Friday, September 14, 2007

المسموح والممنوع في أرض مصر

اختلت المعايير التي علي ضوئها نري الخطأ والصواب، والمسموح والممنوع، وتحولت بعض الجرائم إلي أمور عادية، وصار هناك كثير من الأمور العادية جرائم، وانقلب سلم القيم رأسا علي عقب، وأصبحنا نتعايش مع مشاهد شديدة الخطورة والبؤس، باعتبارها مسائل عادية لا تثير أي إحساس بالرفض أو المقاومة.
وربما كانت الشائعة التي ترددت مؤخرا عن تدهور صحة الرئيس، تعكس هذه الطريقة «المقلوبة» في التعامل مع كثير من الأمور في مصر، فالشائعة كما هو معروف ترددت في الشارع بقوة، ثم تلقفتها مواقع الإنترنت، قبل أن تشير إليها أي صحيفة ومنها -بالطبع- الدستور،
وكان من الطبيعي أن يثير الانتشار الهائل لهذه الشائعة قلقا داخل النظام، ويطرح تساؤلات حول أسباب انتشارها والإصرار عليها بهذه الطريقة، لا أن تتحول إلي قضية أمنية يستدعي علي إثرها رئيس تحرير الدستور للتحقيق أمام النيابة ثم يحول بعدها للمحاكمة، لأنه نقل أخبارا شائعة صمت الآذان علي مدار أسبوعين كاملين.
والمؤكد أننا صرنا نشهد حوادث يومية أقرب للكوارث، دون أن تثير قلق المسؤولين، فهل كان يمكن لأحد فينا أن يتوقع أن يصل غضب بعض المصريين علي بلدهم إلي ذهابهم حتي الحدود الإسرائيلية ليعلنوا رغبتهم في اللجوء لآخر دولة احتلال عنصري في العالم؟!
لقد اعتبرته الحكومة أمرا عاديا، أما الأمر الذي أقلقها وصبت جام غضبها عليه، فهو تظاهر هؤلاء ضد أجهزة الأمن، أو حديثهم مع منظمات المجتمع المدني عن التعذيب المشين الذي تعرضوا له، والطريقة الأمنية القاسية في التعامل مع ملف حساس، يحتاج إلي أسلوب مختلف في التعامل مع سكان المناطق الحدودية بكل ما تمثله من خصوصية ثقافية واجتماعية، وإلي رؤية سياسية لكيفية التواصل معهم، حتي تمحو أثر هذا اليوم الذي أعلن فيه مواطنون مصريون عن رغبتهم في اللجوء السياسي لبلد احتل أرضهم، بدلا من البقاء في أحضان الوطن.
المؤكد أن الأخطر في هذا المشهد أن النظام تعامل معه بتبلد شديد، واعتبره أمرا مسموحا لا بأس منه، وربما اعتبر أنه لا مانع من التخلص من أي عدد من السكان حتي لو ذهبوا إلي إسرائيل، أو ماتوا في حادث العبارة أو سقطوا في حوادث الطرق أو القطارات.. كل هذا مسموح، ولكن أن يشتكوا ويئنوا في ندوة أو مع منظمة حقوق إنسان أو في حزب سياسي، فكل هذا من الممنوعات المجرمة.
هل يعقل أن يستمر تعامل النظام بهذا الحياد مع جرائم التعذيب التي يتعرض لها مواطنون أبرياء، ويصب جام غضبه علي منظمات حقوق الإنسان العربية والعالمية إذا تحدثت عن هذه الجرائم، وتخرج اتهامات العمالة للخارج، وشعارات رفض التدخل في الشؤون الداخلية، كبديل عن المحاسبة الصارمة لمرتكبي هذه الحوادث، لتصبح الجريمة أمرا مقبولا، وفضحها هو الأمر المستهجن؟!
صار قبول التدخل في شؤوننا الداخلية أمرا طبيعيا ومقبولا في سياستنا الخارجية، بل كثير من سياساتنا الداخلية، إلا ما يتعلق بالإصلاح والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان هنا فقط تخرج شعارات السيادة الوطنية، ورفض التدخل في الشؤون الداخلية.
علينا أن نعرف أننا في هذا العصر أصبحنا نعيش مرحلة، انتقل فيها التعذيب من أعضاء التنظيمات السياسية- كما حدث مع بعض الشيوعيين والإخوان في عهد عبد الناصر، أو مع كثير من العناصر الجهادية في عهد مبارك- إلي تعذيب يمس «المواطن الصالح» الذي ليست له علاقة بالسياسة ولا تنظيمات المعارضة، وربما يحب الرئيس ونجله ومعهما حزب الحكومة، ومع ذلك لم يسلم من التعذيب والقهر اللذين وصلا إلي حد إلقاء أحد المواطنين الشرفاء من شرفته بالعمرانية الشهر الماضي، وغيرها من عشرات الحوادث التي شهدتها ربوع مصر مع مواطنين «يسيرون جنب الحائط»، ومع ذلك لم يسلموا من بطش الحكومة، وأجهزتها الأمنية.
وصار من المسموح أيضا مشاهدة رجال دين يفتون بفتاوي تكرس التخلف والطائفية، ولم يهتموا بتثقيف أنفسهم في قضية معاصرة واحدة، خاصة أنهم لا يكتفون بالفتوي في الدين، إنما انتقلوا للحديث في أمور السياسة، من العولمة إلي الديمقراطية، ومن الصراع العربي- الإسرائيلي إلي الحرب الأمريكية علي الإرهاب، وأفتوا بفتاوي ما أنزل الله بها من سلطان، خربت عقول الكثيرين بسبب أفكار شديدة الجهل قبل أن تكون شديدة التخلف، ومع ذلك سمح لهم بأن يصولوا ويجولوا في كل مكان، من القنوات التليفزيونية الرسمية، إلي صحف الحكومة «القومية».
وتبدو مفارقة أن ينال الشيخ يوسف القرضاوي كل هذا الاهتمام والاحترام الرسمي والشعبي في معظم بلدان العالم العربي، في الوقت الذي تم فيه منعه من التليفزيون الرسمي المصري، لصالح شيوخ الجهالة، في مفارقة تبدو صارخة لنظام يدعي أنه مدني ويقول أحيانا إنه عقلاني، ويمارس المنع الصارم لأي حديث في الدين ــ مهما كانت استنارته وعقلانيته ــ يتوازي مع حديث في السياسة عن الإصلاح والديمقراطية وحرية تكوين الأحزاب، لأن المسموح أن نتحدث في كل شيء مهما كان تخلفه ومهما كان غثا، بشرط ألا يتحدث أحد في السياسة، ولا يبدي أي نية لأن ينافس علي السلطة، ولو من بعيد جدا، حتي لا يسقط في «الكبائر» التي لا تغتفر.
لقد أدي هذا المناخ بكثيرين، إلي أن ينتفضوا ويثوروا ضد رأي الوزير فاروق حسني في حجاب الفتيات، وقاد نواب الحزب الوطني هذه الحملة في مجلس الشعب، دفاعا عن مشروعهم في التدين الشكلي، وتحالف معهم نواب الإخوان، وخرجت مظاهرات الطالبات في الجامعات المصرية تندد بما قاله الوزير، ولم يتحرك أحد من هؤلاء حين شهد وسط القاهرة حالة التحرش الجنسي الجماعي التي تعرضت لها فتيات يرتدين في معظمهن الحجاب، واعتبرت طالبات الجامعة هذا الأمر عاديا، في حين أن هذا التصريح الشارد للوزير قلب الدنيا ولم يقعدها.
إن من يشاهد مصر الآن، علي مستوي الوعي والثقافة والجدية، سيكتشف أننا دخلنا فيما يشبه الغيبوبة، واقتربنا من حالة فقدان الوعي وغياب العقل، لأننا تركنا مستباحين لكل من هب ودب، يفتي جهلا ويلقن تخلفا، حتي أصبحنا غير قادرين علي التوافق علي فكرة أو قضية واحدة، تنقلنا للأمام، حتي لو كانت نظافة حي،
وصار المسموح هو كل شيء،
والممنوع هو شيء واحد ...
الاقتراب أو التفكير في الواقع أو الكارثة السياسية
بقلم د.عمرو الشوبكى ١٣/٩/٢٠٠٧
المصرى اليوم

No comments: