Friday, June 22, 2007

هيكل في الجامعةالأمريكية: حالة الفوضي العارمة في وطننا تحتاج ليد شجاعة

اعتذر الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل عن عدم قبوله لدرجة الدكتوراة الفخريةفى العلوم الانسانية التي منحتها له الجامعة الأمريكية في مصر باجماع مجلس امنائها.. واكتفي بقبول الحيثيات التي رتبت عليها الهيئة الاكاديمية للجامعة منح الكاتب الكبير درجة الدكتوراة الفخرية التي تمنحها الجامعة للشخصيات التي تمثل علامات في مجالاتها.. وتتميز برؤي مستقبلية تحدد مسارات التحولات الهامة في الحياة والعالم.. وتتمتع بنبوغ خاص، والتزام عال بقضايا أوطانهم وقضايا الانسانية عامة.
وقد لبي الكاتب الكبير دعوة الجامعة الخميس 14/6/2007 والقي خطابا في قاعة المؤ تمرات في اطار الاحتفال بالمناسبة، وبتخريج دفعة جديدة.. أكد فيه احساسه بالفضل كاملا حين تلقي نص الحيثيات التي رتبت عليها الجامعة منحه الدرجة
تحدث الكاتب الكبير عن الشباب، والعلوم والمعارف والثقافات، وتناقضات الفكر. وخبرة السنين في عالمنا العربي التي لم تعد صالحة للجيل الراهن.. ثم عن دوره، وحرصه الدائم علي أن يظل الضمير الوطني والقومي يقظا علي الدوام.. وكان من ابرز ما جاء في خطابه الهام أن حالة الفوضي العارمة في الوطن العربي والتي تضغط علي كل معني فيه.. الهوية واصولها، الشرعية ومصادرها، القيم ومرجعياتها بل وتضغط علي الحق والحياة والحرية في أبسط تجلياتها.. وفي أوقات التخبط والضياع، فإن يدا شابة شجاعة لابد أن تمد يدها إلي الفعل الجسور من خارج سياق أصبح جريانه تسربا عشوائيا وخطرا..

نص الخطاب

حضرات السيدات والسادة
لقد شاءت جامعتكم الكبيرة الجامعة الأمريكية في القاهرة ممثلة بهيئتها الاكاديمية، ومجلس أمنائها، ورئيسها الدكتور 'دافيد أرنولد' أن تمنحني الليلة درجة الدكتوراة الفخرية في العلوم الانسانية، وذلك شرف سعدت بفكرته قدر اعتزازي بحيثيات قدمت له..
لكن المفارقة أن الفكرة والحيثيات معا، وربما من حيث لم تقصد اعادتني مرة أخري إلي مقاعد الدرس والتحصيل طالب علم، يتعرف علي أبجدية جديدة، وحرف مغاير، ولغة زمان يتحول بشدة وبسرعة من غير انقطاع يتعسف، سواء مع الذاكرة الوطنية والقومية، أو مع مسار الحياة وتقدمها بالضرورة والطبيعة.
إن اللجنة الاكاديمية الخاصة لهذه الجامعة وهي توصي بالفكرة شارحة حيثياتها ومجلس أمنائها وهو يقر بالاجماع توصيتها خلال دورته االسنوية في شهر فبراير الماضي 2007 ورئيسها وهو يكتب إليٌ بالقرار وحيثياته هؤلاء جميعا منحوني أكثر من ظاهر ما قصدوا إليه إذ أتاحوا لي داعيا لمعاودة التفكير والتأمل ثم الالتفات إلي آفاق تفتحت ومجالات توسعت، وكلها تشير علينا بالعودة مرة أخري إلي مقاعد الدرس، علنا نلحق طرفا من علوم ومعارف زمان عالمي متغير!
والحاصل أن قرار الجامعة الذي جاء بي إلي هذه القاعة الزاخرة بالنور والحيوية يعطيني الليلة مجموعة من الدروس المفيدة تجعلني أبادر إليكم بالشكر قبل أن تتوجهوا إلي بالفضل، وأسبق نحوكم بالعرفان قبل أن تلتفتوا نحوي بالتقدير، إذ أجد نفسي ومن أول نظرة أمام عدد من الدروس واضحة الدلالات ظاهرة المعاني:
الأول: درس في تواصل الأجيال يقارب المعجزة، ذلك أنني هنا أمامكم رجل يمثل جيلا يمشي بالعمر علي طريق الغروب لكن بالقرب منه طريقا آخر دخل عليه في الحال جيل تشرق الشمس علي شبابه بفيض من الأمل والخصب.
إنني أمامكم هنا رجل طوف بالآفاق قريبا وبعيدا وتابع تجارب زمانه وعصره ورأي رأي العين خططا ومشروعات تظهر، وعوالم تتشكل، ووقائع مشهودة في الحرب والسياسة، وعهودا من الامبراطورية والتحرر، والثورة والانقلاب، والتقدم والتراجع تحتدم علي اتساع الوطن والاقليم والعالم، ملتقيا خلال هذه الرحلة واسعا وبعيدا مع معظم الرجال والنساء الذين تصدروا وقادوا معارك الصراع الإنساني الهائل الذي امتد بين النصف الثاني من القرن العشرين وحتي الحقبة الأولي من القرن الحادي والعشرين.
لكن من حول ذات الرجل في نفس اللحظة بشائر شروق طالع علي سماوات مفتوحة متوهجة بالفرح تعلن ميلاد نهار جديد حاشد بمسئوليات تتعدي تصورات الأمس، فهذا نهار يستدعي شباب الوطن والأمة كي يتحولوا من مراقبين متابعين لعالمهم إلي أطراف مشاركة في فعله، وكا العالم بالأمس أقاليم أو قارات، والآن فإن العالم أمام هذا الشباب كون أو أكوان، وتلك نقلة مذهلة عليه مسئولية التعامل معها، وإن كان عليه في نفس الوقت محاذرة أن تنفلت النقلة إلي اقتلاع واغتراب، ومن ثم تيه وإحباط.
إننا نتحدث كثيرا عن الحركة: حركة الحياة وحركة التاريخ وحركة التغيير وحركة الانتقال من عصر إلي عصر ، ومن جيل إلي جيل، ومع ذلك فإننا نصف دون أن نشاهد وكثيرا ما نطبق ما نعرف عن قوانين الطبيعة دون أن نرصد فعلها المباشر.
لكن فعل الحركة في هذه القاعة مرئي بالعين ، ملموس بالحس، وذلك مشهد جليل، وفي نفس الوقت درس بليغ، لأنه من الصعب بقوانين الطبيعة أن يلتقي شروق مع غروب، لكنه من منظور التاريخ فإن هذا الصعب يقع أحيانا، وعندما يقع فهو فعل في تواصل الحياة وتجددها يمكن اللحاق به ورصده، وذلك ما أبصره هذه اللحظة.
الدرس الثاني: إن هذه القاعة كما تتبدي الآن برهان يؤكد أن العلوم والمعارف والثقافات هي في مجملها حضارة شراكة إنسانية متدافعة موصولة بقدرة البشر علي الاستيعاب، وكفاءتهم في التعامل مع مطالب الحرية والعدل، ومع أغراض القوة والتفوق، غير أن هذه الشراكة الإنسانية لها في كل وطن وبلد واقليم نبرة خاصة ومذاق بعينه، يعكس ثقافة تحمل رؤيتها لعوامل القدرة والغلبة، بما يناسب أمنها المطلوب ومصالحها المرجوة.
وليس خافيا أنني في كثير مما كتبت وقلت ولا أزال أكتب وأقول أختلف وأحيانا بشدة وبحدة مع السياسة الأمريكية إزاء العالم العربي وهذا الخلاف حقائق أشياء من تباين المواقع والمطالب والمصالح وكذلك الثقافات، وبرغم ذلك وحتي إذا أخذنا في الحساب فواصل ما بين القيم الاكاديمية وبين الممارسات السياسية لأي إدارة فإن الجامعة الأمريكية لم تستشعر حرجا ولا توقفت أمام خط أحمر يستوجب القطيعة أو يستدعي الصدام وذلك درس آخر يعلمنا أن مسافة ما بين الضفاف تحتاج إلي المعابر قبل العوائق خصوصا إزاء تناقضات الفكر وحوارات العمل العام، حتي إذا تعكر مزاج بعض الأطراف في مواسم الخماسين!
الدرس الثالث: وهو درس في المعاني قبل المراسم، وفي العام قبل الخاص مؤداه أنني أحسست بالفضل كاملا حين تلقيت نص الحيثيات التي رتبت عليها الهيئة الاكاديمية للجامعة ما رأت توجيهه إليٌ من شرف، وكانت مطالعة هذه الأسباب كافية حتي أري، أنه من باب المبالغة طلب إضافة عليها.
والشاهد إنسانيا أن كل واحد منا في خاطره أمنية مشروعة تطمح إلي اعتراف الآخرين بأن دوره كان نافعا لمجتمعه وأنه ترك علي سجلاته علامة أو بصمة وأضاف موقفا أو فكرة إلي المخزون العظيم من ذخيرة وطنه وأمته، فإذا ما جاءه اعتراف من يملك اختصاص وأهلية وشرعية الاعتراف، فقد يكون علي المعني بالأمر أن يكتفي بالتعبير عن امتنانه وعرفانه، ثم ينصرف دون تلكؤ في انتظار توثيق مختوم.
الدرس الرابع: وهو يخص المهنة التي أنتمي إليها، مؤداه أن الصحفي أو بالتحديد مهمته تمر في العادة عبر ثلاث مراحل:
في المرحلة الأولي تكون مهمة الصحفي أن يضع تحت نظر قارئه ما يظنه لازما من أخبار ومعلومات صحيحة ومستوفاة.
وفي المرحلة الثانية تتسع المهمة بحيث يصبح جائزا للصحفي بحصيلة المرحلة الأولي أن يبلغ درجة من خبرة تسمح له بتحليل المكتوب والمنشور، والتعليق عليه.
وفي المرحلة الثالثة تكون مهمة الصحفي وأحيانا همه إلي جانب الاخبار والإعلام وإلي جانب التحليل والتعليق أن يقوم بالتذكير والتنبيه.
وربما اعتبرت نفسي ولو بحساب السنين صحفيا يعيش هذه المرحلة الثالثة أي مرحلة استثارة الذاكرة وتنبيهها جهدا ضمن جهود لعل الضمير الوطني والقومي يظل حارسا يقظانا، محرضا علي الوعي، أو في القليل مشددا علي الحرص.
إلا أن الصحفي مطالب قبل تذكير الناس وتنبيههم أن يفعل ذلك مع نفسه، بحيث يدرك ويتصرف وفق أصول وحدود، ربما كان عليه أن لا يغفل عنها أو ينساها.
وعندما وصلتني رسالة رئيس الجامعة ينقل إليٌ قرارها فقد وجدت من حقه وحق الجميع عليٌ أن أكتب إليه واضعا أمامه قاعدة حرصت عليها ولزمتها دائما، وحاولت شرحها في رسالة إليه ملخصها:
إن رموز التكريم والتشريف أو ما شابهها من إشارات وعلامات هي بالنسبة للصحفي حق قرائه ومتابعيه وإذنهم وسماحهم بهذه الرموز هو مجرد اهتمامهم بعمله، وثقتهم فيه.
ولقد أخذت بهذه القاعدة مع الأوسمة والنياشين والدرجات إزاء دول ومؤسسات علمية ومهنية، عربية وأجنبية، وحين بدا لبعضها أنني ألزم نفسي بما لا يلزم، فقد أبديت أن تلك قناعتي، والآن فات وقت الخروج عليها.
حضرات السيدات والسادة:
لقد كان بودي قبل أن أترك هذه المنصة، وكما هو المألوف في مثل هذه المناسبات أن اقدم لشباب الخريجين، وهم الجيل الطالع مع الشروق هذه الليلة!
نصيحة قد تنفع مستقبلا لكني أمتنع عامدا وأكثر من ذلك فإنني أتمني علي هذا الجيل وبمنتهي الجد أن لا يطلب نصيحة السابقين مهما بلغ حسن ظنه بهم ولدي في ذلك أكثر من سبب:
هناك أولا: زحام في المتغيرات المتدافعة يستدعي حقائق لم يختبرها جيل سابق، بحيث يحق له أن يفتي فيها بثقة ويستفيض.
وهناك ثانيا: أن خبرة السنين في العالم العربي مثقلة بعصورها، وذلك ميراث تقليدي لم يعد صالحا لجيل عليه أن ينتقل من مواقع لم يعد ممكنا إعادة البناء وسط أطلالها، وحتي إذا كان عليه أن يعود لاحقا إلي تلك المواقع يدرسها ويحاول استقراء آثارها، ويعرف من الحقائق ما هو لازم لضميره، فإن تلك ليست مهمته العاجلة هذه اللحظة!!
وهناك ثالثا: وذلك قدر هذا الجيل أنه يخرج إلي عالم عربي تمسك به أزمات، وصلت تداعياتها إلي حيث أفقدته الثقة بنفسه، واصابته بحال من الاحباط يهرب منها البعض إما بالاستسلام لليأس وإما بالانسياق إلي خداع النفس وكلتا الحالتين رباط بالماضي آن الأوان لتحريره وفك وثاقه!
وهناك رابعا: حالة فوضي عارمة في العالم العربي، وهي فوضي تضغط علي كل معني فيه: الهوية وأصولها والشرعية ومصادرها والقيم ومرجعياتها بل وتضغط علي الحق والحياة والحرية في أبسط تجلياتها وفي أوقات التخبط والضياع،
فإن يدا شابة شجاعة لابد أن تمد يدها إلي الفعل الجسور من خارج سياق أصبح جريانه تسربا عشوائيا وخطرا!
وهناك آخرا وليس أخيرا: أن هذا الجيل يحتاج إلي أدوات ووسائل مفارقة لما سبقها، ولأن النقلة كما أسلفت مذهلة، فإن المفتاح هو الاكتشاف والفتح وليس المألوف والمعروف!
لذلك أتجاسر وأقول لهذا الجيل مباشرة: لا تسألوا أحدا، ولا تطلبوا نصيحة البارحة أيا كان مصدرها من أجل الغد! وإذا فعلتم فالجواب في الغالب معتم أو مظلم، لأن شمس البارحة سافرت في الغروب!
أقول لشباب هذا الجيل: ادرسوا عالمكم تفهموا عصركم عيشوا قضايا وطنكم وأمتكم وعالمكم وافعلوا ذلك بعيونكم أنتم وابحثوا وراجعوا واستخلصوا بأنفسكم لأنفسكم.
خذوا المسئولية بأيديكم، واطرحوا سؤال المستقبل، وتوصلوا في أول النهار الجديد إلي جواب عليه، فأنتم أصحاب المسألة كلها: سؤالا، وجوابا، ومستقبلا!
حضرات السيدات والسادة:
لقد كان كرما من الجامعة أن تقول لي وباستقلالية العلم ومهابته أن جهدي في مهنتي ومن خلالها لوطني وأمتي كان علي نحو ما ملحوظا ومقبولا.
وكان كرما من الجامعة أن تدعوني إلي هذا اللقاء المدهش بين الشروق والغروب.
وكان كرما من الجامعة أن تقبل مني الاكتفاء بالحيثيات، معتذرا عما يترتب عليها ويليها، قانعا ومعترفا بالفضل.
ثم كان كرما منكم ان تسمحوا لي بشرح موقفي أمامكم، وأملي أن ما قلته كان منطقيا أو علي الأقل بعضه وإذا لم يكن كذلك، فان ملاذي الأخير سعة صدركم وصبركم.
ولكم وللجميع شكري وعرفاني وبغير حد

No comments: