لم يكن يوماً عادياً
.. رجل استثنائي.. مكان فريد.. وحوار لم يحدث من قبل
لا شيء هنا يقاس بـ«الفيمتو ثانية».. فالبيت الريفي الذي يفضله الرجل حين يزور مصر يتوسط الحقول الخضراء في «نزلة السمان» ويتشح بالهدوء والسكينة وكأنه يعلم أن صاحبه يعاني ضجيج العلم وهمومه.. ولا شيء هنا مختلف عن «مصر»..
فالفلاحون يتحركون ببطء وكأن الأمور لن تتغير.. ولا شيء تركناه دون نقاش في هذا الحوار المطول.. فالرجل قرر أن يفتح قلبه وعقله معاً.. لذا فحين امتد الحوار لأكثر من ٨ ساعات علي مدي يوم كامل.. كان لا يفعل شيئاً سوي أن يطلب مدداً من الطعام والشراب..
وبالنسبة لي كان الأمر رائعاً: حديثاً بلا ضفاف مع العالم والمفكر الكبير د. أحمد زويل.. مكاناً بلا ضجيج.. هواء منعشاً و«أكلاً طبيعياً».. و- الأهم - تدفقاً غير مسبوق من الأفكار والآراء. بصراحة.. يمكنكم اعتبار هذا الحوار بمثابة مشروع مهم لي وله.. فقد قال لي ضاحكاً: هل تصدق أنني لم أقض يوماً كاملاً مع صحيفة الـ «واشنطن بوست» الأمريكية مثلما فعلت معكم؟!.. فأجبت مداعباً: وأنا لم أفتح حواراً بهذا الاتساع مع أحد من قبل
وإذا كان لي أن أضع «كتالوج» أو وصفة محددة لقراءة هذا الحوار.. فإن الأمر يستدعي القول بأنه
لا شيء هنا يقاس بـ«الفيمتو ثانية».. فالبيت الريفي الذي يفضله الرجل حين يزور مصر يتوسط الحقول الخضراء في «نزلة السمان» ويتشح بالهدوء والسكينة وكأنه يعلم أن صاحبه يعاني ضجيج العلم وهمومه.. ولا شيء هنا مختلف عن «مصر»..
فالفلاحون يتحركون ببطء وكأن الأمور لن تتغير.. ولا شيء تركناه دون نقاش في هذا الحوار المطول.. فالرجل قرر أن يفتح قلبه وعقله معاً.. لذا فحين امتد الحوار لأكثر من ٨ ساعات علي مدي يوم كامل.. كان لا يفعل شيئاً سوي أن يطلب مدداً من الطعام والشراب..
وبالنسبة لي كان الأمر رائعاً: حديثاً بلا ضفاف مع العالم والمفكر الكبير د. أحمد زويل.. مكاناً بلا ضجيج.. هواء منعشاً و«أكلاً طبيعياً».. و- الأهم - تدفقاً غير مسبوق من الأفكار والآراء. بصراحة.. يمكنكم اعتبار هذا الحوار بمثابة مشروع مهم لي وله.. فقد قال لي ضاحكاً: هل تصدق أنني لم أقض يوماً كاملاً مع صحيفة الـ «واشنطن بوست» الأمريكية مثلما فعلت معكم؟!.. فأجبت مداعباً: وأنا لم أفتح حواراً بهذا الاتساع مع أحد من قبل
وإذا كان لي أن أضع «كتالوج» أو وصفة محددة لقراءة هذا الحوار.. فإن الأمر يستدعي القول بأنه
حوار حول المستقبل استناداً إلي الماضي وانطلاقاً من الواقع الراهن.. واقع العالم ومصر علي هامشه.. وماضي مصر والعالم في قلبه.. والقادم في العلم والغرب في عمقه، ومصر خارجه.
يبدو لي دائماً أن مصر كانت «حامل» في بداية القرن التاسع عشر.. كانت تحمل جنيناً لم تدب فيه الحركة بعد.. جنيناً لو قدر له أن ولد لكان الآن شاباً يافعاً يملأ البلد حيوية وتدفقاً.. ولكن «الحمل» لم يكتمل.. حاول «محمد علي» وعاندته الأقدار.. ولكنه وضع لبنة لمن أتي بعده.. غير أن شيئاً ما حدث في مصر أدي إلي وأد الجنين وطمس اللبنة.. فتوقف كل شيء.
قلت لـ«زويل»: أنت مهموم بـ «خط الزمن».. ونحن يمزقنا الزمن الذي لا يتحرك ولا يأتي بجديد.. كل شيء ثابت
والكادر يعاني رتابة وجموداً وتكلساً.. فهل فقدت مصر اتصالها بخط الزمن.. أم أن ما يحدث الآن يمثل مرحلة طبيعية في سياق متصل؟!
خلع زويل نظارته السوداء ونظر إلي العمق المرئي في الحقول المترامية علي جانبي حديقة منزله الريفي.. ثم قال:
خلع زويل نظارته السوداء ونظر إلي العمق المرئي في الحقول المترامية علي جانبي حديقة منزله الريفي.. ثم قال:
اسمع.. ربما تكون اللحظة التي اخترتها أنت مناسبة للغاية.. فخط الزمن في مصر الحديثة بدأ بمرحلة محمد علي.. فهي نقطة تاريخية فاصلة..
ودائماً ما نقيس تأثير المراحل التاريخية بما حدث للشعب وقتها.. ومصر شهدت نقلة أو قفزة مهمة في عصر محمد علي.. ولكن دعنا نقف عند هذا الرجل قليلاً لنفهم ماذا حدث بعده.. وماذا يحدث حتي الآن.. محمد علي رجل علّم نفسه وهو في الأربعين من عمره.. إذ كان «أمياً» حتي هذا الوقت.. إذن فقد أدرك أن «العلم» مهم له شخصياً كحاكم.. والأهم من ذلك أنه كان يمتلك أهم مقومات التقدم وهي «الرؤية»..
ورؤيته تلخصت في التالي: مصر دولة متخلفة ولن تتقدم إلا إذا تبنت مشروعاً لإصلاح التعليم.. والدليل أن أهم منجزات هذه الفترة كان بناء المدارس المتميزة وإرسال البعثات للخارج.. وبعد أن أطلق جناح العلم والتعليم بدأ في إطلاق «جناح القوة».. فأعاد ترتيب الجيش وتحديثه.. فاستطاع التوسع في المنطقة حتي تخوم أوروبا.
والواقع أن الدولة التي أسسها محمد علي ما كانت لتحقق هذا النجاح دون امتلاك الحاكم رؤية واضحة.. لأن الرؤية هي التي جعلته يركز علي عنصر التعليم والجيش.
ودائماً ما نقيس تأثير المراحل التاريخية بما حدث للشعب وقتها.. ومصر شهدت نقلة أو قفزة مهمة في عصر محمد علي.. ولكن دعنا نقف عند هذا الرجل قليلاً لنفهم ماذا حدث بعده.. وماذا يحدث حتي الآن.. محمد علي رجل علّم نفسه وهو في الأربعين من عمره.. إذ كان «أمياً» حتي هذا الوقت.. إذن فقد أدرك أن «العلم» مهم له شخصياً كحاكم.. والأهم من ذلك أنه كان يمتلك أهم مقومات التقدم وهي «الرؤية»..
ورؤيته تلخصت في التالي: مصر دولة متخلفة ولن تتقدم إلا إذا تبنت مشروعاً لإصلاح التعليم.. والدليل أن أهم منجزات هذه الفترة كان بناء المدارس المتميزة وإرسال البعثات للخارج.. وبعد أن أطلق جناح العلم والتعليم بدأ في إطلاق «جناح القوة».. فأعاد ترتيب الجيش وتحديثه.. فاستطاع التوسع في المنطقة حتي تخوم أوروبا.
والواقع أن الدولة التي أسسها محمد علي ما كانت لتحقق هذا النجاح دون امتلاك الحاكم رؤية واضحة.. لأن الرؤية هي التي جعلته يركز علي عنصر التعليم والجيش.
الديمقراطية
إذن فالعلم هو العنصر الحاكم في تجربة محمد علي التي يراها د. زويل بداية «خط الزمن» في مصر الحديثة.. ولكنني ـ شخصياً ـ مهموم أيضاً بمسألة الديمقراطية.. فرغم خصوصية زمن محمد علي.. فإن تحقيق هذه الرؤية المتقدمة في بناء دولة تم علي يد حاكم ديكتاتوري يؤمن بنظرية «الفرد».. فهل يستوي الأمر؟!
ـ د. زويل لا يختلف كثيراً معي في هذه النقطة.. فهو يؤمن بأهمية الديمقراطية في بناء الأمم.. ولكنه يدلف إلي هذه المنطقة من مساحة أخري: لا أستطيع القول إن محمد علي كان حاكماً ديمقراطياً.. غير أنني أري أن الأفضل للشعوب دائما: إما أن يكون لديها نظام ديمقراطي يستلهم أفضل مالدي المواطن من إبداع وقدرات خاصة، ويبني المؤسسات، ويربي القيادات.. أو أن يكون لديها ديكتاتور عنده رؤية..
قاطعته: هل تقصد الديكتاتور العادل؟!
قال: لا وجود لما يسمي «الديكتاتور العادل».. ربما لأن العدل نفسه قيمة نسبية وليست مطلقة.. وربما لأنه يصعب ائتمان شخص واحد علي فضيلة العدل لأنه ببساطة بشر.. وربما لأن العدل يحتاج دائماً إلي مؤسسات ترسخه وترعاه وتحميه أيضاً من «شطحات الحاكم».. ولكنني أقصد «الديكتاتور ذا الرؤية».. تماماً مثل مهاتير محمد.. فقد كان ديكتاتوراً..
ولكنه صاحب رؤية، وكانت رؤيته تتلخص في التالي: ماليزيا دولة فقيرة ومتخلفة عن ركب الحضارة.. والمواطن الماليزي يعيش علي «الأرز» والبلد بلا مؤسسات.. والمطلوب أن تتحول ماليزيا إلي دولة عصرية عبر بناء المؤسسات، واحترام القوانين، ومنح المواطن فرصة وحرية في التحرك، وتحقيق «الاكتفاء الذاتي»، وتحرير الاقتصاد، كل ذلك بينما النظام الحاكم ليس ديمقراطياً.
كذلك الصين.. فهي دولة غير ديمقراطية، ولكنها تمتلك رؤية تعتمد علي محورين: الأول توظيف الإمكانات المتاحة سواء البشرية أو الطبيعية.. والثاني: مفهوم عصري لنظام اقتصادي يتناسب مع طبيعة البلد سواء سياسياً أو بشرياً.
ماليزيا والصين نجحتا في التحدي.. وكذلك أيرلندا رغم أنها تنتمي لنمط آخر وهو النظام الديمقراطي، فهي دولة صغيرة قوامها ٤ ملايين نسمة، والديمقراطية في أيرلندا لم تفرز حياة حرة فقط وإنما أفرزت - وهذا هو الأهم - نظاماً تعليمياً ورؤية سياسية واضحة للأمة.. وبهذه الصيغة جعلت دخل الفرد فيها من أعلي الدخول في أوروبا كلها.
إذن فالعلم هو العنصر الحاكم في تجربة محمد علي التي يراها د. زويل بداية «خط الزمن» في مصر الحديثة.. ولكنني ـ شخصياً ـ مهموم أيضاً بمسألة الديمقراطية.. فرغم خصوصية زمن محمد علي.. فإن تحقيق هذه الرؤية المتقدمة في بناء دولة تم علي يد حاكم ديكتاتوري يؤمن بنظرية «الفرد».. فهل يستوي الأمر؟!
ـ د. زويل لا يختلف كثيراً معي في هذه النقطة.. فهو يؤمن بأهمية الديمقراطية في بناء الأمم.. ولكنه يدلف إلي هذه المنطقة من مساحة أخري: لا أستطيع القول إن محمد علي كان حاكماً ديمقراطياً.. غير أنني أري أن الأفضل للشعوب دائما: إما أن يكون لديها نظام ديمقراطي يستلهم أفضل مالدي المواطن من إبداع وقدرات خاصة، ويبني المؤسسات، ويربي القيادات.. أو أن يكون لديها ديكتاتور عنده رؤية..
قاطعته: هل تقصد الديكتاتور العادل؟!
قال: لا وجود لما يسمي «الديكتاتور العادل».. ربما لأن العدل نفسه قيمة نسبية وليست مطلقة.. وربما لأنه يصعب ائتمان شخص واحد علي فضيلة العدل لأنه ببساطة بشر.. وربما لأن العدل يحتاج دائماً إلي مؤسسات ترسخه وترعاه وتحميه أيضاً من «شطحات الحاكم».. ولكنني أقصد «الديكتاتور ذا الرؤية».. تماماً مثل مهاتير محمد.. فقد كان ديكتاتوراً..
ولكنه صاحب رؤية، وكانت رؤيته تتلخص في التالي: ماليزيا دولة فقيرة ومتخلفة عن ركب الحضارة.. والمواطن الماليزي يعيش علي «الأرز» والبلد بلا مؤسسات.. والمطلوب أن تتحول ماليزيا إلي دولة عصرية عبر بناء المؤسسات، واحترام القوانين، ومنح المواطن فرصة وحرية في التحرك، وتحقيق «الاكتفاء الذاتي»، وتحرير الاقتصاد، كل ذلك بينما النظام الحاكم ليس ديمقراطياً.
كذلك الصين.. فهي دولة غير ديمقراطية، ولكنها تمتلك رؤية تعتمد علي محورين: الأول توظيف الإمكانات المتاحة سواء البشرية أو الطبيعية.. والثاني: مفهوم عصري لنظام اقتصادي يتناسب مع طبيعة البلد سواء سياسياً أو بشرياً.
ماليزيا والصين نجحتا في التحدي.. وكذلك أيرلندا رغم أنها تنتمي لنمط آخر وهو النظام الديمقراطي، فهي دولة صغيرة قوامها ٤ ملايين نسمة، والديمقراطية في أيرلندا لم تفرز حياة حرة فقط وإنما أفرزت - وهذا هو الأهم - نظاماً تعليمياً ورؤية سياسية واضحة للأمة.. وبهذه الصيغة جعلت دخل الفرد فيها من أعلي الدخول في أوروبا كلها.
مصر واليابان
كلام زويل أشعرني بأسي علي الفرص الضائعة.. إذ تأكدت الآن أن الإبداع الحقيقي لمصر علي مدي قرنين من الزمان كان في إضاعة الفرص.. وهكذا.. قفز إلي ذهني السؤال الأهم: لماذا توقف «خط الزمن» عند نقطة «محمد علي»..؟!
غادر زويل ماليزيا والصين وأيرلندا.. وحط مرة أخري في «مصر».. وقال: بعد محمد علي حدث شيء مهم.. مصر أصبحت دولة زراعية متقدمة.. عادت البعثات وفي جعبتها حركة ثقافية وفكرية رائعة.. وبدا الأمر وكأن مصر علي أعتاب الانطلاق.. وأذكر أنني قرأت في أحد الكتب أن بريطانيا استطلعت آراء مجموعة من الخبراء حول سؤال مهم: «مصر واليابان.. من في اعتقادكم يستطيع الصعود إلي الخريطة العالمية؟!» كان الإجماع علي مصر.. والسبب هو النهضة التي وضع أسسها محمد علي.
أضاف العالم الكبير: دعنا نلقي نظرة علي المؤسسات التي ظهرت في مصر في نهاية القرن ١٩ وبداية القرن العشرين.. ودعنا أيضاً نقف عند محطات الإبداع.. سنأخذ ثلاث مؤسسات علي سبيل المثال: جامعة القاهرة «١٩٠٦».. النادي الأهلي «١٩٠٧».. ثم بناء سد أسوان.. وهي تعبير واضح عن مجتمع يتجه إلي الاحتفاء بالمؤسسات، ومن رحم البعثات والمؤسسات معاً ظهر العلماء والمفكرون والمثقفون: د. مصطفي مشرفة، ود. علي إبراهيم في الطب، والدكتور طه حسين في اللغة العربية،
وتوفيق الحكيم والعقاد ومحفوظ وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم في الأدب، وعبدالوهاب وأم كلثوم وسيد درويش في الفن.. هؤلاء جميعاً خضعوا لمرحلة التكوين في عصر النهضة والمؤسسات والانفتاح علي العالم حتي بداية عهد الثورة، ناهيك عن جيل السياسيين العمالقة أمثال مصطفي النحاس وفكري مكرم عبيد.
نوايا الرئيس
لم يقل لي زويل حتي الآن: ماذا حدث؟! .. لذا فقد توقفت عند عبارة «حتي بداية عهد الثورة».. وسألته عن رأيه فيما حدث بعد «الثورة».
قال زويل: الثورة صنعت نقلة ثانية في «خط الزمن».. نقلة في الفكر والسياسة والفن.. وهي بالطبع كانت بالنسبة لجيلي حلماً كبيراً.. إذ كان لدينا شعور بالفخر ونحن نؤمم قناة السويس ونبني السد العالي وننتقل بمصر من قوة زراعية إلي قلعة صناعية.. وبصراحة عبدالناصر منحنا الأمل.. ولكن المشكلة أننا كنا نخطو ونسير ونحاول القفز دون وجود روح..
وأقصد بـ«الروح» هنا النظام الديمقراطي، فنحن لم نضع النظام السياسي الديمقراطي الذي يتماشي مع ما يحدث من تطورات، ويضمن لنا الحفاظ علي هذه الإنجازات وتعظيمها، إذن فالمشكلة لدينا كانت عدم وجود نظام سياسي واضح.. وهذا كان بداية العصر الذي نعيشه الآن.
قلت له: هذا الطرح يعني أن نهضة محمد علي لم تكتمل.. وأيضاً الحلم والأمل الكبير في الانطلاق مع الثورة لم يحدث أيضاً.. فهل كان ينقص الضباط الأحرار أن تتزامن رؤيتهم الصناعية مع التجربة الديمقراطية.. أم أنهم افتقدوا «الرؤية» من الأساس؟
قال أعتقد أن نوايا الرئيس جمال عبدالناصر كانت وطنية.. فالرجل لم يسرق ولم ينهب، ولم تكن له أطماع في أن يبني قلاعاً شخصية.. ولكنه في الوقت ذاته لم تكن لديه الحنكة السياسية في «ماهية الديمقراطية».. وأعتقد أيضاً أن الرئيس - أي رئيس - تكون لديه نوايا حسنة أحيانا، ولكن ما يحدث أن الدوائر التي «تتشكل» من حوله تصبح هي المشكلة.. فهذه الدوائر تكون لها أطماع ومصالح خاصة فتعزل الرئيس، وفي فترة الرئيس عبدالناصر حدث أن هذه الدوائر تزايدت أكثر وأكثر مع مرور الزمن..
وفي اعتقادي أن الرئيس عبدالناصر كان مخلصاً ووطنياً ونفسه يعمل حاجة، ولكن هناك عوامل لم تساعده: احتمال أنه لم يكن لديه الخبرة.. أو أن الدوائر التي حوله دافعت عن مكاسبها وأطماعها، وبالتالي لم يستطع التحرك في إطار منظومة، وكذلك لم يتمكن من اكتساب معارف مهمة.. ولنأخذ مثلاً الرؤساء في الولايات المتحدة الأمريكية..
فكثير منهم يصلون إلي مقعد الرئيس دون أن يمتلكوا الحنكة السياسية الكافية، ولكن المؤسسات المحيطة بالرئيس تحاول أن تعلمه، وأنا أعرف تمامًا أن هناك خبراء في البيت الأبيض مهمتهم الأولي هي تعليم الرؤساء أشياء لا يعرفونها.. طبعًا هذا إلي جانب مؤسسات أخري تقوم بدورها مثل المحكمة العليا والكونجرس ورجال القضاء وأساتذة الجامعات والخبراء وغيرهم.. وللأسف فهذا لم يكن موجودًا في نظام جمال عبد الناصر.
«اخرس»
فهمت جيدًا ما يريد زويل قوله.. فلا أحد يولد رئيسًا.. ولا توجد جامعات لتخريج «الرؤساء».. ولا يمتلك شخص واحد علي ظهر الأرض القدرة علي الحكم بمفرده.. لأنه ببساطة شديدة لا يوجد شخص يمتلك ناصية الحكمة والعدل والبصيرة حتي يقرر مصائر العباد.. لذا كان طبيعيا أن أسأله: وهل هناك بين الحكام العرب من يقبل أن يعلمه الخبراء بعد جلوسه علي كرسي الحكم؟!
- صمت قليلاً.. ثم استطرد: هذا جزء من التعليم.. أي أنه يدخل في تكوين الفرد منذ نشأته.. بمعني آخر هل تسمح أنت لابنك أن يقول رأيه أم أنك تقول له دائمًا «اخرس».. فالحوار هو القيمة الأهم سواء في البيت أو المدرسة أو المؤسسات الجامعية أو مؤسسة الحكم.. المشكلة أن لدينا ثقافة ضد الاختلاف في الرأي.. فأنت عندما تختلف معي فأنت حتمًا ضدي، وللأسف فنحن نري ذلك- أيضًا- في الصحافة.. ففي حياتنا بالكامل يتحول الاختلاف في الرأي إلي خلاف شخصي.
وهل يمكن النظر إلي ذلك باعتباره العائق الأساسي أمام الديمقراطية في مصر.. خاصة مع وجود فكرة أو نظرية الحاكم الفرد الذي لا يؤمن بحق المعارضة ولا بحق المواطن في الاختلاف معه والتعبير عن رأيه المختلف؟
- أقول لك بكل أمانة إن هناك فرقاً كبيراً بين الحوار المتحضر والضوضاء والعشوائية.. فما أعرفه أن كل مواطن من حقه أن يقول رأيه.. ولكن أن يأتي أي شخص في أي مؤسسة ويقول: «قولوا ما تريدون وأنا مش هاسمعكم» فهذا لا يفيد البلد، ويفرز أمراضًا خطيرة في المجتمع، لأن ذلك يؤدي إلي أن كل فرد يتكلم في الدائرة «بتاعته»، وكل واحد يشتم في الدائرة بتاعته، ثم تلقائيا تهبط لغة الحوار في المجتمع، لأنك تتكلم في منطقة غضب شديد لأن لا أحد يسمعك.. فاللسان يقول لك «هناك ديمقراطية» والأذن تقول لك «لا أحد يسمعك».. والمنطق يقول إنني لابد أن أسمعك وأتحاور معك لأخرج برؤية متكاملة من أجل البلد.
مزاعم
ويري د. زويل أن مصر تعيش حالة ضوضاء وعشوائية.. وأن الصحافة المصرية هي أبلغ تعبير عن هذه الحالة، فهي تعكس الوضع.. إذ تكتب بلغة تذمر وليس لغة حوار، والسبب أنها يقال لها بشكل غير مباشر «قولوا اللي إنتم عايزين تقولوه ولن نسمعكم ولن نلتفت إليكم» وهو ما يؤدي إلي المزيد من التذمر والاحتقان والصراخ.. وتنحدرلغة الحوار أكثر وأكثر.
- قاطعته متعمدًا: ثمة رأي يري أن مصر غير قادرة أو غير مؤهلة للديمقراطية..
- لم أكمل العبارة حتي قاطعني هو الآخر قائلاً:
أي واحد يقول هذا الكلام يعبر عن عدم رؤية وعدم دراية بتاريخ مصر.. لأنه بالنظر إلي تاريخ البلد ورموزه وعطائه علي المستوي الحضاري في العالم يثبت عدم صحة هذا الادعاء.. تمامًا مثلما لا أصدق من يقول أن مصر بلد فقير و«غلبان» وصعب جدًا أن تطبق فيه الديمقراطية.. فمصر أكبر دولة عربية، وهي غنية بثرواتها الإنسانية، كذلك من يقول أن مصر لا توجد بها «فلوس» يبقي ما يعرفش اللي أنا أعرفه.. أنا المصري اللي عايش بره ومهموم بالبلد أعرف بالضبط المليارات الموجودة في مصر وخارج مصر.. فالبلد عندما تريد بناء مشروع بمليارات تنفذه علي الفور.. وهذه المليارات موجودة و«موجهة إلي مناطق معينة».
كذلك من يقول لي أن مصر غير قادرة بشريا عكس ما نري في ماليزيا والصين وكوريا الجنوبية أقول له هذا الكلام غير صحيح.
أيضًا من يقول إن مصر بما وصلت إليه من حال لا يمكن إصلاحها أختلف معه تماماً.. فهناك دول وصلت إلي حال أسوأ مما وصلنا إليه في مصر، ومع ذلك نهضت وحققت قفزات، وأصبحت تنافس الدول الكبري.. ولست بحاجة إلي ذكرها مرة أخري: ماليزيا - كوريا الجنوبية - اليابان... وغيرها.
رؤية
قطع د. أحمد زويل شوطاً مهماً في تشريح المشهد المصري، استناداً إلي نظرية «خط الزمن».. لذا كان لابد أن أسأله عن رؤيته لإصلاح ما هو قائم، لاسيما أنني أؤمن بنظرية «الهدم والبناء».. أي أننا ونحن نرفض الأوضاع القائمة، يجب أن نقدم رؤية بديلة للخروج من هذا الواقع.. ولأنه يمتلك عقل العالم والمفكر فقد بدا جاهزاً للسؤال:
- نحن نحتاج إلي فكر جديد في إدارة مصر.. وفي تصوري أن هذا الفكر يستند إلي أربعة أركان:
الركن الأول هو الدستور، باعتباره الركن السياسي، فلابد أن يشعر كل مواطن مصري أن الدستور شديد الوضوح في تنظيم
العلاقات، وأنه يضمن للبلد نهضة حضارية، بحيث لا يكون الدستور، مكرساً لخدمة مصالح «الدوائر» التي ذكرناها أو أفراد بعينهم..
والركن الثاني هو احترام القانون.. فالقوانين في مصر ممتازة جداً، ولكن الكثير منها لا يطبق، كما أن أي شخص له مصالح محددة يستطيع التحايل عليها، واحترام القانون يعني ضرورة تطبيقه علي الجميع من رئيس الجمهورية حتي المواطن البسيط.
الركن الثالث هو النظام التعليمي..
فالثابت أن مصر لن تحقق أي نقلة، إلا إذا كان لديها نظام تعليمي متكامل، يستثمر العقل المصري ويكرم الإبداع ويحترمه.. وهذا الركن يرتبط بالركن الثاني، وهو احترام القانون، بمعني أنني لا أستطيع إنشاء مدرسة أو جامعة لـ«ألعب فيها» وأجمع الفلوس.. فالمؤسسات التعليمية يجب أن تظل غير قابلة للربح، لأنها تخضع لأهداف الأمة كلها..
ولابد أن يكون للتعليم المصري فلسفة واضحة من الحضانة إلي الجامعة، ويجب أيضاً التخلي عن فكرة أن كل مواطن في مصر لابد أن يتخرج في الجامعة، لأن ذلك يأتي علي حساب العمل الفني والمهني، فالمعاهد الفنية في الدول المتقدمة هي التي تخرج للمجتمع صفوة الفنيين، بحيث يعمل في المصانع الإنتاجية فنيون مؤهلون،
ولست بحاجة طبعاً إلي القول بأن صياغة فلسفة جديدة للتعليم المصري، تتطلب إعادة النظر في مسألة «مجانية التعليم»، لأن وضع مصر في المشهد العالمي الراهن، يقتضي أن نتخلي عن فكرة منح كل المواطنين تعليماً متواضعاً، وأن يتحمل المواطن فاتورة الدروس الخصوصية، التي تفسد الطالب،
وتجعله صاحب عقل مشوش، فما أريد قوله إن مجانية التعليم يجب أن تعود إلي أصلها وهي «مجانية التفوق»، فالطلاب المتفوقون ترعاهم الحكومة.. فالمدهش أن تري طلاباً يذهبون إلي جامعة القاهرة في سيارات مرسيدس، ويدفعون مصاريف ٥٠ جنيهاً ويرسبون عاماً وراء عام، والحكومة تمول هذا الفشل للأثرياء، وتترك المتفوقين دون رعاية.
فالثابت أن مصر لن تحقق أي نقلة، إلا إذا كان لديها نظام تعليمي متكامل، يستثمر العقل المصري ويكرم الإبداع ويحترمه.. وهذا الركن يرتبط بالركن الثاني، وهو احترام القانون، بمعني أنني لا أستطيع إنشاء مدرسة أو جامعة لـ«ألعب فيها» وأجمع الفلوس.. فالمؤسسات التعليمية يجب أن تظل غير قابلة للربح، لأنها تخضع لأهداف الأمة كلها..
ولابد أن يكون للتعليم المصري فلسفة واضحة من الحضانة إلي الجامعة، ويجب أيضاً التخلي عن فكرة أن كل مواطن في مصر لابد أن يتخرج في الجامعة، لأن ذلك يأتي علي حساب العمل الفني والمهني، فالمعاهد الفنية في الدول المتقدمة هي التي تخرج للمجتمع صفوة الفنيين، بحيث يعمل في المصانع الإنتاجية فنيون مؤهلون،
ولست بحاجة طبعاً إلي القول بأن صياغة فلسفة جديدة للتعليم المصري، تتطلب إعادة النظر في مسألة «مجانية التعليم»، لأن وضع مصر في المشهد العالمي الراهن، يقتضي أن نتخلي عن فكرة منح كل المواطنين تعليماً متواضعاً، وأن يتحمل المواطن فاتورة الدروس الخصوصية، التي تفسد الطالب،
وتجعله صاحب عقل مشوش، فما أريد قوله إن مجانية التعليم يجب أن تعود إلي أصلها وهي «مجانية التفوق»، فالطلاب المتفوقون ترعاهم الحكومة.. فالمدهش أن تري طلاباً يذهبون إلي جامعة القاهرة في سيارات مرسيدس، ويدفعون مصاريف ٥٠ جنيهاً ويرسبون عاماً وراء عام، والحكومة تمول هذا الفشل للأثرياء، وتترك المتفوقين دون رعاية.
وربما تستغرب إذا قلت إن
الركن الرابع في الإصلاح هو الإعلام.. فالأسرة المصرية الآن منهكة في العمل، والسعي وراء الرزق، لذلك فالإعلام هو الذي يربي أبناءنا، وهو قوة خارقة، وأنت تستطيع أن تمنح العقل المصري إعلاماً يعتمد علي المسلسلات الهابطة والفيديو كليب الراقص والبرامج السياسية المواجهة، أو تمنحه إعلاماً، وفق منظومة ليبرالية ثقافية تغرس بداخله العمق في التفكير والقدرة علي الحوار والاختلاف.
ويضيف د. زويل: الإعلام الجيد يمكن صياغته عبر الكفاءات والعقول القادرة علي التواصل مع المواطن بصدق وموضوعية، أي أهل الخبرة، لا عن طريق «المسؤولين» وأهل الثقة، وفي رأيي أن الإعلام القوي يفرز دولة قوية.
ويضيف د. زويل: الإعلام الجيد يمكن صياغته عبر الكفاءات والعقول القادرة علي التواصل مع المواطن بصدق وموضوعية، أي أهل الخبرة، لا عن طريق «المسؤولين» وأهل الثقة، وفي رأيي أن الإعلام القوي يفرز دولة قوية.
.. أسأله: هل الإعلام القوي يمكن أن يتحقق في ظل ملكية وسيطرة الحكومة علي وسائل الإعلام؟
- يجيب: لا.. وبكل أمانة لابد من التطور.. ولابد من وجود مؤسسات صحفية محترمة، بحيث لا تعتمد علي لغة «الشتائم» والإسفاف.. فإذا تحدث زويل بصراحة شتموه، بينما يجب أن يصبح الهدف الأساسي للمؤسسات الصحفية والإعلامية هو خدمة البلد،
وأن تكون راعية للعلاقة بين السلطة والشعب، فإذا ظلم أحدهما الآخر كان الإعلام هو الفيصل.. تماماً مثل «النيويورك تايمز» و«الإندبندنت»، فهي صحف ترعي وتحمي الدولة والمواطن والنظام نفسه.
.. كيف تحمي النظام الحاكم؟
- تحمي النظام إذا كان ديمقراطياً.. تحميه إذا احترم القانون واحترم الشعب.
حوار مجدى الجلاد ١٤/٤/٢٠٠٧
عن المصرى اليوم
No comments:
Post a Comment