار الذى تعرض له المصريون وخلق نوعاً من الاستكانة فى الشخصية المصرية، أضيفى لهذا السياسة الإعلامية فى مصر، التى تمثل فى رأيى حالة من غسيل المخ للمصريين، فتجعلهم أسرى مباريات كرة القدم ما بين خسارة ومكسب، وغرقى فى طوفان من المسلسلات التى لا توقظ فيهم حالة التفكير، إلى جانب أننا لم نمارس النشاط السياسى منذ أكثر من ٥٠ سنة.
ورغم ذلك لدى أمل فى غد أفضل ألحظه فى ثورة الإنترنت ومنتديات الشباب الحالم الباحث عن التغيير، وأراه فى إضرابات المصريين من مختلف قطاعات العمل للمطالبة بحقوقهم، كما أراه فى فكر «كفاية» المنادية بحكومة ائتلافية تعبر عن كل المصريين، وهيئة رئاسية محايدة تقود البلاد خلال عامين»، ويصمت ثم يضيف باسماً: «أحياناً يتملكنى اليأس والحزن لأن ساعة التغيير قد تأتى بعد رحيلى من تلك الحياة، فلا أراها».
أترك صنع الله إبراهيم وهو غير نادم على السماح لنا باختراق عزلته، تتردد فى ذهنى عبارات له، وجدتها الأكثر تعبيراً عنه: «هل يوجد إنسان لا يحقد ولا يتألم من الرغبة فى السيطرة والضعف فى مواجهة العالم؟ من الافتقاد للحب والعجز عنه؟ من احتقار الناس والحاجة إليهم؟ من الإحساس بالقهر ومن ممارسة الاضطهاد؟ من معاناة الألم والاستمتاع بإيلام الآخرين؟ من الثقة الكاملة والشعور بالفشل؟
من الاعتقاد بأن الجميع يحبونك ويؤمنون بك ومن رؤيتهم يتخلون عنك؟
وكان الأمر فى البداية نبلاً، أصبح الآن لعنة».
حوار نشوى الحوفى ١٢/ ٤/ ٢٠٠٩
المصرى اليوم

No comments: