في الايام الماضية – جميعها – عمدت فضائية "العربية" الى تغطية أحداث "نهر البارد" مباشرة على مدار الساعة، فيما امتنعت "الجزيرة" عن اعتبار المسألة حدثا يستحق أكثر من حيز في نشرة الاخبار. ثم فجأة تبث "الجزيرة" شريطا لشهاب القدور المتخذ لقب "أبو هريرة"، يعلن فيه انه لم يُقتل فيما هو يقاتل "العدو" و"النظام الظالم"
.أعترف بأنني لحظتها شعرت بالقلق، بعد أيام طويلة من الشعور بالقهر وأنا أرى جنود لبنان يسقطون بمدافع زمرة شاكر العبسي. والسبب ان الاشرطة التي تبثها "الجزيرة" متفردة منفردة، لها دلالات بعيدة المدى. وها هي الفضائية التي نقلت الينا بعد لحظات من اغتيال الرئيس رفيق الحريري، رسالة المناضل أحمد أبو عدس، تحقق السبق الصحافي الموازي: أبو عدس قتل مفجرا "العدو الظالم"، شهاب القدور لا يزال حيا يقاتل ويناضل ويكافح. ويرزق. الذين يُقتلون هم جنود العدو وضباطه ورتباؤه. وعليهم تقام صلاة الغائب، في أنحاء لبنان. وغني عن التوضيح اللاضروري، ان الاشارة الى صلاة الغائب، تعني أن معظم الشهداء هم من المسلمين.زادني قلقا، اسم شهاب القدور. لا شك في أنها عائلة كريمة، وأن "ولا تزر وازرة وزر أخرى".
لكنني لم أتمالك من أن أتذكر كيف بدأت حرب 1975، بعدما ظهر في طرابلس، فيما ظهر، مصلح اجتماعي ثوري اسمه احمد القدور ويلقب اللقب الباعث على الفرح والغبطة والبشرى بما سيتبع: زعيم دولة المطلوبين!
على أن شهاب أهم من أخيه. ففي أيام "السابق" لم تكن الفضائيات قد ظهرت بعد. ولم يكن يحق للقتلة حتى وهم يحاربون "العدو الظالم" ان يمنحوا أنفسهم حق التكني برواة الحديث، أو ولاة المدينة المنورة. لكنه الزمن، وقد تطور من احمد الى شهاب. وشهاب أفظع من أخيه، وفضائي ايضا.المشكلة ليست في الأخ او في أخيه وحدهما. فهي تقع حقا عندما تقوم شركة قائمة على فكرة القتل، بين المواطن والمقيم. عندها، لا نعود نعرف من أين أتى القادمون ولا الى أين يذهب الذاهبون. والى أي مدى. ووفقا لقناة "الجزيرة" فان المحكمة ذات الطابع الدولي سوف تنزل على لبنان ويلا وثبورا. وتاليا فان المسألة أبعد من الاحمدين، قدورة وأبو عدس. وشهاب معهما. المسألة ليست قدرا. انها أبعد من ذلك. انها قدورة. مرة أحمد، مرة شهاب.لقّب أحمد، في تمهيدات الحرب الماضية ومقدماتها واعلان انهيار الدولة، "زعيم دولة المطلوبين". وأطلق ايضا على زمرته ومقاتليه من هاربين ومطلوبين ومحكومين "دولة القدور". ودفع به الى مواجهة الدولة المتهالكة والقانون المداس، كواحد من مجموعة فرق وظواهر الغاية من تشجيعها اغتصاب هيبة المؤسسات وتركيع الأوادم، ونشر عملية التهجير، والتمهيد لالغاء لبنان الغاء كليا، بحيث يسهل تقسيمه وتجزئته ومن ثم توزيعه على المساهمين في الانجاز.وظاهرة شاكر العبسي، المتنقل من سجن الى سجن، ومن تنظيم الى تنظيم، لها غاية مشابهة ولكن تحت مظلات اكثر مهارة. فـ"الشيخ شاكر العبسي" كما يلقب في عالمه، رجل طرد من تنظيم الى تنظيم حتى لم يعد أمامه سوى الحل الاخير. فمن أجل ان يعول ست بنات وابنا، كان لا بد من ان يعلن تنظيمه الخاص. ولما لم تعد هناك أسماء كافية في التمرد على "فتح" الأم، أعلن "فتح الاسلام" مرة واحدة. ولما لم يعثر على فلسطينيين، بحث عن مقاتليه في بنغلادش وباكستان وبين السعوديين القادمين من العراق، وطبعا بين العراقيين ايضا. ولم يكن صعبا على الشيخ المجاهد العثور على لبنانيين لمقاتلة "العدو الظالم"،فالتقاهم في الجيل الجديد من "دولة المطلوبين" ولكن هذه المرة بالقاب مستعارة من التراث الاسلامي، وليس كما في الماضي من حدائق ماركس وجنات ستالين
.تقول مجلة "فورين افيرز" في عددها الأخير إن "القاعدة"، بعد اصابتها بالوهن، راحت تبحث عن دولة ضعيفة تحاول ان تسيطر عليها لكي تنطلق منها. وكان لافتاً انه بعيد بدء المواجهة مع الشيخ شاكر العبسي ظهر في شريط فضائي مناضل ملثّم يهدد المسيحيين والصليبيين في لبنان ويحذرهم. وتبدو حياكة الاشرطة الفضائية ماهرة أحياناً، وأحياناً اخرى تبدو غليظة السيناريو ومصنوعة على عجل. ليس خوفاً من أحد او حرصاً على شيء، ولكن إما تقصداً لرداءة الصوت والتصوير لئلا يشك في حقيقتها، واما لنقص متأصّل في الموهبة الفنية.وكان هدف الشريط واضحاً:
الاول، بكل بساطة، ان يخاف من يمكن ان يخاف وأن يحزم حقائبه من يحزم حقائبه في هذا الوطن الذي حُوّل قاعة مسافرين.
والثاني التأكيد، صوتاً وصورة، لنظرية يوزعها حزب "الاصولية السنية". منذ فترة، هي ان على المسيحيين ان يخافوا، عند الضرورة، فمن يكون أكثر اصولية وسلفية من الشيخ شاكر و"ابو هريرة" والقادمين للمناضلة من باكستان وبنغلادش.الشيخ المجاهد شاكر العبسي لا يبعث منفرداً على القلق او الخوف، حتى عندما يتبين انه قادر على الوقوف في وجه الجيش، متمتعاً حتى التعتعة بالغطاء السياسي الداخلي. فالجيش يكاد يبدو يتيماً وبلا أهل. والشهداء لا يحظون حتى بآداب المراثي وبرقيات رفع العتب. وهو متروك وحيداً كأنما هو وكيل حكومة وليس امانة الشعب والوطن. ومع هذا لم يكن كل ذلك ليبعث على الخوف، لولا ان الفصول التالية في الزعزعة لم تنتظر اطلاقاً نهاية الفصل الاول في نهر البارد. فسرعان ما تحركت عين الحلوة. وسرعان ما بدأ كثيرون يصورون المسألة على أنها حرب ضد الفلسطينيين وليست حرباً ضد الجيش والبلد. وبذلك يمكن رد التأييد عن لبنان، حتى وإن وقفت "فتح" الى جانبه. ويرفق ذلك كله بتفجيرات تنقل الرعب خارج المخيمات واطارها. وتصور المرحلة الاولى للناس على ان التوسع في التقويض سوف يتعدى قدرات الجيش وطاقاته.فهو لا يستطيع ان يكون في كل مكان، ولا ان يوازي مقدرة القادرين على الخراب، بزعامة الشيخ المجاهد شاكر العبسي
.كم تشبه هذه المرحلة بدايات الحرب التي قوضت لبنان أواخر القرن الماضي: الادوات، الالقاب. المطلوبون وقد صاروا زعماء. الدولة المشلولة. السياسيون الفاسقون، بائعو الجملة والمفرق، الاصوات المرددة. الفرق. الزمر. والالحفة.احياناً يفهم المرء – اذا شاء – الشيخ المجاهد شاكر العبسي، ويفهم المطلوب احمد القدور. ويفهم المطلوب شهاب. ويفهم القادمين من باكستان. ومن بنغلادش، ويستحيل ان نفهم بعض الذين لا يذهبون حتى الى جنازات الجنوب. يا للعار. عيب. عيب
بقلم سمير عطاالله
النهار 6/6/2007
No comments:
Post a Comment