تحل نهاية العام و بداية عام جديد، و مع تلك النهاية يحل محلها الشعور بالألم و الخزي و العار ، و ذلك منذ نهاية عام 2005 . و كيف لا و في تلك الأيام تتجدد ذكريات مذبحة المهندسين .
هذه المذبحة هي مبعث تلك المشاعر ، و التي يجب أن تعتري كل مواطن مصري . الشعور بالألم مبعثه هو مقتل إثنان و خمسون نفساً عزلاء ، منهم صبية و نساء ، و ذلك في أقل التقديرات ، و التي ترتفع في تقديرات أخرى إلى أكثر من مائة أعزل ، راحوا ضحية عسف النظام الحاكم الحالي و جوره ، و ضحية ثقتهم في أنهم مسالمين ، لا شأن لهم بالسياسة ، وظناً منهم إن لهم حقاً إنساني مشروع في الإحتجاج و الإعتصام .
أما مبعث الشعور بالخزي و العار ، أن ترتكب تلك المذبحة على مرأى و مسمع من الشعب المصري ، و في قلب أحد أهم أحياء القاهرة الكبرى ، و ليس في منطقة نائية ، كالجلف الكبير ، أو حلايب ، أو على الحدود المصرية في سيناء ، بل في أحد شوارع القاهرة الكبرى ، و الذي لا تنقطع به الحركة ليلاً أو نهار .
و يزيد الإحساس بالخزي و العار ، عندما يكون السبب في تلك المذبحة سبباً ما أتفهه ، و هو خوف النظام الحاكم على صورته قبل البطولة الأفريقية لكرة القدم ، و التي أقيمت في مصر في يناير 2006 .
و للأسف و العار أن جلس معظم الشعب المصري ليتابع بطولة كانت بدايتها إراقة دماء إثنان و خمسون نفساً ، على الأقل ، ثم ما تبع ذلك من غرق عبارة البحر الأحمر الشهيرة ، و غرق أكثر من ألف مواطن مصري بسيط ، من أمثالنا . بل رقص البعض و هتف مع إحراز كأس تلك البطولة المنحوسة ، التي كانت قبل بدايتها مذبحة و قرب نهايتها كارثة .
إنني لا ألوم آل مبارك ، رغم إنهم هم من أمروا بإرتكاب مذبحة المهندسين ، و هم أول من يتحملون المسئولية الفعلية ، و إنهم هم يجب أن يكونوا أول الواقفين في قفص الإتهام ، فسلوكهم هذا شيء متوقع منهم ، فلم يعد في عهدهم من دخل مصر أصبح آمنا . فمبارك الأب لو كان حي يحكم مصر على زمن المسيح عيسى بن مريم ، عليه و على أمه البتول السلام ، لكان بادر إلى تسخير كل إمكاناته الأمنية للقبض عليهما ، و تسليمهما إلى عدوهم ، لقاء الحصول على تأييده لعملية التوريث .
مثلما لا ألوم أبواق آل مبارك في الإعلام ، و التي حاولت تبرير المذبحة بإلقاء المسئولية على عاتق الضحايا ، مع تشويه صورتهم في ذهن الرأي العام ، كما هو معتاد منها ، فهذه عادة النظام الحاكم ، مثلما ذلك الإسلوب القذر هو مصدر رزقهم الحرام .
و لا ألوم ذلك الفنان الكوميدي الذي إنبرى لتشويه سمعة الضحايا ، و الإدعاء إنهم كانوا سكارى ، فما أكثر أمثاله ممن باعوا ضميرهم.
إنما ألوم ، فيمن ألوم ، موظفي مفوضية اللاجئين بالإمم المتحدة بالقاهرة ، و الذين أسهموا في إسباغ الغطاء الشرعي على تلك المذبحة ، ثم أعقبوا ذلك بجريمة أخرى هي سكوتهم المريب على المذبحة ، فلم يخرج منهم سوى تنصل من المسئولية ، و عتاب خفيف ، فكان من الواضح أن الهم الأول لديهم هو إبعاد أي مسئولية أدبية عنهم ، و الحفاظ على وظائفهم المربحة ، من خلال المحافظة على علاقاتهم الطيبة مع الطغاة من آل مبارك.
ولكن لومي الأكبر يقع على كاهل الشعب المصري ، الذي أنتمي إليه ، على سكوته على تلك المذبحة المروعة ، حين وقوعها ، ثم جلوسه لامبالي ليتابع بطولة كروية تافهة ، لا يساوي كأسها حياة إنسان واحد ، و إستكماله الغرق في تلك اللامبالاة رغم وقوع كارثة العبارة .
إننا جميعاً نتحمل المسئولية الأدبية عن تلك المذبحة ، فقد أصبحت دماء الضحايا أطواق ثقيلة في أعناقنا ، على مدى الأجيال و التاريخ ، مثلنا في ذلك مثل الشعب الياباني و الألماني و الإيطالي ، الذين يتحملون المسئولية الأدبية عن الكثير من فظائع الحرب العالمية الثانية ، و مثل مسئولية كافة شعوب الدول الإستعمارية عن جرائم كل إحتلال و غزو .
لقد أصبحنا مجرمين ، هذه هي الحقيقة المؤلمة ، و الضمير الشعبي في السودان و العالم ، إن سكت اليوم ، فلن يسكت غداً. و التاريخ إن لم يتكلم اليوم ، فسوف يسطر غداً تفاصيل تلك الجريمة الشنعاء ، و يتحدث عن المسئولين ، و عن سكوتنا المشين .
ليس أمامنا ، إلا أن نعترف بإننا مسئولين عن المذبحة ، و إن على عاتقنا وحدنا تقع المسئولية الكاملة لتقديم الجناة ، من الرأس الكبير الذي أمر بالمذبحة ، و إلى أصغر جندي نفذ تلك الأوامر الوحشية ، للمحاكمة العادلة ، مع التعويض العادل و المجزي لأسر الضحايا .
كما إن علينا ، و كما كتبت في حينها ، منذ عامين ، أن نكفر عن جريمة سكوتنا ، بإقامة نصب تذكاري لضحايا مذبحة المهندسين ، في نفس موقع المذبحة ، حيث أزهقت الأنفس ، و إرتوت أرض الحديقة بدماء الأبرياء ، وسط سكوتنا المريب و المخزي .
و ليكن هذا النُصب ، ليس فقط إعترافاً و تكفيراً ، و ليس فقط رسالة لإخواننا في وادي النيل ، إننا نعترف بالخطأ و إننا نرغب في تصحيحه ، ، بل و أيضاً إعتباراً و تذكره ، للأجيال المصرية القادمة ، ألا تقع في نفس الخطأ ، فتسمح لحكامها بإرتكاب المذابح ، و لنفسها بالصمت .
على إن الواقع يذكرنا ، بأن كل تلك الخطوات التكفيرية للجريمة ، لا يمكن أن تتم في ظل النظام الحالي ، و إنها لكي تكتمل
، فعلينا أولاً العمل على تأسيس الجمهورية المصرية الثانية ، جمهورية الضمير و الحرية
بقلم: أحمد حسنين الحسنية
No comments:
Post a Comment