لم يشعر الشعب المصري بأي تعاطف إزاء حلول الرئيس الجديد أنور السادات في ١٩٧٠، محل الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، إذ لم يكن الناس يعتبرون أنور السادات رجلاً مهماً طوال الأعوام الثمانية عشر التي انقضت علي قيام ثورة يوليو،
بل لعله كان يعتبر من بين الضباط الاثني عشر، الذين قاموا بالثورة، أقلهم شأنا، وأخفهم وزناً، ربما باستثناء واحد هو حسين الشافعي، الذي لم يعهد إليه عبدالناصر في حياته بمهمة ذات شأن، بينما كان يعهد لأنور السادات بمهام تتطلب قدرة علي الخطابة أكثر مما تتطلب حنكة سياسية أو شجاعة شخصية.
كان هناك بالطبع اللغز الذي لم نعرف حله حتي الآن، وهو اختيار عبدالناصر للسادات نائباً للرئيس قبيل وفاته بشهور قليلة. ولكن مجرد إجماع المصريين علي اعتبار هذا الاختيار «لغزاً»، يفصح عن رأي الناس الحقيقي في أنور السادات وقت اعتلائه الحكم.
لم يكن من المنتظر إذن أن يزول الشعور بالاغتراب «أو حتي أن تخف حدته» خلال السنوات الأولي من حكم السادات، علي الأقل، وقد عبر الناس عن هذا الشعور بعدة طرق، مرة بمظاهرات شباب الجامعات في ١٩٧٢ مطالبين بالحرب لاسترداد سيناء،
ومرة بتوقيع عدد من كبار الكتاب والصحفيين علي عريضة قدمت إلي السادات في السنة نفسها، يطالبون فيها أيضاً بالحرب، وأثناء ذلك كان الشاعر أحمد فؤاد نجم، هو والشيخ الضرير إمام، يتنقلان من بيت إلي بيت بدعوات من محبيهما الكثيرين لغناء بعض الأشعار التي تمس شغاف القلب، والملحنة تلحيناً بسيطاً للغاية،
ولكنه بالغ التأثير، وتدور كلها حول محنة المصريين بسبب الهزيمة المهينة، وتسخر ممن زعموا أنهم يقومون بحماية مصر، وهم في الحقيقة يسرقونها، ومن الزعم بأن المعركة مازالت مستمرة فتتهكم «بالست معمع معركة».
كان المفروض أن ينهي الهجوم المصري علي القوات الإسرائيلية علي الضفة الشرقية لقناة السويس في ٦ أكتوبر ١٩٧٣، وعبور القوات المصرية إلي شرق القناة، حالة الاغتراب بين الشعب والنظام، ولكن ملاحظاتي لمشاعر الناس، ومشاعري أنا الشخصية، تخبرني بأن هذا الوفاق بين الشعب والنظام لم يستمر إلا أياماً قليلة، علي الرغم من أن نظام السادات استمر - حتي مقتله في ٦ أكتوبر ١٩٨١ - يتكلم عن الانتصار العظيم، ويصف السادات بأنه بطل الحرب والسلام، ويطلق علي بعض المدن والمنشآت العامة اسم العبور، ٦ أكتوبر... إلخ.
كان تفسير هذا الفشل الذريع من جانب نظام السادات، في القضاء علي اغتراب المصريين، هو في الأساس التناقض الواضح بين الإنجاز العسكري الذي تم في أكتوبر ١٩٧٣، والاستسلام السياسي الذي حدث بعده مباشرة، واستمر طوال السنين الباقية من حكم السادات.
نعم كان من الممكن قبول القول إن سيناء قد عادت أو «علي وشك أن تعود» إلي المصريين، ولو بصورة ناقصة السيادة، ولكن هل كان كل ما نحتاجه لحل مشكلتنا مع إسرائيل هو أن تأخذ إسرائيل منا شيئاً إضافياً - كان بيدنا من قبل - ثم نعيده ناقصاً إلينا، فنصبح علي استعداد لنسيان كل ما سبب هذه العداوة أصلاً منذ أخذت إسرائيل نصف فلسطين في ١٩٤٧، ثم نصفها الآخر في ١٩٦٧؟.
وهكذا استمر أي كلام من جانب السادات أو المتكلمين بلسانه عن السلام المرتقب، وعن ضرورة التخلص من «الحاجز النفسي» الذي يمنعنا من الصلح مع إسرائيل، ووصفه حرب أكتوبر بأنها آخر الحروب، ودأبه أثناء ذلك علي الإشارة إلي «الصديق الأمريكي»، ووصفه هنري كيسنجر بـ«الصديق العزيز»، واستقباله في مصر رئيس الوزراء الإسرائيلي،
أي التاريخ الإرهابي العتيد مناحم بيجين - وكأنه أيضاً صديق قديم - استمرت هذه الأعمال والتصريحات توسع حجم الفجوة بين السادات وقلوب المصريين، حتي فوجئ المصريون يوماً بزيارته القدس في ١٩٧٧، ورؤيته علي شاشة التليفزيون وهو يضع باقة زهور علي قبر الجندي الإسرائيلي المجهول، ثم بتوقيعه اتفاقية السلام في واشنطن في ١٩٧٩، علي الرغم من تحذيرات مستشاريه، واستقالة وزير بعد آخر من وزرائه الذين رفضوا أن يشتركوا في هذا العمل.
لقد بدا السادات للغالبية العظمي من الشعب المصري مصمماً علي أن يسير في الطريق الذي خطه له الأمريكيون، مهما كان مضاداً لمشاعر المصريين، فلم يبق حوله مؤيد، بالإضافة إلي عدد قليل من المشتغلين بالسياسة، المستعدين لخدمة أي نظام، إلا عدد قليل أيضاً من كبار رجال الأعمال المستفيدين إفادة مباشرة من توطيد العلاقة بالولايات المتحدة، والذين يتوقعون تحقيق ثروات أكبر إذا دخلوا في علاقات اقتصادية مع إسرائيل.
فلما استبد الخوف بالسادات إلي حد أن وضع آلافاً من السياسيين والصحفيين والكتاب في السجن في سبتمبر ١٩٨١، تقدم من يغتاله وهو واقف في استعراض عسكري في الشهر التالي مباشرة.
ولكن شعور المصريين بالاغتراب في ظل حكم السادات لم يكن سببه فقط علاقته الجديدة مع إسرائيل، إذ بالإضافة إلي التغير الذي طرأ علي موقف النظام من الإسرائيليين، طرأت تغيرات أخري مهمة، وسريعة، لم يعرفها الناس فقط طوال العقدين السابقين، بل ولا في سنوات ما قبل الثورة، وأضافت مصادر جديدة للشعور بالاغتراب.
لقد فتح أنور السادات أبواباً كثيرة كانت مغلقة أيام عبدالناصر، فدخل تيار التغريب إلي البيت المصري من أكثر من ناحية، وكثيراً ما حدث هذا بفجاجة، لم تستسغها أذواق شرائح واسعة من المصريين: من المثقفين اليساريين، ومن المتدينين، ومن النساء، ومن أصحاب الدخول المنخفضة أو الثابتة.
كل هؤلاء شعروا باغتراب في عهد السادات يفوق ما كانوا يعانون منه في عهد عبدالناصر
بل لعله كان يعتبر من بين الضباط الاثني عشر، الذين قاموا بالثورة، أقلهم شأنا، وأخفهم وزناً، ربما باستثناء واحد هو حسين الشافعي، الذي لم يعهد إليه عبدالناصر في حياته بمهمة ذات شأن، بينما كان يعهد لأنور السادات بمهام تتطلب قدرة علي الخطابة أكثر مما تتطلب حنكة سياسية أو شجاعة شخصية.
كان هناك بالطبع اللغز الذي لم نعرف حله حتي الآن، وهو اختيار عبدالناصر للسادات نائباً للرئيس قبيل وفاته بشهور قليلة. ولكن مجرد إجماع المصريين علي اعتبار هذا الاختيار «لغزاً»، يفصح عن رأي الناس الحقيقي في أنور السادات وقت اعتلائه الحكم.
لم يكن من المنتظر إذن أن يزول الشعور بالاغتراب «أو حتي أن تخف حدته» خلال السنوات الأولي من حكم السادات، علي الأقل، وقد عبر الناس عن هذا الشعور بعدة طرق، مرة بمظاهرات شباب الجامعات في ١٩٧٢ مطالبين بالحرب لاسترداد سيناء،
ومرة بتوقيع عدد من كبار الكتاب والصحفيين علي عريضة قدمت إلي السادات في السنة نفسها، يطالبون فيها أيضاً بالحرب، وأثناء ذلك كان الشاعر أحمد فؤاد نجم، هو والشيخ الضرير إمام، يتنقلان من بيت إلي بيت بدعوات من محبيهما الكثيرين لغناء بعض الأشعار التي تمس شغاف القلب، والملحنة تلحيناً بسيطاً للغاية،
ولكنه بالغ التأثير، وتدور كلها حول محنة المصريين بسبب الهزيمة المهينة، وتسخر ممن زعموا أنهم يقومون بحماية مصر، وهم في الحقيقة يسرقونها، ومن الزعم بأن المعركة مازالت مستمرة فتتهكم «بالست معمع معركة».
كان المفروض أن ينهي الهجوم المصري علي القوات الإسرائيلية علي الضفة الشرقية لقناة السويس في ٦ أكتوبر ١٩٧٣، وعبور القوات المصرية إلي شرق القناة، حالة الاغتراب بين الشعب والنظام، ولكن ملاحظاتي لمشاعر الناس، ومشاعري أنا الشخصية، تخبرني بأن هذا الوفاق بين الشعب والنظام لم يستمر إلا أياماً قليلة، علي الرغم من أن نظام السادات استمر - حتي مقتله في ٦ أكتوبر ١٩٨١ - يتكلم عن الانتصار العظيم، ويصف السادات بأنه بطل الحرب والسلام، ويطلق علي بعض المدن والمنشآت العامة اسم العبور، ٦ أكتوبر... إلخ.
كان تفسير هذا الفشل الذريع من جانب نظام السادات، في القضاء علي اغتراب المصريين، هو في الأساس التناقض الواضح بين الإنجاز العسكري الذي تم في أكتوبر ١٩٧٣، والاستسلام السياسي الذي حدث بعده مباشرة، واستمر طوال السنين الباقية من حكم السادات.
نعم كان من الممكن قبول القول إن سيناء قد عادت أو «علي وشك أن تعود» إلي المصريين، ولو بصورة ناقصة السيادة، ولكن هل كان كل ما نحتاجه لحل مشكلتنا مع إسرائيل هو أن تأخذ إسرائيل منا شيئاً إضافياً - كان بيدنا من قبل - ثم نعيده ناقصاً إلينا، فنصبح علي استعداد لنسيان كل ما سبب هذه العداوة أصلاً منذ أخذت إسرائيل نصف فلسطين في ١٩٤٧، ثم نصفها الآخر في ١٩٦٧؟.
وهكذا استمر أي كلام من جانب السادات أو المتكلمين بلسانه عن السلام المرتقب، وعن ضرورة التخلص من «الحاجز النفسي» الذي يمنعنا من الصلح مع إسرائيل، ووصفه حرب أكتوبر بأنها آخر الحروب، ودأبه أثناء ذلك علي الإشارة إلي «الصديق الأمريكي»، ووصفه هنري كيسنجر بـ«الصديق العزيز»، واستقباله في مصر رئيس الوزراء الإسرائيلي،
أي التاريخ الإرهابي العتيد مناحم بيجين - وكأنه أيضاً صديق قديم - استمرت هذه الأعمال والتصريحات توسع حجم الفجوة بين السادات وقلوب المصريين، حتي فوجئ المصريون يوماً بزيارته القدس في ١٩٧٧، ورؤيته علي شاشة التليفزيون وهو يضع باقة زهور علي قبر الجندي الإسرائيلي المجهول، ثم بتوقيعه اتفاقية السلام في واشنطن في ١٩٧٩، علي الرغم من تحذيرات مستشاريه، واستقالة وزير بعد آخر من وزرائه الذين رفضوا أن يشتركوا في هذا العمل.
لقد بدا السادات للغالبية العظمي من الشعب المصري مصمماً علي أن يسير في الطريق الذي خطه له الأمريكيون، مهما كان مضاداً لمشاعر المصريين، فلم يبق حوله مؤيد، بالإضافة إلي عدد قليل من المشتغلين بالسياسة، المستعدين لخدمة أي نظام، إلا عدد قليل أيضاً من كبار رجال الأعمال المستفيدين إفادة مباشرة من توطيد العلاقة بالولايات المتحدة، والذين يتوقعون تحقيق ثروات أكبر إذا دخلوا في علاقات اقتصادية مع إسرائيل.
فلما استبد الخوف بالسادات إلي حد أن وضع آلافاً من السياسيين والصحفيين والكتاب في السجن في سبتمبر ١٩٨١، تقدم من يغتاله وهو واقف في استعراض عسكري في الشهر التالي مباشرة.
ولكن شعور المصريين بالاغتراب في ظل حكم السادات لم يكن سببه فقط علاقته الجديدة مع إسرائيل، إذ بالإضافة إلي التغير الذي طرأ علي موقف النظام من الإسرائيليين، طرأت تغيرات أخري مهمة، وسريعة، لم يعرفها الناس فقط طوال العقدين السابقين، بل ولا في سنوات ما قبل الثورة، وأضافت مصادر جديدة للشعور بالاغتراب.
لقد فتح أنور السادات أبواباً كثيرة كانت مغلقة أيام عبدالناصر، فدخل تيار التغريب إلي البيت المصري من أكثر من ناحية، وكثيراً ما حدث هذا بفجاجة، لم تستسغها أذواق شرائح واسعة من المصريين: من المثقفين اليساريين، ومن المتدينين، ومن النساء، ومن أصحاب الدخول المنخفضة أو الثابتة.
كل هؤلاء شعروا باغتراب في عهد السادات يفوق ما كانوا يعانون منه في عهد عبدالناصر
من اللافت للنظر مثلا كيف أبدي كثير من المثقفين اليساريين «أو معظمهم» استعدادهم للصفح عما تعرضوا له أيام عبدالناصر من اعتقال وفقد وظائفهم وحرمانهم من التعبير عن عقيدتهم السياسية، ولكنهم لم يصفحوا عن اتجاهات السادات الجديدة في الانفتاح الاقتصادي ومحاباة رأس المال الأجنبي، والتراجع عن إعادة توزيع الدخل لصالح الفقراء، فضلاً عن مصادقة الولايات المتحدة وإسرائيل.
أما المتدينون فقد ساعدهم تساهل نظام السادات مع الخارجين علي التقاليد «رغم تظاهره هو باحترامها»، كما ظهر فيما حدث من تحول في برامج التليفزيون المصري، وفتح الأبواب أمام أثرياء السياح العرب لممارسة نزواتهم في أماكن اللهو بشارع الهرم.
وأما أصحاب الدخول الدنيا والثابتة - ممن لم يستطيعوا تحقيق أي فائدة من التضخم الجامح الذي دخل إلي مصر في منتصف السبعينيات، ولا الهجرة إلي دولة من دول البترول - فقد ترحموا علي عهد عبدالناصر، الذي تمتعوا فيه باستقرار أكبر «بل وبتحسن» في مستوي المعيشة، وبأمل أكبر في المستقبل.
كانت شخصية السادات تلائم تماماً هذا الاتجاه المفاجئ نحو «تغريب مصر». كان منذ نعومة أظفاره شخصاً مفتوناً بالسلع الاستهلاكية الغربية وبالسينما الأمريكية، وبكل ما يبدعه الغرب من تكنولوجيا حديثة.
تشهد علي ذلك عبارات كثيرة بدرت منه عن غير قصد في كتابه عن حياته، ومن طموحاته الشخصية في مطلع شبابه، ومن الهوايات التي كان يمارسها، ومما كان يرتديه من ملابس ومن طريقة معاملته الأجانب، كما تشهد عليه أقوال من شهدوا تصرفاته كلما زار دولة أوروبية أو الولايات المتحدة، قبل توليه الرئاسة بزمن طويل.
صحيح أن هذه الميول الشخصية لم تكن بأهمية العوامل الخارجية التي اكتسحت مصر في السبعينيات، حيث حل النفوذ الأمريكي محل سياسة تحاول تحقيق التوازن بين المعسكرين الغربي والشرقي، حيث اكتسحت موجة التضخم والانفتاح مصر، كما اكتسحت الجزء الأكبر من العالم، ولكن هذه الميول الشخصية للسادات ساهمت بلا شك في اكتساب الحياة السياسية والاجتماعية في مصر سمات غير مألوفة للمصريين وغير مستساغة للغالبية العظمي منهم.
خذ مثلاً ظاهرة «سيدة مصر الأولي»، التي اقتبست مباشرة من الولايات المتحدة، والتي لم تعرف مصر مثلها من قبل، لا في العقدين الأولين التاليين للثورة، ولا حتي في العهد الملكي. كان الملك فاروق نفسه، مثلما كان أبوه، يراعي عدم ظهور صور وأخبار نساء العائلة المالكة، إلا في مناسبات نادرة، وكان المصريون، إذا رأوا هذه الصور، وشاهدوا فيما يرتدونه من ملابس ويتزينون به من مجوهرات ما يدل علي نمط الحياة الغربي الذي يعيشونه، لا يجدون الأمر غريباً، علي أساس أنه علي أي حال طريقة حياة الملوك.
ولكن أن تظهر زوجة رئيس للجمهورية، ويتكرر ظهورها في صور مماثلة، وهي تستقبل كبار السياسيين الغربيين، وترأس الجمعيات والمؤتمرات، وتصدر التصريحات والتوجيهات، والمصريون يعرفون نشأتها الاجتماعية المتواضعة «وكذلك نشأته هو»، وحدود ثقافتها وتعليمها، فقد بدا هذا لهم ليس فقط خارجاً علي المألوف،
بل ويتعارض مع العادات الراسخة للعائلة المصرية. كانت زوجة الرئيس عبدالناصر أقرب بكثير، في أذهان المصريين، إلي الصورة المتوقعة والمعقولة لزوجة سياسي مصري، خاصة في عهد ثورة قامت باسم الشعب كله، وليس طبقة من طبقاته، وفي نظام يدعو إلي المحافظة علي «أخلاق القرية». أما ظهور السيدة جيهان السادات في التليفزيون، أثناء مناقشة رسالة قدمتها للحصول علي الماجستير،
وناقشها فيها ثلاثة من كبار الأساتذة، وفي حضور رئيس الجمهورية، فقد بدا شيئاً أقرب إلي العمل المسرحي، تم الاتفاق من قبل علي دور كل من يشترك فيه، بغرض إضفاء ميزة إضافية علي زوجة رئيس الجمهورية، لم تكن في حاجة إليها.
ولكن اشتداد حركة الاقتباس من الغرب في عهد السادات، وإن كان قد ساهم في تقوية الشعور بالاغتراب الناتج عن دخول أنماط غير مألوفة من الاستهلاك والعلاقات الاجتماعية، فقد ساهم في تقوية هذا الشعور بالاغتراب عن طريق آخر مختلف تماماً، وغير متوقع. فالإمعان في التغريب،
كما ظهر في بعض أنواع السلوك التي تمارسها أسرة رئيس الجمهورية نفسه، وفي شيوع أنماط استهلاكية جديدة علي المصريين بسبب الانفتاح، وفيما أصبح يذيعه التليفزيون من برامج وإعلانات، لم تكن مألوفة في الستينيات،
ولّد حركات احتجاجية في صفوف شرائح اجتماعية هالها هذا الخروج المفاجئ علي التقاليد، أو حاولت الاندماج في نمط الحياة الجديد، فلم تتمكن من ذلك بسبب انخفاض أملها وعجزها عن الانضمام إلي المستفيدين من تيار الهجرة إلي دول البترول.
أما المتدينون فقد ساعدهم تساهل نظام السادات مع الخارجين علي التقاليد «رغم تظاهره هو باحترامها»، كما ظهر فيما حدث من تحول في برامج التليفزيون المصري، وفتح الأبواب أمام أثرياء السياح العرب لممارسة نزواتهم في أماكن اللهو بشارع الهرم.
وأما أصحاب الدخول الدنيا والثابتة - ممن لم يستطيعوا تحقيق أي فائدة من التضخم الجامح الذي دخل إلي مصر في منتصف السبعينيات، ولا الهجرة إلي دولة من دول البترول - فقد ترحموا علي عهد عبدالناصر، الذي تمتعوا فيه باستقرار أكبر «بل وبتحسن» في مستوي المعيشة، وبأمل أكبر في المستقبل.
كانت شخصية السادات تلائم تماماً هذا الاتجاه المفاجئ نحو «تغريب مصر». كان منذ نعومة أظفاره شخصاً مفتوناً بالسلع الاستهلاكية الغربية وبالسينما الأمريكية، وبكل ما يبدعه الغرب من تكنولوجيا حديثة.
تشهد علي ذلك عبارات كثيرة بدرت منه عن غير قصد في كتابه عن حياته، ومن طموحاته الشخصية في مطلع شبابه، ومن الهوايات التي كان يمارسها، ومما كان يرتديه من ملابس ومن طريقة معاملته الأجانب، كما تشهد عليه أقوال من شهدوا تصرفاته كلما زار دولة أوروبية أو الولايات المتحدة، قبل توليه الرئاسة بزمن طويل.
صحيح أن هذه الميول الشخصية لم تكن بأهمية العوامل الخارجية التي اكتسحت مصر في السبعينيات، حيث حل النفوذ الأمريكي محل سياسة تحاول تحقيق التوازن بين المعسكرين الغربي والشرقي، حيث اكتسحت موجة التضخم والانفتاح مصر، كما اكتسحت الجزء الأكبر من العالم، ولكن هذه الميول الشخصية للسادات ساهمت بلا شك في اكتساب الحياة السياسية والاجتماعية في مصر سمات غير مألوفة للمصريين وغير مستساغة للغالبية العظمي منهم.
خذ مثلاً ظاهرة «سيدة مصر الأولي»، التي اقتبست مباشرة من الولايات المتحدة، والتي لم تعرف مصر مثلها من قبل، لا في العقدين الأولين التاليين للثورة، ولا حتي في العهد الملكي. كان الملك فاروق نفسه، مثلما كان أبوه، يراعي عدم ظهور صور وأخبار نساء العائلة المالكة، إلا في مناسبات نادرة، وكان المصريون، إذا رأوا هذه الصور، وشاهدوا فيما يرتدونه من ملابس ويتزينون به من مجوهرات ما يدل علي نمط الحياة الغربي الذي يعيشونه، لا يجدون الأمر غريباً، علي أساس أنه علي أي حال طريقة حياة الملوك.
ولكن أن تظهر زوجة رئيس للجمهورية، ويتكرر ظهورها في صور مماثلة، وهي تستقبل كبار السياسيين الغربيين، وترأس الجمعيات والمؤتمرات، وتصدر التصريحات والتوجيهات، والمصريون يعرفون نشأتها الاجتماعية المتواضعة «وكذلك نشأته هو»، وحدود ثقافتها وتعليمها، فقد بدا هذا لهم ليس فقط خارجاً علي المألوف،
بل ويتعارض مع العادات الراسخة للعائلة المصرية. كانت زوجة الرئيس عبدالناصر أقرب بكثير، في أذهان المصريين، إلي الصورة المتوقعة والمعقولة لزوجة سياسي مصري، خاصة في عهد ثورة قامت باسم الشعب كله، وليس طبقة من طبقاته، وفي نظام يدعو إلي المحافظة علي «أخلاق القرية». أما ظهور السيدة جيهان السادات في التليفزيون، أثناء مناقشة رسالة قدمتها للحصول علي الماجستير،
وناقشها فيها ثلاثة من كبار الأساتذة، وفي حضور رئيس الجمهورية، فقد بدا شيئاً أقرب إلي العمل المسرحي، تم الاتفاق من قبل علي دور كل من يشترك فيه، بغرض إضفاء ميزة إضافية علي زوجة رئيس الجمهورية، لم تكن في حاجة إليها.
ولكن اشتداد حركة الاقتباس من الغرب في عهد السادات، وإن كان قد ساهم في تقوية الشعور بالاغتراب الناتج عن دخول أنماط غير مألوفة من الاستهلاك والعلاقات الاجتماعية، فقد ساهم في تقوية هذا الشعور بالاغتراب عن طريق آخر مختلف تماماً، وغير متوقع. فالإمعان في التغريب،
كما ظهر في بعض أنواع السلوك التي تمارسها أسرة رئيس الجمهورية نفسه، وفي شيوع أنماط استهلاكية جديدة علي المصريين بسبب الانفتاح، وفيما أصبح يذيعه التليفزيون من برامج وإعلانات، لم تكن مألوفة في الستينيات،
ولّد حركات احتجاجية في صفوف شرائح اجتماعية هالها هذا الخروج المفاجئ علي التقاليد، أو حاولت الاندماج في نمط الحياة الجديد، فلم تتمكن من ذلك بسبب انخفاض أملها وعجزها عن الانضمام إلي المستفيدين من تيار الهجرة إلي دول البترول.
عبرت هذه الحركات الاحتجاجية عن نفسها بخطاب ديني، يقوم علي تفسير معين للدين يختلف عن تفسير الدين الذي ساد قبل السبعينيات، عندما كانت الشرائح الدنيا من الطبقة الوسطي أقل توترا وأقل تعرضاً للاستفزاز وأكثر استقراراً ورضا بحالها. ومن بين عناصر هذا التفسير الجديد للدين، الذي انتشر بسرعة في عهد السادات، ميل عدد متزايد من النساء إلي ارتداء الحجاب - أي تغطية شعر الرأس تغطية تامة، ومراعاة الحشمة الكاملة في تغطية بقية الجسم.
بدأت ظاهرة التحجب بطيئة وفردية، ثم تسارعت خطواتها وانتشرت حتي أصبح من الصعب علي المرأة التي تخرج إلي العمل، والفتاة الذاهبة إلي الجامعة ألا تلتزم بها، ولو لمجرد تجنب القيل والقال. كما ساعد علي انتشارها انتشار ظاهرة هجرة الرجال وحدهم إلي دول الخليج، وترك نسائهم وأولادهم في مصر لعدة سنوات، مما اضطر عدداً كبيراً من الزوجات إلي القيام بمسؤوليات كان الأزواج هم الذين يقومون بها من قبل.
وفي مجتمع أصبح «منفتحاً» لهذه الدرجة، وبدأت تشيع فيه عادات مقتبسة من الغرب في السلوك والعلاقات الاجتماعية، وتشجع فيه برامج التليفزيون علي انتشار هذه العادات الحديثة، شعرت أعداد كبيرة من النساء بحاجتهن - وقد اضطررن إلي ترك منازلهن والاختلاط بالرجال بدرجة أكبر بكثير مما اعتدن عليه - إلي ارتداء الحجاب، هذا الزي الجديد الأكثر احتشاماً مما كان سائداً في عصر سابق.
خلق هذا الانتشار للحجاب، ولهذا الزي الجديد للنساء، مصدراً جديداً للشعور بالاغتراب ، لا يجب التهوين من شأنه لمجرد أن الذين شعروا به وجدوا من الصعب الإفصاح عنه. وأقصد بهؤلاء طائفتين من الناس، الطائفة الأولي تتكون من النساء اللائي نشأن في بيئة أقل محافظة وأطول عهداً بحياة المدن، وتربين في أسر اعتاد نساؤها علي درجة أكبر من الحرية، ومن الاختلاط بالرجال.
بدأت ظاهرة التحجب بطيئة وفردية، ثم تسارعت خطواتها وانتشرت حتي أصبح من الصعب علي المرأة التي تخرج إلي العمل، والفتاة الذاهبة إلي الجامعة ألا تلتزم بها، ولو لمجرد تجنب القيل والقال. كما ساعد علي انتشارها انتشار ظاهرة هجرة الرجال وحدهم إلي دول الخليج، وترك نسائهم وأولادهم في مصر لعدة سنوات، مما اضطر عدداً كبيراً من الزوجات إلي القيام بمسؤوليات كان الأزواج هم الذين يقومون بها من قبل.
وفي مجتمع أصبح «منفتحاً» لهذه الدرجة، وبدأت تشيع فيه عادات مقتبسة من الغرب في السلوك والعلاقات الاجتماعية، وتشجع فيه برامج التليفزيون علي انتشار هذه العادات الحديثة، شعرت أعداد كبيرة من النساء بحاجتهن - وقد اضطررن إلي ترك منازلهن والاختلاط بالرجال بدرجة أكبر بكثير مما اعتدن عليه - إلي ارتداء الحجاب، هذا الزي الجديد الأكثر احتشاماً مما كان سائداً في عصر سابق.
خلق هذا الانتشار للحجاب، ولهذا الزي الجديد للنساء، مصدراً جديداً للشعور بالاغتراب ، لا يجب التهوين من شأنه لمجرد أن الذين شعروا به وجدوا من الصعب الإفصاح عنه. وأقصد بهؤلاء طائفتين من الناس، الطائفة الأولي تتكون من النساء اللائي نشأن في بيئة أقل محافظة وأطول عهداً بحياة المدن، وتربين في أسر اعتاد نساؤها علي درجة أكبر من الحرية، ومن الاختلاط بالرجال.
هؤلاء لم يخطر ببالهن قط، ولا ببال أسرهن، أن تغطية الشعر شرط لا غني عنه، لاعتبار المرأة امرأة فاضلة،
أو أن عدم تغطية هذا الجزء أو ذاك من الذراع أو الساق، أو مصافحة المرأة للرجل في مناسبة اجتماعية عادية، من مظاهر سوء سلوك المرأة.
أو أن عدم تغطية هذا الجزء أو ذاك من الذراع أو الساق، أو مصافحة المرأة للرجل في مناسبة اجتماعية عادية، من مظاهر سوء سلوك المرأة.
هؤلاء النساء، وهن كثيرات، لابد أن اعتراهن شعور قوي بالاغتراب والحيرة، إذ يرين أنفسهن وسط نساء ينظرن إليهن شذراً ولا يخفين امتعاضهن.
أما الطائفة الأخري فهي الأقباط، الذين ليس من الصعب تصور ما شعروا به من اغتراب في هذا المناخ الجديد، الذي انتشر فيه فجأة الخطاب الديني، وأصبح يلاحقهم بالميكروفونات، وعلي شاشات التليفزيون، ويؤكده انتشار الحجاب الذي لا تستطيع المرأة القبطية ارتداءه، مهما أرادت الاحتشام، دون أن تشعر بأنها تتنكر لدينها وأهلها.
لقد أصاب بالطبع هذا النوع الجديد من تفسير الدين حفيظة شريحة كبيرة من المثقفين المصريين ، الذين رأوا فيه خروجاً صارخاً علي ما عهدوه، حتي نهاية الستينيات، من تفسير للدين أكثر تسامحاً وأقل تمسكاً بالشكليات. وإذا شاهدوا زحف هذا التفسير الجديد للدين علي وسائل الإعلام،
وارتفاع نبرته في سلوك الناس وعلاقاتهم ببعضهم البعض في الشوارع والمصالح الحكومية وفي ميكرفونات المساجد، شعروا أيضاً باغتراب متزايد القوة عما يحدث في مجتمعهم، إذ إنهم وجدوا أنهم إذا لم يقبلوا مسايرة ما يحدث من حولهم فسوف تتكرر أكثر فأكثر، معاملتهم كغرباء، ويستحيل عليهم أن يعبروا عن حقيقة مشاعرهم.
في وسط كل هذه المصادر المتعددة للشعور بالاغتراب، فضل بعض المثقفين المصريين أن يغتربوا جسدياً - أي أن يتركوا وطنهم ويعيشوا في بلد آخر - علي الاستمرار في العيش في بلدهم الذي أصبح غريباً عنهم. ذهب بعض المثقفين اليساريين للإقامة في بغداد أو دولة أو أخري من دول الخليج، أو في باريس أو لندن،
حيث لقي بعضهم ترحيباً من نظام صدام حسين في العراق، أو ترحيباً من المثقفين اليساريين في فرنسا، أو من أصحاب الصحف العربية التي تصدر في لندن، وفضل صحفي مصري كبير رئاسة تحرير مجلة شهرية كويتية علي رئاسة تحرير أكبر جريدة يومية في مصر، وفضل آخرون وظائف مريحة في بعض البلاد العربية في المشرق أو المغرب، لا يستخدمون فيها إلا جزءاً صغيراً من طاقتهم، ولا يعبرون فيها علي أي نحو عن أنفسهم، ولكنها تمنحهم علي الأقل راحة البال وتخلصهم من التوتر المستمر، الذي كانوا يشعرون به في مصر
أما الطائفة الأخري فهي الأقباط، الذين ليس من الصعب تصور ما شعروا به من اغتراب في هذا المناخ الجديد، الذي انتشر فيه فجأة الخطاب الديني، وأصبح يلاحقهم بالميكروفونات، وعلي شاشات التليفزيون، ويؤكده انتشار الحجاب الذي لا تستطيع المرأة القبطية ارتداءه، مهما أرادت الاحتشام، دون أن تشعر بأنها تتنكر لدينها وأهلها.
لقد أصاب بالطبع هذا النوع الجديد من تفسير الدين حفيظة شريحة كبيرة من المثقفين المصريين ، الذين رأوا فيه خروجاً صارخاً علي ما عهدوه، حتي نهاية الستينيات، من تفسير للدين أكثر تسامحاً وأقل تمسكاً بالشكليات. وإذا شاهدوا زحف هذا التفسير الجديد للدين علي وسائل الإعلام،
وارتفاع نبرته في سلوك الناس وعلاقاتهم ببعضهم البعض في الشوارع والمصالح الحكومية وفي ميكرفونات المساجد، شعروا أيضاً باغتراب متزايد القوة عما يحدث في مجتمعهم، إذ إنهم وجدوا أنهم إذا لم يقبلوا مسايرة ما يحدث من حولهم فسوف تتكرر أكثر فأكثر، معاملتهم كغرباء، ويستحيل عليهم أن يعبروا عن حقيقة مشاعرهم.
في وسط كل هذه المصادر المتعددة للشعور بالاغتراب، فضل بعض المثقفين المصريين أن يغتربوا جسدياً - أي أن يتركوا وطنهم ويعيشوا في بلد آخر - علي الاستمرار في العيش في بلدهم الذي أصبح غريباً عنهم. ذهب بعض المثقفين اليساريين للإقامة في بغداد أو دولة أو أخري من دول الخليج، أو في باريس أو لندن،
حيث لقي بعضهم ترحيباً من نظام صدام حسين في العراق، أو ترحيباً من المثقفين اليساريين في فرنسا، أو من أصحاب الصحف العربية التي تصدر في لندن، وفضل صحفي مصري كبير رئاسة تحرير مجلة شهرية كويتية علي رئاسة تحرير أكبر جريدة يومية في مصر، وفضل آخرون وظائف مريحة في بعض البلاد العربية في المشرق أو المغرب، لا يستخدمون فيها إلا جزءاً صغيراً من طاقتهم، ولا يعبرون فيها علي أي نحو عن أنفسهم، ولكنها تمنحهم علي الأقل راحة البال وتخلصهم من التوتر المستمر، الذي كانوا يشعرون به في مصر
بل فضل بعض الملحنين الكبار أن يشتغلوا بالتجارة، علي الاستمرار في التأليف الموسيقي
ولم يجد مثقفون آخرون بأساً من إنفاق ما بقي من عمرهم في تربية العجول في قريتهم
المصرى اليوم - 23/12/2007
No comments:
Post a Comment