يأتون من مختلف أنحاء المدينة متجهمين ومتعبين لتناوله بشراهة
يبدو ان هناك طريقة معينة لشرب عصير القصب، فالزبائن يقفون أمام اشهر محل لعصير القصب في القاهرة، يمسكون الكوب الزجاجي الطويل بين الابهام والسبابة، وينظرون للعصير اللبني، وكأنهم ينظرون الى شيء قيم، ثم يشربونه مرة واحدة. وهناك دائما ازدحام حول محل عصير القصب في شارع صلاح سالم في القاهرة القديمة. لا يوجد طابور، بل مجموعة من الرجال والنساء والاطفال، المسلمين والمسيحيين، المحجبات وغير المحجبات، الفقراء والاثرياء، طوال اليوم. ويقول علي محمد البالغ من العمر 52 سنة، وهو يمسح الرغوة البيضاء من على شفتيه، «لقد تغير كل شيء في هذا الحي. ولكن محل العصير، لا يزال كما هو».
ويمثل محل العصير الصغير هذا، بمروحته المغطاة بالاتربة واصوات المعصرة، ما كانت عليه القاهرة في الماضي، وما تسعى اليه في الازمنة الحديثة: الصبر وعدم الصبر، التسامح وعدم التسامح، الامل والارهاق. والمقارنات هي نتيجة للمنتج ذاته، مجرد العصير الخام البارد لقصب السكر، كما كان منذ افتتاح المحل عام 1945.
ولكن الجو المحيط هو انعكاس للناس، الذين يأتون من جميع احياء القاهرة من اجل كوب عصير، الذي يصل ثمنه الى 50 قرشا. ويتولى جمال فرج، غسل الاكواب وصب العصير واخذ ثمن العصير ورد ما تبقى. وقال انه يعمل في هذا المكان منذ عام 1968.
وقال بمرارة ساخرة وهو يصب العصير «لا أحب هذا العمل». وكانت يداه ورديتين واظافره مشوهة من جراء سنوات من غسيل الاكواب وصب العصير. وقال انه لا يشرب العصير على الاطلاق. انا «زهقت» من العمل.
وصاح زبون «من الذي لم يزهق. الجميع يشعرون بالزهق من عملهم».
ويبدو ان الامر تطلب من فرج قدرة كبيرة لضبط اعصابه، وعدم القاء كوب على الزبون. وقال له «قف مكاني خمس دقائق، ثم تكلم»، بدون ان يتوقف عن عمله: غسل الاكواب وصب العصير.
وتشتهر مصر بصبرها واستقرارها. ولكن مصر الحالية التي لا تزال صابرة ومستقرة، تشعر بانكماش هذا الاحساس. فبدلا من اقناع الناس بالافكار، يزداد اعتماد السلطة على اجهزة الامن لهزيمة هؤلاء الذين لا تفضلهم: المدونون والاسلاميون والمضربون والمدافعون عن الديمقراطية.
ويقول حسين امين رئيس قسم الاعلام في الجامعة الاميركية في القاهرة، «نشتهر منذ زمن الفراعنة بالتسامح. ولكننا شعرنا بالارهاق. انظر الى الشوارع المغمورة بالضغوط. ماذا حدث لهذه المدينة؟ يجب ان تكون مدينة البهجة». وينظر الناس الى جمال وعصير القصب بحثا عما كان.
ويقول عبد المولى، وهو سائق تاكسي توقف لشرب كوبين من العصير «عندما نجد مكانا مثل هذا، يعمل فيه ناس جيدون لهم ضمير، يشعرك ذلك بالسعادة. كان الناس مختلفين في الماضي. والان يسعى الجميع من اجل الحصول على المال. نادرا ما تجد مكانا مثل هذا». ويزرع قصب السكر في المزارع الخصبة على طول نهر النيل صعيد مصر. يوضع القصب داخل محل العصير في المعصرة وتعصر كل حزمة خمس مرات. ويصب خليط العصير والمتبقي منه داخل سطل معدني به قطعة ثلج كبيرة. يقف فرج الى جانب السطل المعدني ليعبئ عشرة أكواب زجاجية ويصب العصير مستخدما قمعا معدنيا. وقال فرج ان كل شيء في هذا الزمن صعب، ويوافقه زبائنه الرأي، مؤكدين ان حياتهم اصبحت اكثر صعوبة. الشوارع مزدحمة للغاية وخطيرة، الأسعار مرتفعة، فيما الرواتب على حالها. الوظائف محدودة، والأثرياء يزدادون ثراء. ويبدو كل يوم ان سيارات المرسيدس تتفوق عددا على عربات الكارو التي تجرها الحمير. يقول الكاتب المسرحي المصري علي سالم، ان وجوه الناس تعكس الألم والسأم والإنهاك، ويضيف قائلا ان هذا يمكن ملاحظته على كل الوجوه، على الرغم من انه كان من النادر ان ترى شخصا متجهم الوجه في السابق. هذا ما يراه فرج على اوجه الزبائن الذين يأتون من مختلف أنحاء المدينة متجهمين ومتعبين لتناول كوب من عصير القصب. اسم المحل «أولاد سعد عفيفي»، فتح المحل سعد عفيفي، إلا ان اولاده لا يعملون في المحل حاليا، او لا يعملون بصورة منتظمة على الأقل. رؤوف عفيفي هو ابن سعد عفيفي وواحد من مالكي المحل، ويعمل استاذا جامعيا. اما فرج، فإنه من أقرباء الاسرة، وكان شريكا في المحل لكنه لم يعد شريكا قبل عدة سنوات، الأمر الذي اصبح مصدر غضب لفرج، الذي يشكو من انه لا يعدو ان يكون عاملا براتب شهري، كما لا يخفي شكواه من انه لا يتقاضى مالا كافيا. المحل عبارة عن حجرة واحدة بها طاولة من معدن لا يصدأ ومنحدرة قليلا لتسهيل عملية انسياب السوائل. هناك ايضا حوض يستخدمه فرج لغسل الأكواب بدون أي صابون او ماء حار. الأكواب تغسل بهذه الطريقة، بل ان بعض المحلات الأخرى لا تقوم حتى بهذه المجهود. بدأ الزبائن يتجمعون في وقت مبكر، التلاميذ يقفون بالمحل، وهم في طريقهم الى المدارس صباحا، والكبار وهم في طريقهم الى العمل، وفي وقت لاحق النساء عندما يخرجن للتسوق، فضلا عن طلاب خلال فترة استراحة نصف اليوم وسائقين يمرون بالمحل والرجال ايضا عندما يخرجون بعد انتهاء يوم العمل. يبتسم فرج من حين لآخر، لكنه يظل معظم الوقت يعمل بإيقاعه. إنه لا يميل كثيرا الى تجاذب أطراف الحديث مع الآخرين، لكنه يشارك برأيه في بعض الأحيان في شكل شكوى، ويقول ان «الناس يتغيرون كل يوم والزمن يتغير وكل شيء يتغير». سأله واحد من الزبائن عن كيفية تغير الناس، وأجاب قائلا: «عندما يتوفر الوقت ولا يكون ذهني منشغلا، سأتحدث معك حول هذه القضية». وعندما سأله الزبون عن الوقت الذي يمكن ان يحدث فيه ذلك، رد فرج قائلا: «عندما أموت لن يكون هناك ما يشغل ذهني»، ثم عاد مجددا الى غسل الأكواب وسكب العصير
ويمثل محل العصير الصغير هذا، بمروحته المغطاة بالاتربة واصوات المعصرة، ما كانت عليه القاهرة في الماضي، وما تسعى اليه في الازمنة الحديثة: الصبر وعدم الصبر، التسامح وعدم التسامح، الامل والارهاق. والمقارنات هي نتيجة للمنتج ذاته، مجرد العصير الخام البارد لقصب السكر، كما كان منذ افتتاح المحل عام 1945.
ولكن الجو المحيط هو انعكاس للناس، الذين يأتون من جميع احياء القاهرة من اجل كوب عصير، الذي يصل ثمنه الى 50 قرشا. ويتولى جمال فرج، غسل الاكواب وصب العصير واخذ ثمن العصير ورد ما تبقى. وقال انه يعمل في هذا المكان منذ عام 1968.
وقال بمرارة ساخرة وهو يصب العصير «لا أحب هذا العمل». وكانت يداه ورديتين واظافره مشوهة من جراء سنوات من غسيل الاكواب وصب العصير. وقال انه لا يشرب العصير على الاطلاق. انا «زهقت» من العمل.
وصاح زبون «من الذي لم يزهق. الجميع يشعرون بالزهق من عملهم».
ويبدو ان الامر تطلب من فرج قدرة كبيرة لضبط اعصابه، وعدم القاء كوب على الزبون. وقال له «قف مكاني خمس دقائق، ثم تكلم»، بدون ان يتوقف عن عمله: غسل الاكواب وصب العصير.
وتشتهر مصر بصبرها واستقرارها. ولكن مصر الحالية التي لا تزال صابرة ومستقرة، تشعر بانكماش هذا الاحساس. فبدلا من اقناع الناس بالافكار، يزداد اعتماد السلطة على اجهزة الامن لهزيمة هؤلاء الذين لا تفضلهم: المدونون والاسلاميون والمضربون والمدافعون عن الديمقراطية.
ويقول حسين امين رئيس قسم الاعلام في الجامعة الاميركية في القاهرة، «نشتهر منذ زمن الفراعنة بالتسامح. ولكننا شعرنا بالارهاق. انظر الى الشوارع المغمورة بالضغوط. ماذا حدث لهذه المدينة؟ يجب ان تكون مدينة البهجة». وينظر الناس الى جمال وعصير القصب بحثا عما كان.
ويقول عبد المولى، وهو سائق تاكسي توقف لشرب كوبين من العصير «عندما نجد مكانا مثل هذا، يعمل فيه ناس جيدون لهم ضمير، يشعرك ذلك بالسعادة. كان الناس مختلفين في الماضي. والان يسعى الجميع من اجل الحصول على المال. نادرا ما تجد مكانا مثل هذا». ويزرع قصب السكر في المزارع الخصبة على طول نهر النيل صعيد مصر. يوضع القصب داخل محل العصير في المعصرة وتعصر كل حزمة خمس مرات. ويصب خليط العصير والمتبقي منه داخل سطل معدني به قطعة ثلج كبيرة. يقف فرج الى جانب السطل المعدني ليعبئ عشرة أكواب زجاجية ويصب العصير مستخدما قمعا معدنيا. وقال فرج ان كل شيء في هذا الزمن صعب، ويوافقه زبائنه الرأي، مؤكدين ان حياتهم اصبحت اكثر صعوبة. الشوارع مزدحمة للغاية وخطيرة، الأسعار مرتفعة، فيما الرواتب على حالها. الوظائف محدودة، والأثرياء يزدادون ثراء. ويبدو كل يوم ان سيارات المرسيدس تتفوق عددا على عربات الكارو التي تجرها الحمير. يقول الكاتب المسرحي المصري علي سالم، ان وجوه الناس تعكس الألم والسأم والإنهاك، ويضيف قائلا ان هذا يمكن ملاحظته على كل الوجوه، على الرغم من انه كان من النادر ان ترى شخصا متجهم الوجه في السابق. هذا ما يراه فرج على اوجه الزبائن الذين يأتون من مختلف أنحاء المدينة متجهمين ومتعبين لتناول كوب من عصير القصب. اسم المحل «أولاد سعد عفيفي»، فتح المحل سعد عفيفي، إلا ان اولاده لا يعملون في المحل حاليا، او لا يعملون بصورة منتظمة على الأقل. رؤوف عفيفي هو ابن سعد عفيفي وواحد من مالكي المحل، ويعمل استاذا جامعيا. اما فرج، فإنه من أقرباء الاسرة، وكان شريكا في المحل لكنه لم يعد شريكا قبل عدة سنوات، الأمر الذي اصبح مصدر غضب لفرج، الذي يشكو من انه لا يعدو ان يكون عاملا براتب شهري، كما لا يخفي شكواه من انه لا يتقاضى مالا كافيا. المحل عبارة عن حجرة واحدة بها طاولة من معدن لا يصدأ ومنحدرة قليلا لتسهيل عملية انسياب السوائل. هناك ايضا حوض يستخدمه فرج لغسل الأكواب بدون أي صابون او ماء حار. الأكواب تغسل بهذه الطريقة، بل ان بعض المحلات الأخرى لا تقوم حتى بهذه المجهود. بدأ الزبائن يتجمعون في وقت مبكر، التلاميذ يقفون بالمحل، وهم في طريقهم الى المدارس صباحا، والكبار وهم في طريقهم الى العمل، وفي وقت لاحق النساء عندما يخرجن للتسوق، فضلا عن طلاب خلال فترة استراحة نصف اليوم وسائقين يمرون بالمحل والرجال ايضا عندما يخرجون بعد انتهاء يوم العمل. يبتسم فرج من حين لآخر، لكنه يظل معظم الوقت يعمل بإيقاعه. إنه لا يميل كثيرا الى تجاذب أطراف الحديث مع الآخرين، لكنه يشارك برأيه في بعض الأحيان في شكل شكوى، ويقول ان «الناس يتغيرون كل يوم والزمن يتغير وكل شيء يتغير». سأله واحد من الزبائن عن كيفية تغير الناس، وأجاب قائلا: «عندما يتوفر الوقت ولا يكون ذهني منشغلا، سأتحدث معك حول هذه القضية». وعندما سأله الزبون عن الوقت الذي يمكن ان يحدث فيه ذلك، رد فرج قائلا: «عندما أموت لن يكون هناك ما يشغل ذهني»، ثم عاد مجددا الى غسل الأكواب وسكب العصير
القاهرة: مايكل سلاكمان
نيويورك تايمز
No comments:
Post a Comment