Thursday, April 23, 2009

مصر أمة لا قبيلة‏:‏ تمرينات الخفة السياسية ومجازاتها‏

في أحيان عديدة‏,‏ تبدو لي بعض الممارسات الصحفية الحادة والصاخبة‏,‏ هي تعبير عن كسل ذهني‏,
‏ وفقر في الأدوات والمنطق الذي تتأسس عليه‏,‏ والأخطر أنها تؤدي إلي إلحاق الأذي بهيبة الأمة والدولة‏,‏ بل والصفوة الحاكمة‏.‏
ومن أبرز الأمثلة التغطية والتعليق علي خلية حزب الله‏,‏ وقبلها معالجة بعض السياسات والأزمات الإقليمية‏,‏ كالملفات الإيرانية‏,‏ والسورية‏,‏ والفلسطينية‏,‏ والقطرية والسودانية‏.
‏ المرامي المعلنة من وراء الخطابات الصحفية والسياسية السابقة تتمثل في الذود عن السمعة والمكانة الإقليمية والدولية لمصر‏,‏ والدفاع عن مقام القيادة السياسية‏.‏
أيا كان الرأي حول مشروعية هذا المسعي الخطابي‏,‏ إلا أن التساؤل الذي يثور هنا‏,‏ هل تحقق هذا الهدف؟
لا يحتاج المتابع إلي عميق عناء كي يكتشف الفشل الذريع في المعالجة‏,‏ لأن هذا الخطاب الزاعق الذي يكتسي باللغة الحماسية الهادرة بالألفاظ الخشنة وعنف المفردات المدببة يتجاوز في بعض الأحيان أدب وأخلاقيات الحوار إلي السجال المنفلت‏,‏ ولا يبقي منه سوي الإنشاء اللغوي لا المعرفة والمعلومات والردود المقنعة علي الآخرين‏.‏
نيران اللغة العنيفة الهوجاء‏,‏ والدخان الأسود والرمادي الكثيف‏,‏ قد يوحي‏,‏ لوهلة أن الدوافع المعلنة مبررة ومشروعة‏,‏ إلا أن نظرة ولو سطحية ولا نقول شبه عميقة ستكتشف وبلا عناء‏,‏ أن الخطاب يتوجه للقيادة السياسية التي لا تحتاج إلي هكذا طبل اجوف‏,‏ وأن وظيفة اقناع المستهلك الداخلي لا تتحقق‏,‏ لأن غالب الجمهور يتعاطف مع بعض الفضائيات وخطابها الغوغائي‏,‏ والأثاري‏,‏ لضعف إعلامنا‏
.‏بعض الخطابات تميل إلي التملق‏,‏ ولا تستهدف الدفاع عن مصر الأمة والدولة‏,‏ ولا إلي تحليل موضوعي للسياسة الخارجية المصرية‏,‏ ونقد السياسات الإقليمية للدول‏,‏ وللفواعل ما دون الدول ـ كمنظمتي حزب الله وحماس‏...‏إلخ ـ التي باتت تشكل أحد مثيرات الاضطراب‏,‏ وعدم الاستقرار الداخلي في البلدان التي تنتمي إليها‏(‏ لبنان‏/‏غزة والضفة الغربية‏),‏ أو إحدي أدوات الدول الإقليمية‏(‏ إيران‏/‏سورية‏).‏
هذا التوجه الكتابي ـ ولا أقول سياسة تحريرية‏-,‏ يكشف بعضه عن ضعف في التكوين والمعرفة والقدرات التحليلية‏,‏ وغياب تصورات جادة‏.‏
هذا التوجه يبدو بمثابة صيد ثمين وسهل لأطراف إقليمية ـ دول وأحزاب وأجهزة إعلامية‏-‏ تقتنص معالجاته السطحية والغوغائية كأدلة تستخدم في نقد وهجاء ضد الدولة والأمة المصرية والنيل من مكانتها وتاريخها‏,‏ وذلك دلالة علي تراجع دورها‏,‏ بل وقد تصل الخفة والغفلة السياسية لدي بعض الحكام واتباعهم في إقليم النفط إلي تصور أن البترودولار‏,‏ وبعض أقنيته التلفازية‏,‏ ودبلوماسية الشيكات قادرة علي حجب الدور والمكانة المصرية‏.‏
والأخطر أنهم يوظفون بعضا من أعضاء الحزب الحاكم علي أنهم يمثلون وجهة نظر السلطة السياسية‏,‏ ولا يحتاج المرء إلي جهد كبير ليثبت أن غالبهم أو بعضهم يبدو غير كفء عن الدفاع عن سياسات أو قرارات الحكم‏,‏ بل لاحظ وبجلاء الخفة والاضطراب في خطابهم‏,‏ مما يجعل بعضهم مثيرا للأسي والخجل لدي بعض المشاهدين‏.
‏خذ علي سبيل المثال المعالجات الرديئة ـ في بعض الصحف القومية والحزبية والمعارضة والخاصة ـ لسياسات حزب الله الداخلية والإقليمية في اتخاذ قرارات حرب بناء علي تحالفات إقليمية سورية ـ إيرانية‏,‏ في حرب‏2006,‏ بينما الحزب كان ولا يزال جزءا من التشكيلات البرلمانية والحكومية وجهاز الدولة اللبناني‏,‏ ثم اتخذ قرار الحرب بعيدا عن مواقع صنع القرار اللبناني‏.
‏ الممارسة نفسها برزت أثناء الحرب الأخيرة علي قطاع غزة كان القرار الحمساوي إيرانيا وسوريا بامتياز ولأهدافهما أساسا في كلا المثالين‏.‏ ذهبت بعض الممارسات الإعلامية ـ والسياسية المعارضة والخاصة ـ إلي ممارسة دهمائية ترمي إلي استثارة المشاعر الدينية‏,‏ والشعارات‏'‏ القومية‏'‏ الصاخبة للمصريين‏,‏ وأسهمت غالب أجهزة الإعلام‏,‏
وبعض القوي السياسية ـ في الحزب الحاكم والمعارضات ـ في عمليات تشويه عمدي لوعي الرأي العام المصري‏,‏ ومن ثم فقدت الصفوة المصرية وأتباعها القدرة علي توجيه الرأي العام المصري وتبصيره وإقناعه بمصالح مصر القومية‏!
والسؤال الذي يطرح علي بعض قادة المعارضة الرسمية والدينية هل يمكن القبول تحت أي ظرف أو انتماء‏,‏ أن تدير بعض المنظمات السياسية الحزبية الدينية ـ فواعل ما دون الدولة ـ الإقليم وسياساته في الأوقات التي تراها‏,‏ ودون استشارة الدول الأخري تحت شعارات الجامعتين الإسلامية أو القومية العربية؟
هل يمكن القبول بأن يقوم حزب ما باتخاذ قرارات حرب من وراء الدولة وأجهزتها‏,‏ ومؤسسات صنع القرار داخلها؟
هل يمكن للشعار الإيديولوجي أو الديني أن يكون بديلا عن الرابطة القومية المصرية؟‏
,‏ كما ذهب بعضهم في استعراض صاخب في إعلاء الرابطة الدينية علي الرابطة القومية المصرية‏!.
‏يبدو لي أن بعض الخلط في التحليل والشعارات والخطابات السياسية الزاعقة‏,‏ هو أمر عمدي يهدف إلي إشاعة بعض الفوضي والاختلاطات في المجال العام السياسي المصري ويسهم في عملية استثارة مشاعر‏'‏ العوام‏'‏ ـ من النخب والمتعلمين والأميين لا فارق‏!‏ ـ الذين يجدون في الفوضي الفكرية والسطحية في الأطروحات القائمة فرصة سانحة لكسر القيود القانونية والأمنية علي المجال العام‏,‏ ومن ثم مباشرتهم للحضور السياسي والإيديولوجي بل والشخصي المكثف في واجهة شاشات الأقنية الفضائية وصفحات الجرائد القومية والمعارضة والخاصة‏!‏
هذا النمط من الممارسات السياسية والإعلامية الغوغائية تسئ للدولة والأمة‏.‏
ثمة حاجة سياسية لكي تكشف الأقنعة عن عمليات الخلط العمدي بين الارتباطات والمصالح والأهواء السياسية والإعلامية بين بعضنا‏,‏ وبين مصالح‏,‏ وخارج نطاق المصالح القومية الحقيقية للأمة المصرية‏,‏ وهي مصالح وأهداف تتجاوز ظاهر الخطاب والكلام والشعارات الكبري حول الإسلام‏,‏ والأمة الإسلامية‏,‏ والعربية‏,‏ وقناع القضية الفلسطينية التي استباحها الجميع وعلي رأسهم الفلسطينيون‏!.‏
الدولة والأمة المصرية لا تحتاج إلي تحمل عبء تقاعس بعض الحكام والقادة السياسيين‏-‏ وزعماء الطوائف والقبائل والعائلات والأحزاب وأجهزة الإعلام ـ عن أداء واجباتهم القومية‏.‏ أنهم يتعاملون بخفة وسطحية مع مصر الأمة والدولة‏,‏ وتشكل خطاباتهم وأقوالهم وكتاباتهم مثالا علي إعادة ترويج تصوراتهم السطحية عن بلادهم المنقسمة والهشة التي تتنازعها طوائفهم وقبائلهم وأعراقهم ومناطقهم وإسقاطها علي مصر والمصريين‏.‏
بعض من هؤلاء يتصورون مصر دولة مذاهب وطوائف وقبائل ومناطق وأعراق ترفع علما مثلهم‏!‏
مصر السبعة ألفية‏-‏ وفق أنور عبد الملك ـ أهم وأكثر تركيبا وعراقة من الإقليم كله‏,‏ لأنها عرفت التجانس الثقافي الاجتماعي‏,‏ وتعرفت علي الدين‏,‏ والآلهة‏,‏ والتوحيد‏,‏ وطورت المجتمع‏,‏ والدولة والمؤسسات‏,‏ والحكم‏,‏ وأرست تقاليد سياسية راسخة عبر الزمن‏.‏يتصور بعض قادة الطوائف والعائلات والمذاهب‏,'‏ والأحزاب‏'‏ والجماعات الدينية السياسية ـ داخل مصر وخارجها‏-‏ أن مصر مجموعة طوائف‏,‏ وأن الدولة هي كيان هش قابل للاختراق من خارجه‏,‏ وأن بعض أحزابها وجماعاتها يمكنهم الاستقواء بقوي إقليمية عبر العصبية الطائفية والمذهبية والدينية الممولة من خارج الأطر الوطنية‏.‏
دعاة الروابط فوق الأممية الدينية‏,‏ أو العروبية‏,‏ يحاولون تناسي أن مصر الدولة والشعب هي الأقدم في تاريخ عالمنا كله ـ مع الصين‏,‏ ثم اليابان‏,‏ والهند ـ هي فلتة فذة تاريخيا وجغرافيا وثقافيا‏.
‏ ثمة احلام عريضة لدي هؤلاء الذين يتصورون امكانية ان نستبدل بهويتنا القومية المصرية الحديثة ـ بها بعد عروبي لا نزاع حوله ـ روابط دينية وعرقية هي أقرب إلي المجازات السياسية المجنحة‏,‏ منها إلي الواقع الموضوعي‏.‏
حتي مفهوم الجامعة القومية العربية‏,‏ لايزال مشروعا تاريخيا تحت التأسيس‏,‏ وتعتوره إعاقات عديدة من أصحاب مشروع الجامعة الإسلامية‏,‏ والأخطر واقع وصعوبات عمليات تشكل الدولة القومية الحديثة‏,‏ الذي لايزال غالب قادة وقبائل العرب العاربة والمستعربة ـ بكل انقساماتهم الدينية والمذهبية والقومية والمناطقية والعرقية‏...‏إلخ ـ يحاولون وبصعوبة التحول من القبيلة والطائفة والعشيرة والانقسامات الداخلية العميقة إلي الحد الأدني من الوحدة الوطنية والاندماج الداخلي‏,‏ وأمامهم طرق ومسارات معقدة وطويلة عبر الزمن‏.‏
انهم يتصورون‏,‏ وهما أن مفهوم العصبية المذهبية‏/‏الدينية‏,‏ أو الطائفية‏,‏ أو العرقية‏,‏ يمكن أن يصوغ هوية وطنية ناجزة‏,‏ ويحول مشروعاتهم السياسية الكبري من مجال الآمال و‏'‏المتخيلات السياسية‏'‏ ـ وفق اندرسون ـ إلي واقع تاريخي سياسي ـ اجتماعي ـ ثقافي‏,‏ مجسد في مؤسسات ونظم وبنيات ثقافية وهويات جامعة‏...‏ إلخ‏.‏
لكن الفارق واسع بين اليوتوبيا والجحيم‏,‏ وبين الآمال والأساطير السياسية الكبري ـ بالمعني الإيجابي‏-,‏ وبين بؤس الانقسامات‏,‏ والمجتمعات المجزأة والمتشرذمة‏,‏ وشظايا ورماد الهويات المتصدعة والانقسامية‏!‏
من هنا يمكن تفسير التلاعب بمسألة الهوية ومحاولات تشويهها‏,‏ والتشويش علي الوعي الجماعي المصري من بعض الجماعات السياسية الدينية‏,‏ والقومية‏,‏ وبين نظرائهم وحلفائهم في المنطقة وخارجها‏!‏
إن فورة وتمرد بعض الطوائف والمذاهب الدينية والعرقية في المنطقة‏,‏ هو نتاج عوامل عديدة‏,‏ علي رأسها أن الدولة كيان هش ومتصدع‏,‏ ولا توجد أسس للاندماج القومي الداخلي‏.‏ من هنا نجد تحالفات مذهبية شيعية‏,‏ وسنية وقومية‏(‏ كردية‏)‏ وعرقية متعدية لحدود الدول‏,‏ وعلي جسد الدول واستقرار بعض المجتمعات في المنطقة‏.
‏ إن قدرة مصر علي هضم كل المؤثرات لا تحتاج إلي جدال‏,‏ بل إن مصر أكبر من التعدديات الدينية والمذهبية أيا كانت‏,‏ ويجب التوقف عن السجال المذهبي السني‏/‏الشيعي‏,‏ فلن يستطيع أحد كائنا من كان أن يضرب طاقة الهضم والتمثل الثقافي المصري للمذاهب والأعراق والاستعارات الثقافية‏,‏ في الإطار السني ـ بل والأرثوذكسي القبطي ـ المصري‏.
‏ إن تحويل المذهب الشيعي إلي شيطان كاسر‏,‏ وهم‏,‏ يكشف عن خلل في سياسات التعليم المدني‏,‏
والديني‏,‏ وعن أزمة في بعض الخطاب الديني والوعظي والافتائي السني‏,‏ والأخطر اعطاب في تكوين بعض الدعاة ورجال الدين‏,‏ وعلينا مواجهة المشكلة بصراحة وبلا تستر وراء‏'‏ اخطار موهومة‏,‏ وإنما الخطر يكمن ولا يزال هنا‏,‏ ويتمثل في ضرورة تجديد الفكر والفقه المصري السني‏,‏ والأهم تطوير الوحدة الوطنية وأسسها في إطار إصلاح ديمقراطي شامل‏,‏ يجدد أعصاب الأمة وكوادرها وقادتها وثقافتها‏,‏ ويضرب أشكال الفساد والانحراف والخروج علي قانون الدولة‏.
‏ من هنا نبدأ‏!
بقلم : نبيل عبد الفتاح
‏نقلا عن الاهرام

No comments: